بيروت- "شبكة إيرين"
تحكي الملصقات المنتشرة في جميع أرجاء مدينة حلب، العاصمة التجارية لسوريا، قصة
مجتمع كان حتى وقت قريب لا يكاد يُسمع له صوت في أحداث العنف التي شهدتها البلاد
خلال العام الماضي.
وتقول
الملصقات أن معارضة الانتفاضة لا تعني دعم نظام الحكم.
ويشبه
هذا الاعتراض مثيله الذي ظهر في العاصمة دمشق في شهر يوليو الماضي، عندما غطى
المسيحيون، الذين لم ينضموا إلى حركة الاحتجاج بشكل جماعي حتى الآن، الجدران في حي
باب توما بملصقات تندد باحتفالات الجمعة التي نظمها الموالون للنظام، والتي جرت
بينما كان رجال الأمن والمدنيون يقتلون.
ويبدو
أن الاحتجاجات السلمية التي بدأت في مارس 2011 ضد الرئيس السوري بشار الأسد قد تحولت
على نحو متزايد إلى تمرد مسلح.
ويعارض
العديد من السوريين، بما في ذلك المنشقين، الانتفاضة التي توشك أن تكمل عامها
الأول ليس لأنهم يدعمون الأسد، الذي يتهمه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق
الإنسان بارتكاب جرائم محتملة ضد الانسانية أثناء قمع المتظاهرين، ولكن لأنهم
يخشون على مستقبل بلادهم دونه.
ويصف
الموالون الانتفاضة بأنها أزمة أو مرحلة صعبة يتعين على الحكومة التغلب عليها في
نهاية المطاف.
وبينما
ينقلب المجتمع الدولي على نحو متزايد ضد بشار الأسد، يقول محللون أن نسبة ثابتة من
السوريين تتبنى موقفاً منفصلاً، إن لم يكن معادياً، تجاه "المعارضة".
وتتراوح
أسبابهم بين الرغبة في الاستقرار، بغض النظر عن التطبيق السلطوي لهذا الاستقرار،
إلى الاعتقاد بأن بعض عناصر المعارضة عنيفة وراديكالية في جوهرها.
وفي
الوقت نفسه، ترى الأقليات العرقية الانتفاضة من خلال عدسة البقاء على قيد الحياة،
التي تعززها روايات النظام وبعض الحسابات الشخصية. ولقد أدى هذا إلى مزيد من
الاستقطاب في تفسير الأحداث، وقلل من إمكانية حدوث أية مصالحة.
عراق
آخر
من
خلال ردها العنيف على الانتفاضة، أطرت الحكومة السورية الوضع بالنسبة للسوريين
الممتنعين عن المشاركة في الاحتجاجات على أنه خيار بين الاستقرار والفوضى، و"المجهول"
الذي سيعقب انهيارها، كما يقول المحللون.
وفي
هذا السياق، قال عارف، وهو فنان يبلغ من العمر 26 عاماً من قرية في ضواحي مدينة
اللاذقية الساحلية وينتمي إلى الطائفة العلوية، وهي الأقلية التي ينتمي إليها
الأسد، "حتى لو كانت ثورة سلمية، فلن يقبل العلويون إسقاط النظام، لأن ذلك
سيؤدي إلى عواقب سلبية على جميع السوريين".
ويستدل
كثير من المسيحيين في سوريا على ذلك بقصص أكثر من مليون لاجئ عراقي - كثير منهم من
المسيحيين – الذين فروا إلى سوريا بعد أعمال العنف الطائفي في بلادهم.
وهو
ما علق عليه أسقف الكلدان في حلب هذا الشهر بقوله: "بدون حوار، سوف تصبح
سوريا عراقاً جديداً".
كما
أثارت تقارير حديثة حول قدوم تنظيم القاعدة ومختلف الجماعات الجهادية السنية من
العراق للانضمام إلى الكفاح المسلح ضد الأسد قلق مزيد من الأقليات السورية الذي
بدأ عدد من أفرادها يفر خوفاً مما قد تؤول إليه الأمور.
وكان
استطلاع الرأي الذي أجرته مناظرات الدوحة في منتصف ديسمبر الماضي قد توصل إلى أن 55
بالمائة من السوريين يريدون بقاء الأسد في السلطة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى
خوفهم على مستقبل البلاد. وقد شمل الاستطلاع 1,000 شخص، ينتمي 46 بالمائة منهم إلى
منطقة الشام.
