الجمعة، 20 ديسمبر 2019

عن الزوجة المصرية


 في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول، انتحرت سيدة في العقد الرابع من عمرها في محافظة المنوفية بدلتا نيل مصر، عبر تناول عقار قاتل، وكان السبب المعلن هو إصابتها بصدمة عقب علمها بأن زوجها المغترب تزوج من سيدة أخرى.
 جلست أفكر وقتها، كيف تقرر سيدة عاقلة الانتحار لأن زوجها تزوج عليها؟ لماذا لم تطالب بالطلاق الذي بات القانون يتيحه لها في حال رفضت أن تصبح زوجة ثانية؟ وما الفائدة من قتل نفسها؟ تذكرت أيضا وقائع سابقة قامت فيها زوجات بقتل الزوج انتقاما، ثم خطر ببالي أن لديها أطفالاً، وبدأ عقلي في استعراض التداعيات الاجتماعية والنفسية التي سيعيشونها بعد انتحار أمهم؟ وموقفهم من أبيهم؟ وهل سيعتبرونه متهماً، أم يلتمسون له العذر في الزواج من غير أمهم. قبل بضعة أيام طالبت السفارة المصرية في الدوحة، عبر صفحتها الرسمية في موقع "فيسبوك"، اثنين من أفراد الجالية المصرية المقيمين في قطر، بالحضور إلى مقرها لاستلام وثائق زواج، وهو إجراء طبيعي ومتكرر. لكن غير الطبيعي في الواقعة كان نشر صفحة السفارة الرسمية لأسماء الزوجتين وجنسيتيهما، والتي كشفت أنهما يحملان جنسية إحدى البلاد الآسيوية. كان يمكن أن تمر الواقعة دون اهتمام يذكر باعتبارها شأناً يهم اثنين من المغتربين، لكن التدوينة التي جرى حذفها لاحقاً، شهدت اهتماماً واسعاً، إذ بلغ عدد التعليقات عليها نحو ألفي تعليق، وهو أمر غير متكرر في أي تدوينة على صفحة السفارة التي تخدم نحو 200 ألف مصري في قطر. عدد كبير من التعليقات استنكر قيام السفارة بنشر معلومات شخصية لمواطنين عبر صفحتها الرسمية، وطالبها البعض باعتماد صيغة تواصل بديلة، وربما كان هذا سبب حذف التدوينة عقب ما أحدثته من صخب، كما اعتبر بعض المعلقين ما فعلته السفارة فضيحة للشخصين، على اعتبار أنها كشفت أمر زواجهما في حين يمكن أن يكون أحدهما، أو كلاهما، متزوجاً في بلده، ولا تعلم زوجته عن زواجه الجديد. واعتمدت بعض التعليقات هذه الفرضية، وقام أصحابها، بعضهم ساخراً والبعض بجدية، بتحريض الزوجتين المصريتين على معاقبة الرجلين، وغالبية هؤلاء بطبيعة الحال كن من السيدات، في حين لجأ كثير من الرجال إلى صيغ الرثاء للزوجين، مذكرين بوقائع قتل زوجات مصريات لأزواجهن لنفس السبب. ولم يغب عن التعليقات عدد من الألفاظ العنصرية، وأشكال من التمييز ضد الزوجتين الآسيويتين، كما اتهمهما البعض بخطف الرجلين من عائلتيهما. وبرز جدال واسع بين المعلقين الذين عدّد بعضهم مزايا الزوجة المصرية المخلصة المتفانية، ليتهمها آخرون بأنها كسول ونكدية.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 24 نوفمبر 2019

عن شباب العائلة



عندما تفرض عليك الظروف الابتعاد عن العائلة لفترات طويلة، فإنك تكتشف بعد فترة عدم قدرتك على فهم تصرفات أفراد من عائلتك، وتفسير هذا قد يكون مرده إلى تغير طريقة تفكيرك، أو تغير طريقة تفكير، أو أعمار أفراد العائلة، وعادة كلاهما معاً. لن يكون هذا غريباً في حال كنت تناقش مشكلة شخص آخر، أو تقرأ تجربته الشخصية، لكن عندما يكون الأمر خاصاً بك، وبعائلتك، فلا شك أن تفسيراتك للأمر ستكون مختلفة، وربما تفشل في فهم المشاعر المتباينة التي ستنتابك، والتي قد تشمل الحيرة أو الحزن وربما الغضب. أتواصل عبر مجموعة مغلقة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مع نحو عشرين شخصاً من عائلتي، وأفراد المجموعة العائلية من الجنسين، تتباين أعمارهم واهتماماتهم وثقافتهم، فمنهم من يدرس بالمرحلة الابتدائية، ومراهقون ومراهقات، وشباب وشابات، وأولياء أمورهم من أشقائي وأبناء عمومتي. تأسست المجموعة في الأصل لتبادل الأخبار الشخصية، والصور، والمعلومات عن العائلة، وهي مكان لتبادل التهاني في المناسبات، والمحافظة على الروابط العائلية، خصوصاً بالنسبة للجيل الأصغر الذي لا يملك نفس الأجواء الحميمية التي كان يتمتع بها الجيل الأكبر لأسباب بينها انشغال الكبار الذي لا يسمح لهم بأن يقابلوا بعضهم كثيراً، والمسافات التي تفصل بين أفراد العائلة بعد أن بات لكل منهم عائلته الخاصة، فضلاً عن مواقع التواصل التي باتت سبباً لقلة اللقاءات المباشرة. الأفراد الأصغر سناً في المجموعة هم الأكثر تفاعلاً، وهم أيضا الأكثر انفتاحاً، وصراحة، في حين يحجم آباؤهم وأمهاتهم عن الإسهاب في كتابة آرائهم أو أفكارهم خشية أن يتصيدهم أبناؤهم، كما أن التواصل الإلكتروني لا يغريهم كثيراً. ينصب اهتمام الكبار في الأغلب على محاولات تصويب أفكار الصغار، وأحياناً تهديدهم، وفي أحيان أخرى تقريعهم، وهي ممارسات أحرص على التصدي لها، وتحريض الجيل الأصغر على مقاومتها، ومطالبة الأهل بعدم استخدامها مع الأبناء. ينزعج الكبار دوماً من أسلوبي، لكن هذا لا يجعلني أحجم عن الدفاع عن حقوق الصغار، وحريتهم في التعبير. لطالما كانت طريقة تفكيري مختلفة عن أشقائي وأبناء عمومتي، ولطالما كانت علاقتي بمواقع التواصل والتقنية متطورة عنهم؛ ربما لأسباب تتعلق بطبيعة عملي، وأسفاري المتكررة، وتواصلي مع أشخاص من جنسيات وخلفيات حضارية وثقافية متباينة. لكن الأبرز في التجربة العائلية هو ما أتعلمه يومياً من هؤلاء الأطفال والشباب، من الجنسين، والذين أتيح لهم ما لم يتح للجيل الأكبر من تطور تقني يصبغ طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 9 نوفمبر 2019

على هامش أزمة الشعراوي



مات الشيخ محمد متولي الشعراوي قبل أكثر من عشرين سنة (1911 - 1998)، ورغم ذلك يتجدد ويتكرر الجدل حول تصريحاته وميراثه الديني والدعوي لأسباب متباينة أغلبها له علاقة برغبة السلطات في مصر في فتح مجالات نقاش هامشية تشغل الناس عن مشكلاتهم اليومية الحقيقية.
بداية، لست من "دراويش" الشيخ الشعراوي، ودراويش الشخص حسب المعنى الرائج هم تلك الفئة من الناس التي تدافع عنه بلا عقل أو تعقل، حتى إن بعضهم يعتبر كل إيجابياته أقرب إلى المعجزات، وكل سلبياته مجرد محاولات من الآخرين للانتقاص منه، متجاهلين كونه بشراً يصيب ويخطئ.
في الأصل؛ يجب أن يكون الفارق واضحاً بين الانتقاد المتاح لكل الناس ضمن حرية الرأي والتعبير، وبين الاتهام العلمي الذي لا يجوز إلا لذوي الاختصاص. من حق كل شخص أن ينتقد أسلوب الشيخ الشعراوي الدعوي، أو حتى يرفضه، باعتبار أنه لا يعجبه، أو لا يناسبه، فقد اعتمد الشيخ الراحل أسلوباً قريباً بالأساس من أنصاف المتعلمين وغير المتعلمين، وكان هذا اختياراً موفقاً، إذ إن المجتمع الذي كان يستهدفه بخطابه يضم الملايين من هؤلاء.
لكن هذا المجتمع نفسه يضم عشرات الآلاف من المتعلمين، ومئات الآلاف ممن يظنون أنفسهم متعلمين أيضاً، وهؤلاء لا يناسب كثير منهم الأسلوب الشعبي للشعراوي، فهم يرون أنفسهم في منزلة أعلى من العامة، ومنهم من يعتبر أن هذا الأسلوب انتقاص من القدرات العلمية والثقافية المتخيلة للمجتمع. كل هذا مقبول ومتاح، لكن الأمر مختلف تماماً عندما نتطرق إلى الاتهام المباشر الموجه إلى المحتوى العلمي، إذ علينا وقتها أن نترك المجال للمتخصصين، فليس هذا من شؤون العامة.
إحدى مشاكلنا عربياً يتمثل في غياب الدراسات العلمية المتخصصة، فتجد طبيباً يتحدث كمتخصص في التاريخ، أو مهندساً يتناول نظريات الفلسفة، وكثيرين يتكلمون في الدين والسياسة والاقتصاد كأنهم متخصصون؛ رغم أن كل ما يعرفونه لا يتعدى الثقافة العامة، أو الانطباعات التي لا يمكن وفقها بناء رأي علمي. تغيب ‏في بلادنا ثقافة المتخصص الذي يتصدى لدراسة الموضوعات، أو الشخصيات، عن طريق الاستفاضة في سرد المعلومات والمشكلات، والإيجابيات والسلبيات، بحياد وتجرد، ووفق منهج علمي، ثم يترك الحكم للقراء. ولهذا السبب يظل كثير من الموضوعات التي تشغل مجتمعاتنا بلا تأصيل واضح، وتدور المناقشات فيها عادة حول الهوامش وليس الوقائع، فتنتشر الأكاذيب والأهواء.
وهذا السبب نفسه، يجعلنا نعاني من غياب حلول عملية معتمدة على مشاركة المجتمع بعد أن تم تغييبه عن قصد، مما يتيح للسلطة الحاكمة فعل ما يحلو لها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 20 أكتوبر 2019