الأقليات
ينتمي
نحو 11 بالمائة من سكان سوريا، بما في ذلك الأسرة الحاكمة، إلى الطائفة العلوية،
وهي فرع من المذهب الشيعي. وتحكم الأقلية العلوية البلاد التي ينتمي غالبية سكانها
إلى المذهب السني منذ عام 1970، عندما استولى حافظ الأسد، والد بشار الأسد، على
السلطة في انقلاب عسكري.
وقد
رفض معظم أفراد هذه الطائفة الاحتجاجات ووقفوا ضدها بسبب قلقهم حول مستقبلهم في
سوريا ما بعد الأسد.
حيث
أفادت فدوى، البالغة من العمر 27 عاماً وتنتمي إلى الطائفة العلوية وأكملت دراستها
الجامعية في الرياضيات، أن "العلويين عموماً يتذكرون عهد حافظ الأسد بشكل إيجابي،
ويرونه على أنه شخص جلب الاستقرار إلى بلاد تسودها الفوضى". وتشير كلماتها
إلى وجود استعداد لتقديم الاستقرار على حقوق الإنسان: فقد كان السوريون يتمتعون
بحريات أكبر في خمسينيات القرن الماضي "غير المستقرة"، قبل الاندماج مع
مصر لتكوين الجمهورية العربية المتحدة عام 1958.
ويعد
الاستقرار أمراً حاسماً أيضاً بالنسبة للمستفيدين بين الفئات المختلفة المرتبطة
بالنظام، كما هو واضح من ولاء البورجوازيين من السنة والمسيحيين في حلب ودمشق. فلطالما
كان ضمان دعم التجار في المناطق الحضرية سمة ثابتة من سمات الحكم البعثي، حتى
أثناء حكم حافظ الأسد، الذي تمكن من منع الطبقات التجارية الدمشقية من المشاركة في
الانتفاضة الإسلامية التي اندلعت في ثمانينيات القرن الماضي بالتعاون مع رئيس غرفة
تجارة دمشق، بدر الدين الشلاح.
ولكن
هناك دلائل على تراجع التأييد بين الطبقات المتوسطة العليا، بعد خروج المظاهرات
الحاشدة الأولى في حي المزة الدمشقي الغني في 18 فبراير. فبينما يتفاقم نقص الخبز
والوقود، وتنخفض الأصول المصرفية، وتتراجع السياحة ويتضاعف معدل التضخم، يتضرر
التجار السنة والمسيحيون على نحو متزايد في المناطق الحضرية.
مفهوم
العنف
ولكن
التصور واسع النطاق بأن المعارضة متطرفة وعنيفة لا يزال يثير قلق الكثيرين.
وتتألف
المعارضة من جماعات عديدة متباينة تشترك في نفس الهدف، ولكنها تسلك مناهج مختلفة. وما
يسمى بلجان التنسيق المحلية في سوريا هو عبارة عن مجموعات من الناشطين المرتبطين
معاً بشكل واسع النطاق، تقوم بتنظيم احتجاجات على الأرض.
أما
المجلس الوطني السوري فهو الجماعة السياسية المعارضة الرئيسية خارج سوريا، والجيش
السوري الحر عبارة عن مجموعة من المنشقين وغيرهم من المدنيين الذين يحملون السلاح.
وعلى الرغم من أن هذا التنظيم قد يبدو متماسكاً وهرمياً، إلا أن بعض المحللين يرون
أن أجزاءً كثيرة من المعارضة ليست كذلك، ولا يستبعدون احتمال أن يكون إرهابيون
أجانب يستغلون الاضطرابات، كما تزعم الحكومة.
حيث
يعتقد عارف، على سبيل المثال، أن الجيش السوري الحر هو مجرد عباءة لجماعات مسلحة
أخرى، وهذا مصدر القلق الذي أبرزه الفريق الدولي المعني بالأزمات في أحدث تقرير له
عن سوريا.
من
جهتها، أفادت أنيسة، وهي علوية تبلغ من العمر 26 عاماً، وتقيم في قرية بالقرب من مدينة
حماة، وحاصلة على درجة الماجستير في الاقتصاد، أنه "حتى لو كان العلويون
يؤمنون بالمطالب العادلة للثورة، إلا أنهم مرتبكون وخائفون بسبب الأحداث الدامية".
من
الصعب [على الموالين للنظام] تغيير موقفهم ... لأن هذه حرب وجود.. وأشارت فدوى،
خريجة الرياضيات، أن لها أصدقاء بدؤوا كمعارضين، ولكنهم غيروا موقفهم خوفاً من
اندلاع انتفاضة إسلامية.