مكافحة الفشل



 تستخدم الأنظمة العربية نفس أساليب القمع والاستبداد للحفاظ على بقائها في السلطة رغم فشلها الواضح. لا شك في أن الأنظمة تدرس الأحداث، وتتعلم منها، وكثيراً ما تغير من أساليبها لتجاوز الأسباب التي تسببت في سقوط أنظمة مماثلة، أو أجبرتها على التفاعل إيجابياً على غير رغبتها مع مطالب الشعب. في المقابل، فإن الشعوب العربية تواصل المطالبة بحقوقها الأساسية متجاهلة القمع الذي تستخدمه الأنظمة، وبعض الشعوب تجاوزت كل الخطوط الحمراء التي حاولت الأنظمة لسنوات فرضها، والتي جعلت سقف المطالب لا يتجاوز العيش الكريم أو توفير فرص العمل، بدلاً من ديمقراطية كاملة تضمن تداولاً سلمياً للسلطة، وحرية رأي، ومكافحة الفساد، ومحاسبة السلطة الفاشلة. عندما انحسرت موجة الربيع العربي التي اشتعلت في 2011، ظن أنصار الثورة المضادة أن الشعوب لن تقوم لها قائمة مجدداً، خاصة بعد تنفيذ الانقلاب العسكري في مصر، وتحويل الثورة في سورية واليمن وليبيا إلى صراع دموي متواصل حتى الآن. لكن الشعوب أثبتت أنها ما زالت قادرة على المقاومة وعلى المطالبة بالتغيير، وتمكنت من إسقاط مزيد من المستبدين، فسقط عمر البشير في السودان، وسقط عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر. الأوضاع في السودان ليست واضحة المعالم بعد؛ لكن الشعب استرد القدرة على التعبير عن رأيه فيمن يحكمونه بعد عقود من القمع والبطش. والحراك في الجزائر متواصل منذ فبراير/ شباط حتى الآن، رغم كل محاولات السلطة العسكرية الحاكمة التلاعب بمطالبه، وفرض رئيس جديد يضمن لها مصالحها التي كان يحميها بوتفليقة لسنوات. وليست التظاهرات ذات المطالب الاجتماعية في الأردن ولبنان والعراق إلا مظهراً آخر من مظاهر الغضب الشعبي الكامن، والذي ينتظر شرارة تفجر ربيع عربي جديد يعتقد كثيرون أنه لن يكون مثل سابقه الذي تلاعبت به قوى إقليمية ودولية. لا يمكن في هذا السياق تجاهل التأثير الإيجابي لتنظيم تونس مؤخراً انتخابات رئاسية وبرلمانية، وما تمثله تلك الممارسة الديمقراطية من نموذج يرغب بقية العرب في تكراره داخل بلادهم، ولو من باب الغيرة من أشقائهم في تونس. الواقع أن النجاح التونسي يؤكد أن الشعوب العربية قادرة على تحمل كلفة الديمقراطية؛ على عكس محاولات الأنظمة الحاكمة لربط الحرية بالفوضى، أو تهديد الشعوب بانهيار الدول في حال واصلت المطالبة بإسقاط الأنظمة. وتؤكد الأحداث أن الشعوب ما زالت قادرة على تجاوز ألاعيب الأنظمة التي تقاوم التغيير، ومنطق الأمور يؤشر إلى أن أهداف الشعوب، وعلى رأسها الحرية، ستتحقق يوماً. عسى أن يكون قريباً.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 13 أكتوبر 2019

هل ستعطش مصر؟





 في كلمته الأخيرة بالأمم المتحدة، كشف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن فشل المفاوضات الثلاثية مع إثيوبيا والسودان حول "سد النهضة"، مؤكداً أن مصر أعربت عن تفهمها لمشروع بناء السد رغم عدم إجراء دراسات وافية حول آثاره، وخصوصاً ما يراعي عدم الإضرار بالمصالح المائية لدول المصب، ومنها مصر. بعدها بأيام، وفي خطابه بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر 1973، اتهم السيسي "ثورة يناير" بالمسؤولية عن مواصلة إثيوبيا بناء سد النهضة الذي يهدد نسبة كبيرة من حصة مصر من المياه، في حين أن السيسي هو من وقع في مارس/آذار 2015، اتفاقية المبادئ التي اعتبرت أول اعتراف مصري رسمي بالموافقة على بناء السد. وتنص الفقرة الختامية من اتفاق المبادئ على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا". ووفق حسن النوايا، طلب الرئيس المصري من رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، في مؤتمر صحافي مشترك في القاهرة، في يونيو/حزيران 2018، أن يقسم بأنه لن يتسبب في الإضرار بمصالح مصر فيما يخص حصتها من مياه نهر النيل. كرر أبي أحمد بلغة عربية ركيكة كلام السيسي الركيك أيضاً: "والله والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر"، ثم ضحك جميع الحاضرين، بل وصفق كثير منهم. بعد الواقعة، عبر كثير من خبراء المياه ودبلوماسيون وساسة عن صدمتهم من الطريقة التي يتم بها التعامل مع اتفاقية على هذا القدر من الأهمية، وأن يطلب من المسؤول الإثيوبي أن يقسم بأنه لن يتسبب في أية أضرار، بدلاً من توقيع اتفاق مكتوب يلزمه ويلزم بلاده بمصالح مصر، قبل أن تتحول الواقعة إلى مصدر للسخرية من السيسي ونظامه عموماً، ومن أسلوب القاهرة في إدارة أزمة سد النهضة على وجه الخصوص. في الثاني من أبريل/نيسان 2015، نظمت "اللجنة الشعبية للدفاع عن النيل" وقفات احتجاجية وسلاسل بشرية في القاهرة، ضد توقيع اتفاق مبادئ سد النهضة، والتي وصفوها بأنها "اتفاقية بيع النيل". لم تمنح السلطات الأمنية المصرية اللجنة الشعبية موافقة على تنظيم تلك الاحتجاجات، ما جعل كثيرين يحجمون عن المشاركة فيها خشية الاعتقال، إذ لا يسمح في مصر إلا بالتجمعات المؤيدة للنظام. في الأيام الأخيرة، بدأت وسائل الإعلام التي يديرها النظام، وحسابات عدد من المؤيدين في مواقع التواصل الاجتماعي، التلويح بعمل عسكري ضد إثيوبيا في حال لم تتراجع عن مشروع السد، مما أثار مزيداً من السخرية من أسلوب إدارة الملف، والذي بات كثيرون مقتنعين بأنه سيؤدي إلى تعرض مصر للعطش قريباً.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

تفاعل نشطاء مصر مع "انتفاضة سبتمبر"... قناعات ومخاوف وتهديدات




القاهرة ــ العربي الجديد
تباينت مواقف وآراء المصريين حول التظاهرات الأخيرة ضد النظام المصري، والتي تلت دعوات أطلقها المقاول المصري محمد علي بعد كشف وقائع فساد تورط فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعدد من قادة الجيش، وكانت مواقف عدد من النشطاء المعروفين المحسوبين على ثورة يناير من تجدد الاحتجاجات لافتة، إذ أيدها بعضهم في حين عارضها أخرون وحذر من تبعاتها فريق ثالث.
 واعتبر كثيرون حالة التباين في مواقف النشطاء تعبيرا عن اليأس الذي يعيشونه من إمكانية حدوث تغيير، وفي حين وجه البعض اتهامات شديدة لهؤلاء النشطاء المعارضين للتظاهرات أو المحذرين منها، طالب أخرون بالتماس العذر لهم بسبب سياسة القمع الشديدة التي يمارسها النظام.
وقال الناشط الحقوقي المصري طارق حسين لـ"العربي الجديد"، إنه اعتقل ثلاثة مرات سابقة في فترات مختلفة، وإن فكرة المشاركة في أي حراك سياسي، قولا أو فعلا، تعتمد بالأساس على القناعات الشخصية بجدواه، ومدى تأثيره في الوضع القائم، وأضاف أن "بعض النشطاء يحاولون جاهدين استعادة حياتهم الطبيعية قبل تحولهم إلى نشطاء معروفين، لكنهم يدركون أنهم واهمون، فالنظام القائم لا يترك فرصة لأحد، والجميع مهددون سواء سكتوا أو تكلموا. لكننا لسنا أمام ظاهرة منتشرة، فبعض الأشخاص خرجوا من السجون ليواصلوا الحديث عن الشأن العام، أو العمل الحقوقي أو السياسي، وأخرون قرروا الصمت، وليس الصمت بالضرورة تسليم بالأمر الواقع، أو موافقة علي ممارسات السلطة، وإنما هناك أسباب متعددة، بينها أن البعض غير مطمئن للنتائج، والمشكلة تكمن في من يتهمون المحتجين بالمسؤولية عن موجة الاعتقالات الأخيرة، فاللوم يقع دائما يقع على الجلاد، وليس على الضحية".
وأضاف حسين المقي حاليا خارج مصر: "أعتقد أن جميع من قرروا رفع الصوت يدركون عواقب اختيارهم، وبالتالي لا أعتقد أن ما يحصل سيدفعهم إلى السكوت، خصوصا بعد اعتقال أشخاص توقفوا نهائيا عن أي نشاط، وفي الجانب الأخر، فإن هؤلاء الذين قرروا اعتزال العمل بالسياسة، أو الإحجام عن التعبير عن رأيهم، قد يجدون أنفسهم مضطرون لرفع الصوت لأن السكوت لن يحميهم".
وقال ناشط سياسي طلب إخفاء هويته لأسباب أمنية كونه داخل مصر، إن "القبضة الأمنية أصعب من كل ما يمكن أن يتصوره أحد، وظهور محمد علي زادها، ففي 2013 و2014 كانت الأمور أكثر عقلانية، وكانت الضغوط الداخلية والخارجية شديدة، وكان هذا يسمح بنوع من التحرك الحذر، لكن غالبية التحركات أو المشاركات أو حتى التصريحات التي كان ممكنا فعلها في تلك الفترة غير ممكنة حاليا، وربما تؤدي إلى الاعتقال، وكل النشطاء المعروفين يدركون جيدا أنهم تحت المراقبة، وأن السلطة تتحين الفرصة لاعتقالهم، ولا فارق حاليا بين إسلامي أو يسارى أو غيره، وأي محاولة لاجتماع حتى لو بغرض تنظيمي يتم اعتبارها تهديد للسلطة، والرد عليه هو الاعتقال المباشر".
وأضاف لـ"العربي الجديد"، أن "القبضة الأمنية على الإنترنت غير مسبوقة، ومن الطبيعي أن يشعر الجميع بالخوف، فكلمات قليلة عبر مواقع التواصل يمكن أن تؤدي إلى سجن كاتبها، وفي حين أنه في أيام حسني مبارك كان الاعتقال يطول إلى 15 يوما أو شهرا على أقصى تقدير، فحاليا لو تم اعتقالك لا يمكن التنبؤ بموعد الإفراج عنك، وفى مثل هذه الظروف فالأمن الشخصي مهم، والأفضل الانتظار إلى حلول وقت التحرك الجماعي لأن التحرك الفردى مغامرة غير محسوبة النتائج".
وقال الناشط المصري عمار مطاوع إن هناك أسباب كثيرة لما يمكن اعتباره ظاهرة "صمت النشطاء"، ولتفسيرها ينبغي تقسيم النشطاء إلى صنفين، أولهم من غادروا إلى خارج مصر، وربما خارج الشرق الأوسط، وبالتالي أصبحوا بعيدا على المستوى النفسي وعلى مستوى التوقيت، موضحا أن "بعض هؤلاء المغتربين اختار الصمت لأنه منشغل بصراعاته الحياتية الخاصة التي فرضتها عليه الغربة، خصوصا هؤلاء الذين حصلوا على حق اللجوء، أو ينتظرون الحصول على إقامة البلد الذي غادروا إليه، لكن السبب الأكثر شيوعا هو اليأس من أن يكون لصوته أثر، أو وصوله إلى قناعة أن الصمت في أوقات عدم الفهم أفضل، وهذا ينطبق كثيرا على الوضع الحالي، فكثيرون لازال ظهور المقاول محمد علي غامضا بالنسبة لهم".
ولم ينف مطاوع المقيم خارج مصر، وجود مخاوف كبيرة لدى غالبية الصنف الثاني من النشطاء الذين لازالوا داخل مصر، "فبعضهم حاليا هارب في مكان منعزل أو محافظة هامشية، والبعض الأخر منعزل داخل منزله بعيدا عن كل رفاقه السابقين، وكل منهم لديه بواعث خوف مختلفة. بشكل عام، يمكن القول إن النظام نجح بشكل جزئي في قمع النشطاء، لكن في المقابل حدثت طفرة مهمة، إذ انتقل الغضب من النخبة والناشطين إلى العوام، وعلى ذلك فالخوف القائم ربما يكون خوفا وقتيا، ومع أول انتفاضة حقيقية سيستعيد النشطاء ثقتهم بأنفسهم مجددا".
ويرى الناشط الحقوقي المصري أحمد مفرح، أن "استهداف النظام للنشطاء السياسيين أو الحقوقيين هو رسالة مقصودة، خصوصا لمن لهم رصيد سياسي سابق، أو من لديهم علاقات مع دوائر دولية، فالنشطاء هم خط الدفاع الأول عن حقوق المجتمع، وقاموا خلال الفترة الماضية بالعديد من الأنشطة والفعاليات وأعمال المناصرة الحقوقية لإظهار الصورة الحقيقية للنظام، واعتقال بعض النشطاء والحقوقيين هدفه تخويف الباقين، فضلا عن رسائل التهديد المباشرة التي تصلهم أو تصل أسرهم، ولهذا بالتأكيد تأثير سلبي على آداء النشطاء".
ولا ينكر الناشط الحقوقي أن حملة الاعتقالات الأخيرة زادت من شعور الخوف القائم، لكنه يؤكد أن "أثرها الأسوأ يتمثل في قدرتها على تحجيم التحرك، وعلى فعالية المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، لكنها بالتأكيد لن تؤدي إلى القضاء على الحراك، فالجميع يدرك أن وصول القمع إلى فئات متعددة من المجتمع لا يمكن مواجهته إلا برفع الصوت".
وقال الناشط المصري صفوان محمد إنه لا يعتبر لجوء بعض النشطاء إلى الصمت، أو رفض تشجيع الناس على الاحتجاج ظاهرة جديدة على المشهد المصري، أو مشكلة ينبغي معالجتها، باعتبار أن لكل شخص ظروفه الخاصة، كما أن التنكيل واضح للجميع، وفجر النظام في الخصومة لا يحتاج إلى أدلة، مضيفا أن "دعوة بعض النشطاء المعروفين إلى عدم النزول إلى الشارع مقبولة باعتبارها نوع من اختلاف وجهات النظر، وغالبية هؤلاء يخشون أن يشارك الناس في الحراك فيتم اعتقالهم، وهناك نشطاء أخرين يدعمون الحراك، ولابد أن نعترف أن لكل فريق دوافع منطقية، فالنزول إلى الشارع حاليا يعتبره البعض جنون، لكن السكوت على الوضع الحالي أيضا جنون، وفي مثل هذه الظروف من حق كل شخص أن يختار ما يراه مناسبا".
وأوضح الناشط المقيم في أوروبا لـ"العربي الجديد": "يجب أن نفرق بين نشطاء الداخل الذين يحق لهم دعوة الناس إلى الاحتجاج، والنشطاء من الخارج الذين يواصلون تحريض الناس على التظاهر بينما هم لا يتعرضون لنفس المخاطر التي سيتعرض لها من يستجيبون لدعواتهم. لا شك أن القبضة الأمنية الحالية غير مسبوقة، لكن طالما أن هناك أشخاص يرفضون السكوت، وطالما لم يتم إنهاء ملف المعتقلين، فالأوضاع لن تستقر، وستظل هناك معارضة للنظام، والأمر ليس متعلقا بالنشطاء وحدهم، فالمعتقلين في الحراك الأخير غالبيتهم ليسو نشطاء ولا علاقة لهم بالأحزاب، وبينهم أشخاص يشاركون لأول مرة في تظاهرات، وهذا يؤكد أن الحراك مختلف، وله تأثير".
وقال ناشط مصري أخر طلب إخفاء هويته كونه داخل مصر، إن "التظاهرات الأخيرة تسببت في حالة من الإزعاج الشديد لعدد من النشطاء المعروفين، وبعضهم يخشى أن يتعرض بسببها لمزيد من التضييق، أو للاعتقال، ولذا فضلوا تجاهلها رغم أنهم متفقون مع مطالبها، كما وصل عدد أخر من الناشطين تهديدات مباشرة دفعتهم إلى إعلان رفضهم لتلك التظاهرات حتى لا يتعرضون لغضب السلطات".
ولم ينف الناشط الشاب أن تجدد التظاهرات المعارضة أنعش الآمال في نفوس كثير من الناشطين الذين كانوا يعيشون حالة من اليأس والقنوط من إمكانية حدوث أي تغيير، لكنه استطرد أن "البعض أيضا لديهم شعور بالغيرة من تسليط الأضواء على المقاول محمد علي كمفجر للحراك الجديد، والبعض يعادون أي موجة من التظاهرات أو الاحتجاجات التي لا يكون لهم دور فيها، وهؤلاء عددهم محدود لكنهم تسببوا في توجيه اتهامات وانتقادات غاضبة إلى كل نشطاء ثورة يناير".
وعلق الإعلامي المصري أسعد طه: "أعتقد أن المشهد مرتبك جدا على مستوى كل الأطراف، فالسلطة مرتبكة كما يظهر من تعاطيها مع التظاهرات، والمتظاهرين أو المعارضين للسلطة أيضا مرتبكون. لكن إحجام عدد من النشطاء عن المشاركة أو حتى الكلام لا يمكن اعتباره ظاهرة، فهناك نشطاء مشاركون ويتكلمون، وهناك من هربوا إلى الخارج، وأخرين في السجون، ولا ألوم أحدا على الصمت لأن الموقف صعب، والانتقام شديد".

وأضاف طه لـ"العربي الجديد": "الأمر الإيجابي أن هذا الارتباك يولد طبقة جديدة من المعارضين غير المحسوبين على الاتجاهات السياسية المعروفة، أو على نشطاء يناير، ويلاحظ أن غالبية المتظاهرين حاليا شبان صغار السن، حتى أننا شاهدنا أطفال مدرسة إعدادية يهتفون ضد النظام، وهذا يعكس أن حالة جديدة تتولد في مصر ، وربما ينتج عنها بدائل جديدة. أنا أنتمي إلى الجيل الذي كان جيل يناير يلومه على المشاكل القائمة، والجيل الجديد بات يتعامل مع نشطاء يناير بنفس المنطق، وهذا الجيل الجديد يطرح نفسه كبديل متمرد على النظام وعلى النشطاء".




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 6 أكتوبر 2019

الربيع العربي مجددا





 في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011، قال الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، للمحتجين ضد نظام حكمه: "فهمتكم"، في محاولة بائسة للبقاء في السلطة، لكنه سقط. وفي مطلع فبراير/شباط من العام نفسه، قال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، مستعطفاً المحتجين ضده: "لم أكن أنوي الترشح لفترة رئاسية جديدة"، لكنه أيضاً سقط، ولاحقاً كرر معمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، مقولات مشابهة، لكنهم أيضاً أزيحوا من السلطة. يمكننا اعتبار إسقاط رأس النظام جزءاً مهماً في الثورة على أي نظام حكم فاسد أو فاشل أو مستبد، لكن ذلك لا يعني انتصار الثورة، بل هو خطوة كبيرة في طريق طويل يجب أن يؤدي إلى إقرار عدالة شاملة، وحقوق وحريات متكاملة، ونظام ديمقراطي يمنع تكرار وصول أيّ مستبد إلى سدة الحكم، أو بقاء أي حاكم لفترات طويلة. ليست الثورة نزهة، ولا توجد ثورة تحقق أهدافها بين ليلة وضحاها، والثورة الفرنسية التي يضرب بها المثل عادة، استغرقت 80 سنة لتحقق أهدافها، وشهدت تلك السنوات فترات انتصار وفترات اندحار مختلفة. لسنا أول الفاشلين إذاً، فما يمكن وصفه بأنه "الربيع الأوروبي" الذي انطلقت شرارته عام 1848، من خلال عدة ثورات شعبية ضد أنظمة الحكم الملكية، تحالفت الملكيات ضده، لكنه تكرر مجدداً حتى استطاع إسقاطها، أو تحويلها إلى ملكيات دستورية تملك ولا تحكم. وبعد أكثر من قرن من الزمان، انتصر المطالبون بالتغيير، وحصلت الشعوب على حقوقها كاملة في اختيار من يحكمها، ومحاسبته إذا أخطأ، وعزله إن فشل، ومحاكمته إن أجرم. في بلادنا التي تشتعل فيها الثورات، وإن تحت الرماد، يكرر أنصار الثورة المضادة طوال السنوات الأخيرة مقولات ممجوجة، منها أن الثورات لم تخلّف إلا الدمار، بينما الدمار أحدثته الأنظمة الفاسدة التي قامت ضدها الثورات. ويزعمون أن الثورات ممولة من الخارج بهدف تدمير الدول العربية، وكأن هذه الدول التي قامت فيها الثورات كانت نموذجاً للرخاء أو العدل، حتى إن بعضهم يستخدم مصطلح "الخريف العربي" للسخرية من مصطلح "الربيع العربي" الذي يتشبث به المطالبون بالتغيير والتحرر. في ظل هذه الظروف، قد يشعر الثائر باليأس من إمكانية تحقق مطالبه، فيركن إلى الصمت، أو يتجاهل ما يجري من حوله، محاولاً عيش حياة طبيعية، رغم أن الأوضاع المحيطة به غير طبيعية ولا مستقرة، ولا ينتظر أن تستقر إلا إن حدث تغيير حقيقي. التاريخ والمنطق يؤكدان أن عملية التغيير تستغرق وقتاً طويلاً، وتستلزم جهداً كبيراً، وأن الثورة لا تموت ما دام المؤمنون بها أحياءً.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 27 سبتمبر 2019

انتفاضة 20 سبتمبر




 من بين أبرز مساوئ الغربة أن لا يستطيع المغترب لقاء أصدقائه كالمعتاد، وإن أتاح انتشار مواقع التواصل ووسائط الاتصال الإلكترونية مجالاً بديلاً. لا مجال لمقارنة اللقاء الافتراضي باللقاء الفعلي، لكن عندما تكون البدائل محدودة، فإن مجموعات النقاش الافتراضية حل عملي، أو بالأحرى ضروري، لعدم فقدان التواصل مع الآخرين، ومناقشة الأحداث والموضوعات مع أشخاص تعرف خلفياتهم وتوجهاتهم ومواقفهم، حتى وإن كنت لا تعرف على وجه التحديد ما الذي فعلته بهم، وبك أيضا، فترات الغربة. شاركت قبل أيام في نقاش مع أصدقاء مصريين يعيشون في بلدان مختلفة عبر مجموعة على أحد مواقع التواصل، وهو نقاش متواصل؛ يخفت أحياناً ويحتدم في أحيان أخرى، ويميزه اختلاف التوجهات والوجهات. كان تعريف ما جرى في عدد من محافظات مصر يوم الجمعة 20 سبتمبر/أيلول الماضي، محور النقاش الذي أظهر حالة من انتعاش آمال التغيير، وشيوع أحلام العودة إلى الوطن، بالتوازي مع تفاقم المخاوف من زيادة القمع، أو فرض مزيد من القيود. لكن الأهم في النقاش كان محاولات تحليل خلفيات ومآلات ما يجري على الأرض، وكذا في الفضاء الإلكتروني المتخم بمقاطع الفيديو والتسريبات والتصعيد المتبادل. قال أحد الأصدقاء إن هناك ضرورة لوضع مسمى للأحداث، واقترح تسميتها "الحراك"، فقال صديق ثان إنه ليس حراكاً وإنما "انتفاضة"، ليرد ثالث أن ما يجري مرحلة جديدة من "الثورة"، وعندها شرح صديق متخصص في العلوم السياسية الفارق بين التسميات الثلاث أكاديمياً. لم نتفق على وصف محدد، لكننا ارتضينا أن نسميه "انتفاضة 20 سبتمبر"، وعندها سأل صديق آخر: ماذا سنفعل إن كانت الأوضاع يوم غد الجمعة (27 سبتمبر) مغايرة؟ هناك دعوة إلى تظاهرات أكبر في هذا اليوم، وفي المقابل، يتحدث موالون للنظام عن حشد المؤيدين في الشوارع لمواجهتها، أو على الأقل إظهار حجم التأييد مقارنة بحجم المعارضة. عندها شهد النقاش مجموعة من الأسئلة التي ليست لها إجابات محددة، لكنها تؤشر إلى أن أحداث هذا اليوم ستحدد طبيعة ما يليه. فإن خرجت تظاهرات معارضة كبيرة، فهل تسقط النظام، أو جزءا منه، أم تضطره إلى استخدام أساليب القمع القصوى؟ وإن لم تكن هناك تظاهرات كبيرة، وحشد النظام أنصاره في الشوارع، فهل يعني هذا نهاية هذه الجولة من "الانتفاضة"؟ أم أنها ستتواصل في مواعيد أخرى؟ اتفقت مع أصدقائي على أن الوضع في مصر ضبابي للغاية بسبب نقص معلوماتنا حول ما يجري داخل النظام نفسه، واختلفنا بشدة حول فكرة صراع الأجهزة، لكننا اتفقنا مجدداً حول خشية لجوء النظام إلى الانتقام.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الخميس، 26 سبتمبر 2019

التوريث في مصر.. محمود السيسي على خطى جمال مبارك



القاهرة – العربي الجديد
قبل شهر واحد، كان محمود السيسي، نجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اسماً غامضاً بالنسبة لعامة المصريين، قبل أن يتغير الأمر فجأة، بعد تكرار ورود اسمه في مقاطع الفيديو المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تؤكد تعاظم دوره وتدخله في كثير من الملفات، فضلاً عن اتهامه بالمسؤولية عن جرائم وقعت في مصر، خصوصاً في سيناء. وفتحت مقاطع الفيديو التي يواصل نشرها الممثل والمقاول محمد علي، من إسبانيا، الباب أمام الكثير من الأشخاص للحديث عن الفساد في دائرة الرئيس المصري المقربة. فبعد حديث محمد علي عن بناء قصور واستراحات رئاسية، وإجراء تعديلات على أحدها بكلفة كبيرة بناء على طلب من زوجة الرئيس، بدأ آخرون كشف المزيد من التفاصيل حول تورط عدد من أفراد عائلة السيسي في الفساد.

وفي 22 سبتمبر/ أيلول الحالي، اتهم الناشط السيناوي البارز مسعد أبو فجر، في مقطع فيديو بثه عبر حسابه بموقع "فيسبوك"، السيسي ونجله محمود بالوقوف وراء هجمات استهدفت الجيش المصري بشمال سيناء. وقال إنّ ضابطاً في المخابرات الحربية بتكليف من السيسي ونجله، هو الذي يقف وراء الهجوم على معسكر الأمن المركزي في منطقة الأحراش برفح عام 2017، وهو نفسه من يقف وراء هجوم رفح عام 2012، والذي راح ضحيته 16 من ضباط وجنود القوات المسلحة. وفي مقطع فيديو آخر، قال أبو فجر إنّ السيسي ونجله يديران شبكة لتهريب البضائع والأموال عبر معبر رفح البري والأنفاق إلى قطاع غزة، بما يدرّ ربحاً شهرياً يُقدر بنحو 45 مليون دولار، يأخذ السيسي ونجله منها 15 مليوناً.
وفي 19 سبتمبر/ أيلول الحالي، اعتقلت قوات الأمن المصرية حازم غنيم، شقيق الناشط وائل غنيم، عقب ساعات من نشر الأخير الموجود في الولايات المتحدة، فيديوهات يهاجم في أحدها محمود السيسي، فزاد غنيم من هجومه على نجل الرئيس وتوعّده بإثارة الرأي العام المحلي والدولي ضده.
في السياق، قال الحقوقي المصري أحمد سميح، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "محمود السيسي كضابط في جهاز أمني سيادي، ومثله مئات الضباط، أمر معتاد ألا يعرفهم أحد؛ كواحدة من ضرورات العمل الأمني"، مضيفاً أنّ "ظهور اسمه للعلن سببه استخدام والده له وللجهاز الذي يعمل فيه للتدخل في الملفات السياسية المختلفة، وهذا مؤشر خطير على تسييس أجهزة الدولة ذات الطبيعة السرية لتحقيق مصالح سياسية مباشرة للرئيس". وحول مدى تأثير اتهامات الفساد على صعود محمود السيسي أو حظوظه المستقبلية، أوضح سميح: "لا أعتقد أنه سيكون لذلك تأثير كبير بالنظر إلى إحكام السيسي سيطرته على مفاصل الدولة في مصر".
من جهته، اعتبر الكاتب المختص في الشأن الإقليمي، فادي القاضي، أنّ "الحراك الحالي في مصر قد يكون مؤشراً بالغ الدلالة والأهمية على تنامي التجاذبات في أروقة الحكم إلى درجة معقدة"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "صيغة التوافق بين أركان نظام يوليو 2013، لم تعد قابلة للاستمرار بالشروط نفسها، وهي في جوهرها قواعد لاقتسام النفوذ والسيطرة على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي". وتابع القاضي أنّ "صعود نجم محمود السيسي قد يكون السياق الذي فهم منه المُقتَسِمون أن الرئيس الحالي عاقدٌ العزم على تغيير القواعد التقاسمية التي توافقوا عليها سابقاً".
وأوضح القاضي: "لا أعتقد أنّ هؤلاء تناسوا أنّ صيغة التوريث التي كان الرئيس المخلوع حسني مبارك يُعدّها لنجله جمال، كانت أيضاً صيغة غير مقبولة، وبعضهم عمل ضدها سراً أو علانية. لكن وضْع محمود السيسي على رأس المؤسسة الأمنية الأكثر حيوية وحساسية ليس فقط صيغة أخرى للتوريث، بل هو صيغة مباشرة لتمكين السيسي من السيطرة مباشرة على أدق تفاصيل المشهد الأمني، وهو بالضرورة يدفع بأركان السلطة إلى اتخاذ مواقف دفاعية، وربما تكون أكثر شراسة في الفترة المقبلة".
وأضاف القاضي أنّ "الأحداث الأخيرة تؤشر على أن أركان نظام يوليو (تموز) 2013 تتطاحن بشكل علني، لكن ليس هناك إمكانية معلوماتية واقعية تساعد في توقُّع مَن ستكون له الغلبة؛ مع الأخذ بالاعتبار غياب أي مشروع مدني أو جهة مدنية من شأنها التدخل لكبح جماح هذه الأطراف المتصارعة".
إلى ذلك، يطرح محللون فكرة مغايرة تتمحور حول تعمد إبراز محمود السيسي حالياً كمناورة معدة مسبقاً للدفع بأحد شقيقيه إلى الواجهة لاحقاً، على غرار ما جرى مع نجلي مبارك في السابق، إذ كان الشقيق الأكبر علاء هو الأشهر على الساحة قبل أن يتوارى ليتم لاحقاً الدفع بشقيقه جمال إلى صدارة الصورة.
ويشغل الابن الأكبر للسيسي، مصطفى، وظيفة عليا في هيئة الرقابة الإدارية، في حين أنّ ابنه الثالث، حسن، كان يعمل في إحدى شركات البترول، لكنه التحق أخيراً بجهاز الاستخبارات.
وفي السياق، قال الباحث المختص بقضايا التحول الديمقراطي، عبده موسى، إنه من الصعوبة الجزم بأنّ الهجوم على محمود السيسي موجّه، أو أنه جزء من الصراعات داخل المكون الدفاعي والاستخباري. وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "في ضوء ما عرفنا من موقف متململ، بل ورافض لتوريث جمال مبارك الحكم قبيل ثورة يناير، لا مجال لاستبعاد تكرار الغضب داخل الأجهزة الاستخبارية بالذات من سيناريو مشابه للتوريث، ويزداد الأمر مع كسر ترقية محمود السيسي لأعراف القيادة التراتبية، والدفع به إلى موقع متقدم يفوق خبرته ورتبته، وسط أقاويل عن قيامه بدور المدير الفعلي للمخابرات العامة، فيما يبدو عباس كامل مجرد ستار، فضلاً عن إطاحة السيسي بجيل كامل من قيادات الجهاز لإفساح المجال لصعود ابنه".
ورأى موسى أنّ الهجوم على محمود السيسي "سيترك أثراً على شعبية والده، وربما ينصحه مقربون بتهميش ابنه لخفض حدة الضغط عليه، مثلما فعل مبارك حين همّش نجله علاء بعدما تضخمت الأقاويل حول فساده، وجرى بعد ذلك تصعيد الابن الأصغر جمال ليحتل واجهة مشروع التوريث"، لافتاً إلى أنه "قد يتكرر هذا السيناريو مع محمود السيسي ليحلّ محله شقيقه الأكبر مصطفى، الذي ارتبط اسمه في جهاز الرقابة الإدارية بتفجير قضايا فساد كبرى".
بدوره، رأى المحلل السياسي عمرو خليفة أنّ "الزج بمحمود السيسي في أعماق الدولة العميقة خطوة تكتيكية محسوبة لأبعد الحدود، ليكون عين والده داخل المنظومة، وعينه على (الرعايا) خارجها، فضلاً عن كونه خط دفاع أولياً"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "هناك مؤشرات واضحة على خطة توريث، ربما على المدى البعيد، بدليل الترقيات السريعة، ودوره في التعديلات الدستورية الأخيرة".
وحول وجود حالة من الغضب من بروز نجل السيسي، قال خليفة إنّ "الفترة الأخيرة شهدت ما يمكن اعتباره تحركات ضدّ الأب والابن معاً، وربما كان هذا تكراراً لما حدث سابقاً من الدولة العميقة ضدّ مبارك وابنه جمال. وبناءً على ذلك، فإنّ الأيام والأسابيع المقبلة ستحدّد المستقبل، فنحن أمام صراع وجودي على السلطة، وعلى أسلوب الحكم نفسه، والهجوم من المعارضة انطلق بالفعل، وأعتقد أنه سيتصاعد، ونهاية المعركة ستقرر دور محمود السيسي وحجمه، فإما يصبح رئيساً لمصر بعد والده، أو في السجن أو المنفى مع أبيه".
وفي يونيو/ حزيران الماضي، قالت مصادر لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك توسعاً لنفوذ محمود السيسي داخل جهاز الاستخبارات العامة، الذي انتقل إليه من جهاز الاستخبارات الحربية بعدما حصل على ترقيتين في مدة زمنية قصيرة للغاية، إذ تمّت ترقيته من رتبة مقدّم في 2014، إلى عقيد، ثمّ إلى عميد، وهي الرتبة التي مكّنته من شغل درجة وكيل جهاز في الاستخبارات.
وأكدت المصادر أنّ نجل السيسي بات صاحب الكلمة العليا داخل الاستخبارات العامة، والمشرف على الملفات الأهم بدعم من اللواء عباس كامل، الذي كان يشغل منصب مدير مكتب رئيس الجمهورية قبل انتقاله لرئاسة الاستخبارات العامة، وأنه يتولى شخصياً ملف الإعلام. وأشارت المصادر إلى أنّ "محمود السيسي تتم تهيئته لموقع ما، ولا يستبعد أن يكون ذلك الموقع هو خلافة اللواء عباس كامل على رأس الاستخبارات العامة".
من جهته، قال مصدر مقرب من دوائر صناعة القرار المصري، لـ"العربي الجديد"، إنه "بعدما تم فرْض محمود السيسي على ملفات داخلية، بدأ توجُّه جديد بتقديمه إلى الخارج عبْر ملفات إقليمية"، مضيفاً أنه "تولى الإشراف على ملف إدارة العلاقات مع السودان عقب سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير، وهناك محاولات لتوليه ملف العلاقات المصرية الأميركية". وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في يناير/ كانون الثاني عام 2018، أنّ محمود السيسي زار واشنطن مرة واحدة على الأقل.
وفي منتصف إبريل/ نيسان الماضي، نشرت صحيفة "التايمز" البريطانية، تقريراً بعنوان "السيسي يجنّد أولاده لمساعدته على البقاء في السلطة حتى 2030"، على خلفية تمرير التعديلات الدستورية التي تمدد بقاءه في السلطة.
وفي أول انتخابات برلمانية في مصر بعد انقلاب يوليو/ تموز 2013، أقيمت "غرفة عمليات الانتخابات" داخل مقر المخابرات العامة، وكان محمود السيسي واحداً من أربعة أشخاص في الغرفة التي أدارت المشهد الانتخابي عبر اجتماعات يومية، وقامت بصناعة قائمة "في حب مصر" المؤيدة للسيسي، والتي هيمنت على البرلمان. وقد قال الناشط السياسي المسجون حالياً، حازم عبد العظيم، في شهادة نشرها على موقع "فيسبوك"، إنه كان مشاركاً في أحد تلك الاجتماعات بحكم نشاطه السابق كمسؤول للجنة الشباب في حملة السيسي الرئاسية الأولى.
بدورها، قالت مجلة "لسبريسو" الإيطالية في تقرير نشر عام 2016، إنها لا تستبعد أن يكون محمود السيسي أحد المطلعين على معلومات خاصة بشأن الباحث الإيطالي الذي قتل في مصر جوليو ريجيني حتى قبل اختفائه. وذكرت الصحيفة أنها اطلعت على "تفاصيل مقلقة بشأن دور محمود السيسي"، أوردتها عبر منصة "ريجينيليكس" الإلكترونية التي أطلقتها المجلة لتسليط الضوء على مقتل ريجيني، لكنها قالت إنها تمتنع عن نشر تلك التفاصيل لأن المسألة حساسة.

الاثنين، 16 سبتمبر 2019

تاريخ التعريص في مصر وصولا إلى التعريص الإفتراضي





كتبها: شهاب حلمي

الفصل الأول: بداية التعريص


مصر أم الدنيا بلا شك ومهد الحضارات وأقدمها بدون منازع، ولم يذكر التاريخ لحظة لم يذكر فيها مصر، وبالتالي كما تنسب لمصر أقدم الإنجازات والعجائب والمعجزات في التاريخ؛ بدأ فيها أشياء أخرى لم يذكرها التاريخ.
كلنا يعلم أن الدعارة أقدم مهنة في التاريخ، وبالتالي أول وكر دعارة في التاريخ كان في مصر، وتحديدا في مركب شمس صغيرة يمة الكيت كات، وكان من روادها عيال فراعين من المنطقة هناك، وكانت عيال سو بتنيم معابد منف من المغرب، والعيال دي كانت مسيطرة على العجلات الحربية "التوك توك" اللي كانت ماسكة خط الكيتكات- أم المصريين.
وبما إن العيال دي كانت لبش وكانت عاملة مشاكل مع طوب الأرض، وبالتالي كانوا دول أقدر ناس على وضع حجر الأساس لثاني أقدم مهنة في التاريخ، ألا وهي مهنة التعريص.
ولكن دعونا نتأمل شخصية المعرص المصري القديم، ومتطلبات مهنة التعريص، فضلاً عن مسؤوليات المعرص تجاه مهنته. المعرص المصري القديم قوي، مفتول العضلات، برنس في نفسه، يجيد استخدام العجلات الحربية، وضارب الكحل في عينيه والسكس باك عامل أساسي في بنيانه، ويرتدي على رأسه قناع الثور رمز الفحولة، وده بالمناسبة أصل كلمة "قرني" التي يتم استخدامها في اللغة العامية الحديثة، لأن قناع الثور كان ليه قرنين، وساهم المؤرخون في الربط بين القرون ومهنة التعريص بوجه عام.
أما بالنسبة للمهنة فكانت تتطلب القوة الجسمانية والعزوة والسيطرة في المنطقة علشان مافيش حد تسول له نفسه إنه يستخدم الخدمة ويستضعف البت أو يرسم عليها دور الحنية والحب علشان يخلع من غير ما يدفع. المعرص المحترف كان لازم العيال دي يعلم عليها، وبالتالي كان المعرص المصري القديم له احترامه، خاصة أن من خصائص المهنة إن معظم الشعب كان بيعدي عليه سواء من مقدمين الخدمة أو من مستقبليها. في تلك المرحلة كان التعريص أكاديمي أو مهني، ومختص فقط بالمهنة، ولم يتطرق لأبعاد خارج حدود المهنة.
المعرص المحترف لا يشغله بطبيعة الحال ما يحدث خلف الأبواب المغلقة أو المفتوحة حتى. المعرص المحترف يعمل بمبدأ "أبجني تجدني وظرفني تعرفني"، وبالتالي طالما الزبون بيدفع يقوم المعرص بما يطلبه الزبون من ثم ظهرت مقولة “إدبح يا زكي خفرع.. يدبح زكي خفرع”.
ساعد إنتشار هذا المبدأ، خاصة بعد كثرة ارتياد رجال الدولة من فراعنة ورهبان، في استقطاب بعض ممن يمتهنوا مهنة التعريص للتوجيب معاه في حملات إنتخابات "البار لي مان"، خاصة وجه بحري قبل ما مينا يوحد القطرين، ويتم انتشار التعريص شمالا وجنوبا بين قطري مصر البحري والقلبي.
لعب دور التعريص دورا هاما في حياة وتكوين التاريخ المصري القديم، وكان من الطبيعي حصول بعض المبدعين في المجال على الألوهية كما كان المتبع في العادات المصرية القديمة، فكان معرص مصر الأول "قور آه ني" هو إله التعريص عند المصريين، وتمت مراسم تتويجه في عهد الملك "ماي ختش شيش"، وبناء معبد خاص له في مبنى في وسط منف أعلى قسم "عا جو زا" على ضفاف النيل.
وبطبيعة الحال، وباعتبار مصر مهد الحضارات تم تصدير فكر التعريص للحضارات المحيطة، وبالتالي ظهر "قورانيوس" إله التعريص عند الإغريق و "قورانييه" عند الكنعانيين و"قورانيو" عند الرومان، وانتشر الفكر حتى تبنته الحضارة الهندية القديمة من خلال المعرص الفقير "سانديب كوراني"، والحضارة الصينية القديمة التي جسدت التعريص عن طريق الحكيم "كور آن يي"، وهكذا صدرت مصر أم الدنيا وأم التاريخ التعريص للعالم مما طور المهنة وأضاف لها كثير، حيث برع الكنعانيين في أكاديمية المهنة وبرع الإغريق والرومان في تسييس التعريص، أما الهند فقدموا للعالم التعريص السلمي الذي تم استخدامه بتوسع شديد في فن صناعة السينما الهندية والمعروف ببوليوود، حتى أصبح المشاهد للأفلام الهندية لا يستطيع أن يتمالك نفسه بدون أن يقول "إيه التعريص ده؟"، وأخيرا الصين قدمت للعالم التعريص الصناعي بعد الثورة الصناعية، حتى أصبح كل منزل في العالم لديه منتجات صناعية صينية لا يستطيع أي مستخدم لها أن يصفها بأي صفة أخرى غير أنها منتجات "بنت عرص"، وده أيضا قمة التعريص الصناعي.
هكذا عرف العالم التعريص، وكله بسبب مصر أم الدنيا، ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد أضافت الحضارات المصرية الكثير للتعريص. لم يتوقف إنتشار التعريص عند الحضارات المنتشرة في البلاد بل تطور ليشمل الشخصيات الخارقة، فظهرت شخصية "بكري مان" منذ بدء التاريخ، ويتم توارث هذه الشخصية عبر الأجيال، وأكثر علماء الأرض في التعريص يرجحون وجوده في مصر باعتبارها موطنه الأصلي، والجدير بالذكر أن شخصية بكري مان لها قصص وروايات مكتوبة في مجلدات يتم تداولها و تكاد تصل بعض الروايات إلى مستوى الأساطير من كثرة الإتقان في التعريص الذى يصل لمرحلة السوبر هيرو الذي لديه إمكانية التعريص عن بعد، علاوة على القدرة على التعريص على الموضوع وعكسه في آن واحد.
الفصل الثاني: التعريص والدولة
أدى تطور التعريص من مهنة مربوطة بالدعارة و زنقة المعرص ما بين مقدمة الخدمة و مستقبليها إلى زمن إنفتاح التعريص الذي بدأ باستخدام رجال الدولة للمعرصين إلى حدوث أمرين غاية في الأهمية:
١- إدراك المعرصين الأكاديميين أو الرعيل الأول للتعريص المعروف بأسرة المعرصين الأولى للفرصة خارج نطاق بيوت الدعارة من سياسة و أدب و فنون و أعمال حرة و ما إلى ذلك من مجالات الحياة المختلفة. كما أدرك ذلك الجيل أن هناك طلب لا يستهان به خاصة في السوق المصري
٢- ساهم كبر حجم السوق و الطلب المتزايد للمعرصين لمجاوبة الطلب إلى دخول بعض الهواة (الغير أكاديميين) للمهنة طلبا للمال و الشهرة من ناحية و حبا في المهنة من ناحية أخرى فأصبحت مزاولة التعريص صفة و ليست بالشرط مهنة و ساعد في ذلك ضعف مستوى الخريجين كل عام من تعريص عين شمس و تعريص القاهرة مما دفع وزارة التعريص لإنشاء معاهد تعريص متوسطة يحصل منها الخريج على دبلوم تعريص بعد دراسة سنتين و أضافت الوزارة مدارس ثانوية تعريصية متخصصة تؤهل جيل جديد من المعرصين هذا بالإضافة لتكوين منتخب مصر للتعريص الذي يبدأ من معرصين ناشئين تحت ١٦ سنة لغاية الفريق القومي للتعريص اللي بيمثل الدولة في دورة الألعاب التعريصية كل أربع سنين و الذي يقام في مصر مسقط رأس بكري مان الأول.

ساهم إدراك المعرصين الأوائل لفرصة التوسع في التعريص بالإضافة لجهود الدولة المصرية القديمة في تنمية المهنة و وضع أسس علم “التعريصولوچي” بفكر و كتابة نخبة مصرية من رواد النهضة التعريصية حتى تصبح مصر الدولة التعريصية الأولى في التاريخ في النهوض بالتعريص للعالمية مع التركيز على رد الجميل لرجال الدولة الذين ساهموا في النهوض بالمهنة و من ثم جرى العرف أن يحيط أي مسؤول مصري نفسه بلفيف من المعرصين كل معرص حسب تخصصه يعني المعرصين خريجي تعريص روماني أو إغريقي دول تلاقيهم تخصص تأليه و ده بيستدعي تنزيه أي مسؤول أو “معرص له” عن أي خطأ باعتبار المسؤول نصف إله يعني بشر و مش بشر تنزع عنه الإلهية بزوال المسؤولية. يعني لو مسؤول طلع معاش ما يبقاش “معرص إليه” إلا لو تولى مسؤولية أو إشتغل في أعمال حرة مرتبطة بمسؤول. المعرصين خريجي تاريخ تعريص جامعة حلوان شعبة حضارة هندية دول بيبقوا منتظرين علاوة أو مكافأة أو رستقة في الشغل و بس “معرصين أورديحي" بخلاف خريجي تعريص حضاري و تكنولوجيا في شبرا دول دارسين تعريص صيني و دول طموحاتهم كلها كسر معظمها هدايا عينية. أما المعرص اللي بدون شهادة ده بيبقى المعرص الموهوب اللي غالبا بيبقى مزيج من كل المدارس التعريصية ده لأن الجينيات التعريصية متأصلة في تكوينه و نسبة إفراز إنزيم التعريص في الجسم عالية جدا نظرا لنشاط الغدد المفرزة للإنزيمات التعريصية و كمان نسبة التعريص في الدم دايما عالية عندهم دول أمل مصر في التعريص و غالبا هي دي المهارات اللي الدولة بتنقي منهم منتخب مصر و بيجيبوا كاس العالم كل أربع سنين. العيال دي راضعة تعريص تحطه من رئيس يدي معاك تشغله مع سياسي يشخلعه تعريص تحطه مع رجل أعمال ما يقولش لا و هكذا و دول مش محتاجين مؤهل علشان يثبتوا نفسهم و يحتلوا مكان المعرص المفضل و غالبا ده يرجع لأن أصولهم تمتد إلى أسرة الفراعين بتاعت الكيت كات في الدولة المصرية القديمة نقطة بداية علم التعريصولوچي.
الفصل الثالث: تصدير المعرصين المهرة الآستانة
بالرغم من أن مصر مرت عليها حضارات ياما من فراعنة لهكسوس لإغريق لرومان لعرب لأتراك لمماليك لفرنساويين لإنجليز .. إلا إن المعرص المصري اللي التعريص بيجري في دمه أبا عن جد ما تأثرش و لا فرق معاه بل بالعكس لعب على كل لون يا بطسطة و مع تغيير الحاكم و جنسيته و ملته و لغته و اللي جابوه كان ده بيمثل تحدي جديد للمعرص المصري. بسرعة كان لازم يعرف لون فصه و مقاساته و يجيله منين و يروح له فين علشان يفصل له التعريص اللي مش بس على مقاسه لا و اللي يليق عليه كمان بالرغم من فروق الأصل و الفصل و اللغة. علشان كده إتقال في الأمثال “دور عالمعرص يا عبد الباقي .. غيرش المصري لن تلاقي”
بلغ التعريص أشده و ذاع صيته في عهد محمد علي باشا الكبير و حب يجامل السلطان العثماني وقام مصدر خيرة معرصين مصر للسلطان في تركيا مما عرف تاريخيا بتصدير المعرصين المهرة للآستانة. نتج عن ذلك إزدهار التعريص في تركيا و منها لأوروبا و العالم و مرت مصر بأزمة شديدة في التعريص أثرت عليها جدا لدرجة إن الناس فقدت أملها في عودة بكري مان مرة أخرى و الشغلانة لمت و بقى أي حد مالوش في أي حاجة يجرب يعرص و فقد التعريص بريقه و إبداعه فترة طويلة تعتبر من الفترات التعريصية المظلمة في تاريخ مصر الحديث و تعتبر تاريخيا أزمة مصر التعريصية الأولى. لم يساعد مصر في تخطي هذه الفترة العصيبة إلا إن التعريص في مصر ليس مهنة أو هواية بل هو جزء من نسيج و جينات المواطن المصري حيث يتوارثه جيل بعد جيل منذ نشأة المعرص المصري الأول في الدولة المصرية القديمة. بالإضافة إلى ذلك إحتفظت الأسر و العائلات التعريصية الأصيلة بالتراث التعريصي المتوارث عن طريق البرديات المتوارثة من الزمن الفرعوني و المعروفة “بالتعاريص” و مزيج من مخطوطات قديمة بها مبادئ و تعاليم التعريص غير تعليم الأجيال لأبنائها أغاني و مواويل و أمثلة شعبية أصيلة تنمي الروح التعريصية من الصغر حتى عاد التعريص و ازدهر مرة أخرى و بلغ آفاق لم يبلغها من قبل حتى أوائل سبعينيات القرن العشرين حيث واجهت مصر التحدي الثاني في تاريخها أمام فقدانها ثروة قومية من خيرة معرصيها

الفصل الرابع: التعريص والخليج
عانت مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر الذي كان له الفضل في الوصول بالتعريص المصري لمدي لم يصل له التعريص منذ بدء التاريخ، فقد أحاط نفسه بأكبر وأرقى من أنتجت مصر من المعرصين، وبالتالي كان أول من يقدم لمصر إضافة "تعريص ما بعد الخيال" أصحاب تعريصة مصر تبدأ حرب الفضاء، وترسل صاروخ للفضاء في خلال عامين، وصواريخ تصل لتل أبيب، وطيارات حربية مصنعة في مصر، فاستفاد من الجرائد والمجلات، وكان من رواد استخدام التعريص في الإذاعة، وقدم لمصر التليفزيون مما أدي إلى سهولة توصيل التعريص للمنازل صوت وصورة، والناس صدقت كل الكلام ده، وده اسمه الإعجاز التعريصي.
لم يحلم معرص مصر الأول فرعون فراعين الكيت كات أنه في يوم ما بعد ييجي سبعتلاف سنة حد ييجي يطور المهنة بالشكل ده. الجيل ده هو اللي شال مصر عشرات السنين لحد ما الدنيا زنقت و ظهر بترول الخليج و بالتالي ظهر معاهم شيوخ و أمراء معاهم “فلوس زي الرز” و تاريخيا كان فيه إحتياج للتعريص بكل أنواعه بما فيهم التعريص المهني و الأكاديمي اللي يرجعنا تاني لنشأة فن و مهنة التعريص و إرتباطهم بالدعارة. عقود العمل إنهالت على معرصين مصر بالعملات الصعبة في الخليج و لم يصمد المعرصين أمام العروض المغرية و بالتالي فقدت مصر خيرة معرصينها للمرة التانية في تاريخها لدول الخليج الشقيقة و كان المعرص من دول يسافر الخليج يرجع بعد شهر يبني بيت ملك و يتجوز على مراته إتنين .. فلوس فلوس يعني. المعرص المصري فهم حاجات جديدة كتير بقى يقول “تتصبح بالخير يا طويل العمر” و "يتصل عليك” و يركب “السيارة” و يمشي “سيدا” و مع ذلك مصر كانت قد تعلمت الدرس من المحنة الأولى لتصدير المعرصين المهرة للآستانة و بالتالي حرص معرصين مصر في الخليج أن يتركوا وراءهم جيل قوي يقدر يشيل البلد في غيابهم خاصة إن مبارك كان عامل شغل جامد جدا في مصر وقتها و تزامن الكلام ده مع تحقيق نبوءة المصريين و ظهور بكري مان أصلي سليل عائلات سوبر هيرو و ذهب البعض إلى إن أصله يصل إلى الإله “قور آه ني” إله التعريص عند قدماء المصريين فجمع بين صفة سليل الآلهة و سوبر هيرو التعريص في آن واحد و ده أكيد مش قليل على مصر بعد رحلة العطاء في مجال التعريص منذ بدء التاريخ.
الفصل الخامس: التعريص والإيمان
علاقة التعريص بالأديان بدأت من قديم الأزل و كانت البداية عندما لافت أول مزة على واد فرعون صغير و طلعت في الآخر أخته علشان أبوه الفرعون الكبير كان عطاط و الفرعون قفش على كبير الكهنة علشان يكتب كتابه عليها وقتي و الكاهن قال له ما تجوزلكش يا مولانا و الفرعون قال له ماليش فيه تتصرف ياجيب رقبتك. الكاهن اتزنق زنقة التنين و ما كانش قدامه إلا إنه يميل على حد من شلة فراعين الكيتكات معرفته من أيام الخربشة. الولا سخمت تعريص ما كدبش خبر و قام لابس بدلة كاهن و جاب دماغه زلبطة عند الواد هيما مسلات و قام مظبطه بشوية كحل في عينيه لما الواد تشوفه تقول عليه كاهن بن كاهن دايس المعابد كلها. الولا سخمت قام داخل عالفرعون و قال له عدم اللامؤاخذة الفرس ده يلزمك في الحلال لازمن؟ الفرعون رد عليه و قال لازمن و وقتي! قام سخمت تعريص مطلع البخور و الجاوي و مكحل الولا و البت و كاتب عليهم و ظرف واد من اللي بيسرحوا على باب مجمع الأهرامات بشوية عرضحال بردي حتتين دهب للولية على برنيطة ملوكي و قال أقعد اترزع قرفص و اكتب الكتاب هنا لاجيب وشك. الواد فضل قاعد لحد ما الفرعون عمل له تمثال و هو قاعد مقرفص بيكتب كتابه عالمزة. و دي كانت أول حالة تعريص ديني في التاريخ و لكن التعريص الديني تم تصديره لحضارات أخرى و أخد منحنيات كتيرة و بقى فيه تخصصات يعني ممكن تبقى معرص ديني تخصص سياسة و اقتصاد و ممكن تبقى معرص ديني حر يعني مع نفسك فريلانسر كده و طبيعة و أصل الدين ما يفرقش. طالما هو دين إنت تديه للمعرص و هو يطلع لك منه قماشة حلوة و تفرد معاك بس المهم يكون معرص معرص يعني أصلي مش مضروب حاكم التعريص الديني ده مش موضوع شهادات ده عايز سينس كده و ده ليه بقى كارير تاني يعني ممكن تحصل على درجات زي شيخ المعرصين و إمام المعرصين و المعرص العلامة و فيه بقى المجلس الأعلى لمعرصي الأديان و دول ليهم مكاتب تمثيل في كل بلد فيه منهم ناس درر زي بتاع إرضاع الكبير و نكاح الوداع و حرمانية الزنا بدون عوازل. معرصين أجلاء و ليهم وقار و ليهم بصمة في التعريص الديني.
الفصل السادس: عولمة التعريص
اقتصر التعريص عبر التاريخ على فئة من الناس متوارثة المهنة أو دارساها أو موهوبة فيه، وبتكسب مقابل ممارستها عائد مادي أو معنوي، ولكن بحلول القرن الواحد والعشرين وبالتطور التكنولوچي دخلت مصر عصر جديد من التعريص. التعريص بقى مش مهنة ولازم يكون لها مقابل بقى فيه حاجة اسمها معرص بالحتة يعني ممكن يعرص النهاردة ليك و يعرص بكرة لغيرك و مافيش مشكلة في كده لأن ده متوافق مع الإعلان الدولي للتعريص المشترك. ظهر كمان المعرص الهاوي يعني ممكن يعرص بدون مقابل علشان منه يربي زبون و منه يكتسب خبرة و دي شغلانة ظهرت مع إزدياد حجم البطالة و عملا بمبدأ "الإيد البطالة نجسة” و أحسن تعرص بدل ما أنت قاعد عالقهوة. و بدخول و إنتشار الإنترنت و السوشيال ميديا و السمارت فون بقى التعريص "أوبن سورس” يعني أي حد عايز يمارس التعريص من حقه و مش لازم يكون ليه مقابل. تكنولوچيا المعلومات خلقت طبقة المعرصين المبدعين اللي بيساهموا في النهضة التعريصية التكنولوچية الحديثة. النهارده ست البيت ممكن تعرص من بيتها على الأيباد .. طالب الجامعة ممكن يعرص بين المحاضرات.. سواق التاكسي بقت قدامه فرصة يعرص من أي صايبر لما بياخد راحته .. مهن كتير و فئات كتير ما كانتش واخده فرصتها في التعريص عرفت تمارس هوايتها و تطلق طاقات مكبوتة متوارثة في الچينات. بل أكثر من ذلك بقى فيه "معرص لهم” بيجربوا حظهم في التعريص و بقى فيه “معرص عليهم” برضه عندهم الفرصة للتعريص. كمان التعريصة من دول تكتبها من هنا و ألف من يشيرها عالفيس.
كان لازم زي ما حصل تطور في وسائل التعريص الحديثة يحصل تطور كمان يجابه السمارت فون و الأيباد و الكمبيوتر مش هينفع حد يقول بنصنع صواريخ و بنطلع الفضاء لأن كله موجود عالنت و التعريصة هتفقد رونقها. كان لازم تظهر نظرية المؤامرة الكونية المتمثلة في مجلس إدارة العالم .. إبداع تعريصي على أعلى مستوى .. مين يقول و مين يزيد؟ فيه إيه أكتر من كده؟ دور يا عم النت زي ما انت عاوز هتلاقي فين تعريص أعلى من ده و بعدين قماشة حلوة تدي معاك زلازل و براكين و عبث في قشرة الأرض و نيازك و شهب و ميغة. لذلك كاس العالم للتعريص إحنا محتفظين بيه للأبد نظرا لفوزنا بيه سبعتلاف سنة متتالية
في النهاية أحب أن أوجه الشكر للمعرص المصري الأصيل الصامد عبر الأجيال منذ فجر التاريخ و حتى قمة التكنولوچيا و الحداثة .. المعرص المصري الدحلاب المطاط اللزج الزيبق الدائم و اللانهائي الإبتكار. مصر ولادة يا ولاد مصر بلد الإله “قور آه نى” مصر بلد بكري مان
تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

وائل غنيم.. فتى ثورة يناير الغامض




نشر في العربي الجديد
24 يناير 2015

يوم السادس من يونيو/حزيران 2010 انتشر خبر وفاة الشاب المصري خالد سعيد على أيدي عناصر شرطة في مدينته الساحلية الإسكندرية، وتحول مقتل الشاب والطريقة الوحشية التي قُتل بها، ثم تناول الإعلام الرسمي ووزارة الداخلية المتهم الرئيسي في قتله، إلى أهم مادة إعلامية وشعبية يتداولها المصريون.

في اليوم التالي مباشرة ظهرت على موقع "فيسبوك"، الذي بات وقتها ظاهرة في البلاد، صفحة باسم "كلنا خالد سعيد"، تهتم بمتابعة القضية وتفاصيلها ورصد ردود الأفعال عليها، وكذا متابعة القضايا المماثلة. لم يكن أحد وقتها يدري مَن وراء الصفحة، أو "الأدمن" الذي يقوم على تحديثها.

في بداياتها لم تكن الصفحة بالأهمية الكافية، لكنها سريعاً باتت منتشرة وتزايد عدد متابعيها وزادت مصداقيتها وتأثيرها.

في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، فاجأني زميلي خالد البرماوي بما اعتبرته "قنبلة"، قال لي إنه أجرى حواراً مع "أدمن" صفحة "كلنا خالد سعيد"، تم تجهيز الحوار للنشر في موقع "مصراوي" المملوك لرجل الأعمال نجيب ساويرس، والذي كان البرماوي رئيس تحريره وقتها.

بعد النشر تحدثت مع خالد مطولاً عن الحوار والشخصية. كانت معلوماته عمن حاوره لا تزيد كثيراً عن معلوماتي. أجري الحوار "أونلاين" بالأساس، ولم نكن وقتها نعرف اسم الأدمن الحقيقي أو تفاصيل عنه، المهم أن الحوار كان انفراداً صحافياً هاماً، وحقق مشاهدة واسعة، وهذا بالنسبة للصحافي الأهم.

في هذا الوقت كانت الصفحة "الفيسبوكية" إحدى أبرز صفحات حقوق الإنسان في العالم، والصفحة الأكثر نشاطاً في مصر والوطن العربي بعدد متابعين تجاوز 333 ألف مشترك، وعدد زيارات يزيد عن 2.5 مليون زيارة يومياً. لم تكن فورة صفحات "فيسبوك" في هذا الوقت تُقارن بما باتت عليه بعد الثورة، وليست بالتأكيد مثلما هي عليه الآن، مرت أكثر من أربع سنوات.

نشر الحوار قبل أقل من شهرين فقط من تفجر ثورة مصر في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، خلال الشهرين التاليين للنشر، لم تكن الغالبية العظمى من المصريين تعرف شيئاً عن الأدمن الغامض، كان الشائع أنه مصري يقيم في الخارج، لكن أجهزة الأمن استطاعت التوصل إلى شخصيته، خاصة وأنه عاد إلى مصر للمشاركة في النشاط بنفسه، تاركاً عمله المهم في واحدة من أهم مؤسسات العالم.

يوم 24 يناير/ كانون الثاني 2011 نشرت صفحة "كلنا خالد سعيد" وغيرها من الصفحات المناوئة لنظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك، بيانا يدعو الشعب المصري للتظاهر في الشوارع في اليوم التالي، الذي كان يوافق "عيد الشرطة"، وكانت الدعوة مقصودة، لأن الجهاز الأمني كان سلاح مبارك الأساسي للسيطرة على البلاد ومقدراتها وقمع المعارضين وإسكات كل الأصوات المطالبة بالتغيير أو الرافضة للفساد المتفشي.

انتشرت الدعوة بالفعل واستجابت لها أعداد قليلة من المصريين يوم الثلاثاء 25 يناير، مساء الخميس التالي مباشرة (27 يناير) اعتقل الشاب وائل غنيم الذي لم يكن يعرف اسمه إلا نفر قليل من المصريين، وقيل وقتها على نطاق واسع إنه "أدمن" صفحة "كلنا خالد سعيد"، التي بات عدد روادها ومتابعيها يقترب من النصف مليون شخص.

جرت في الأيام اللاحقة أحداث كثيرة، أبرزها "جمعة الغضب"، ثم "موقعة الجمل"، وبات التظاهر ضد مبارك يطلق عليه "الثورة"، وبات المطلب المعلن "ارحل".

في هذه الأثناء بدأت شركة "جوجل" البحث عن موظفها المختفي، كان وائل يشغل منصب المدير الإقليمي لتسويق منتجات جوجل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومشرفاً على تعريب وتطوير منتجات الشركة. بات اسم الشاب يتردد في أنحاء مصر، وبدأ كثيرون يصفونه بمؤسس الصفحة الثورية الأشهر في البلاد في تلك الأيام.

لم تعترف الشرطة المصرية أبداً باعتقال وائل غنيم، لكن الضغوط التي مورست على النظام الحاكم الذي كان يتزلزل وقتها داخلياً وخارجياً، جعلت رئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق يقرر الإفراج عن عدد من المعتقلين المشاهير لإثبات حسن نيته واتجاهه للتغيير، كان بين هؤلاء وائل غنيم الذي أفرج عنه يوم الاثنين 7 فبراير/ شباط بعد 12 يوماً قضاها معتقلاً لا يعرف شيئاً عما يجري خارج الأسوار التي تحتجزه.

كنت في قلب ميدان التحرير عندما وصلني خبر الإفراج عن وائل غنيم، اتصلت هاتفياً بشقيقه حازم لتأكيد الخبر قبل نشره، لم يمنحني حازم الكثير من المعلومات، لم تكن لديه بالفعل إلا أنباء مثلما وصلتنا جميعاً. نشرت ما يتردد من أنباء عبر حسابي على "فيسبوك" و"تويتر"، كما اتصلت بمقر عملي (وكالة الأنباء الألمانية) لأبلغهم بما لدي من تفاصيل، نشر الخبر باعتباره أنباءً غير مؤكدة.



لاحقا ظهر وائل بصحبة الرئيس الجديد المعين للحزب الوطني حسام بدراوي، والذي قرر اصطحاب وائل بسيارته الشخصية إلى منزله، في مشهد تم ترتيبه إعلامياً، وأظهرته الكثير من وسائل الإعلام كدليل