وفي
حين حاول النظام تشويه سمعة معارضيه السلميين منذ بدء الاحتجاجات، يقول محللون أن
مصداقية حركة المعارضة في البداية وتصويرها نفسها على أنها سلمية تماماً - على
الرغم من لجوء بعض العناصر إلى العنف الواضح - قد تعرضت للتشويه أيضاً.
ويقول
العلويون، بما فيهم الأكثر ليبرالية، أنهم قلقون بشكل متزايد بشأن التصعيد الأخير
في الهجمات ضد القوات الحكومية، ويخشون من الانزلاق إلى صراع طائفي. حيث طالبت
فدوى مثلاً بضرورة "أن يحد الجيش السوري الحر من عملياته لحماية المتظاهرين
والامتناع عن مهاجمة الجيش لتفادي حدوث انقسام في الجيش على أساس طائفي".
الانقسام
الطائفي
ينتمي
غالبية المجندين في الجيش السوري إلى الطائفة السنية ولا يثقون بالضرورة في النخبة
الحاكمة. وحسب إبراهيم الحاج علي، وهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين من حلب وضابط
منشق عن الجيش لتنسيق التمرد المسلح، أنه يفضل أن يشجع عمليات الانشقاق في صفوف
الجنود السنيين الموثوق بهم على أن يشجعه بين "أعضاء الطائفة الحاكمة في
سوريا".
كما
ذكر الفريق الدولي المعني بالأزمات أن الجيش السوري الحر قام باعتقال جنود أمن
سوريين وأجبرهم على الاعتراف باستخدام العنف ضد المتظاهرين وتلقي أوامر بإطلاق
النار على أي شيء يتحرك. وأضاف الفريق أن "نشر الجيش السوري الحر لاعترافات
قسرية من قبل رجال أمن ألقى القبض عليهم وتظهر عليهم، في حالة واحدة على الأقل،
علامات تعذيب واضحة يعتبر بمثابة التحذير الأول".
ومن
جانبه، يصر الجيش السوري الحر على أن الجنود الذين يرفضون إطلاق النار على
متظاهرين عزل ينشقون بمحض إرادتهم.
ولكن
بشرى، وهي موظفة بنك تبلغ من العمر 28 عاماً من قرية المحروسة قرب مدينة حماة،
أشارت إلى أنها تعرف حالة قتل مسلحين لضابط أمن بعد إرغامه على إعلان انشقاقه عن
الجيش على شريط فيديو. ورغم صعوبة التحقق من قصتها، فإنها تعكس العديد من الروايات
الأخرى التي تروى في أوساط الموالين للحكومة.
تهديد
وجودي
وقد
أدت هذه القصص وغيرها إلى تصور أن المعارضة تعاني من طائفية عميقة. وترى بشرى، أنه
"إذا وقعت حرب أهلية، فلن يتم التفريق بين العلويين الموالين والمعارضين. لذا
فإن كلمة النظام هي الوحيدة القادرة على حمايتنا".
من
جهته، يرى عارف، أن المعارضة تسعى إلى شيطنة المجتمع العلوي، وتصويره على أنه كيان
لا يتجزأ من النظام، وعصابة فريدة من "الشبيحة" الموالين للحكومة:
"لقد نسوا مساهمتنا في تاريخ سوريا، والعديد من المفكرين التقدميين العلويين".
ويحتل
العلويون قمة لائحة الأقليات الدينية التي تربط استمرارها ببقاء النظام، بغض النظر
عن وجودها التاريخي في سوريا قبل وصول أسرة الأسد إلى السلطة بعدة قرون.
وقد
انتشرت نقاط التفتيش منذ أبريل 2011 في حي ستة وثمانين في دمشق، وهو معقل العلويين
وموطن لعدد كبير من أعضاء الطبقة الدنيا من الأجهزة الامنية. كما بدأت بعض الأسر
العلوية المقيمة بعدد من المراكز الحضرية بحلول الصيف تهاجر إلى مواطنها الأصلية
بالمناطق الريفية خوفاً على سلامتها.
وأوضح
عارف أن "بعض العلويين مقتنعون بأن السنيين الأصوليين سوف يحاصرونهم في نهاية
المطاف، وهم يستعدون لمواجهة هذا التهديد عن طريق تسليح أنفسهم".
كما
أشارت أنيسة، خريجة الاقتصاد، إلى أنه على الرغم من حقيقة الوضع الراهن، إلا أن
العلويين على استعداد للقتال من أجل الامتيازات الممنوحة "للحلقة الضيقة"
فقط. ذلك أن "العلويين العاملين في قوات الأمن والجيش هم في قاع المجتمع،
بينما أولئك الذين استفادوا من النظام يمكنهم أن يرسلوا أبنائهم للعمل أو الدراسة
في الخارج".
وأكد
الفريق الدولي المعني بالأزمات أنه في حالة وجود ثورة ناجحة، قد يفر العلويون
الذين شاركوا في قمع السنة بأعداد كبيرة إلى مناطقهم الجبلية. وأضافت أن هذا يمكن
أن يؤدي إلى هجمات انتقامية من قبل السنة، وليس فقط ضد من شارك في عمليات القمع،
ولكن أيضاً ضد المجتمعات التي لم يكن لها دور في هذه الأعمال، مما سيتسبب في تعميق
مخاطر النزاع الطائفي.
لغات
مختلفة
يقول
محللون أنه من خلال شيطنة كل طرف للآخر، بدأت المعارضة والموالاة تتحدثان لغتين
على طرفي نقيض. وأصبح العديد من العلويين يجهرون بثقتهم في أن النظام سوف يسود،
ربما للهرب من ما يرونه واقعاً مخيفاً.
وترى
بشرى أن "الحكومة سوف تنجو؛ ليس لدى العلويين شك في ذلك ... وسوف تتغلب على
الأزمة وتصبح أقوى من ذي قبل".
من
جهتها، قالت فدوى: "يعتقد معظم العلويين أن قناتي الجزيرة والعربية
الفضائيتين تضخمان من حجم الثورة". ولكن المراقبين يقولون أن العديد من
الموالين، ولا سيما العلويين، يفتقرون إلى نظرة موضوعية للمعارضة، كما تتأثر
آراؤهم بدعاية النظام بشكل مفرط.
ومع
ذلك، فإن الاستقطاب المتزايد في الروايات يعمق الانقسامات حول طرق الطوائف
المختلفة في سرد التاريخ. إذ يتذكر عارف مجزرة حماة عام 1982، والتي يقال أن
الحكومة قتلت خلالها ما لا يقل عن 10,000 شخص في وقت واحد لإطفاء شرارة التمرد
الإسلامي. وقد صبت نتيجة تلك المواجهة السياسية مع جماعة الإخوان المسلمين
الأصولية في صالح الحكومة، وذلك بفضل دعم كل من العلويين والسنة. كما يتذكر الحاج،
الضابط المنشق الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، أحداث حماة على أنها بداية كفاح
مستمر ضد النظام، مع فارق وحيد أنه في تلك الأوقات لم تكن هناك كاميرات لتسجيل
جرائم النظام.
ومع
ذلك، فإن الموالين للنظام الذين أجريت معهم مقابلات لإعداد هذا التقرير لم يلعبوا
أي دور في حملة القمع الحالية، واتخذوا خطوات لينأوا بأنفسهم عن النظام.
ويقبل
البعض منهم بإجراء انتخابات ديمقراطية في المستقبل القريب كوسيلة للخروج من الأزمة.
ويرى
عارف أنه "يجب تهميش الأصوليين في انتخابات نزيهة".
ولكن
على الرغم من استعدادهم لتصور سوريا بدون الأسد، إلا أن الموالين لا زالوا يشعرون
بالقلق من احتمال الإطاحة المفاجئة بالحكومة، ويصرون على تقديم المعارضة للمزيد من
ضمانات الاستقرار وقدر أكبر من الشفافية بشأن عملياتها المسلحة.
حيث
اشتكت رجاء، وهي مسيحية من دمشق تبلغ من العمر 26 عاماً وتتعاطف مع المعارضة بشكل
ضئيل للغاية، من أن المجلس الوطني السوري يركز على إسقاط النظام دون إعطاء أي نوع
من الضمانات حول مستقبل الأقليات، مضيفة أن "هناك الكثير من الشكوك "بشأن
المجلس الوطني السوري" ... تقتصر إعلاناته على رحيل النظام، ولكن... لا أحد
يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك".
وبسؤالها
عما يتطلبه الأمر لإقناع الموالين، أجابت قائلة: "لسوء الحظ، من الصعب تغيير
موقفهم.. لأنها حرب وجود".
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية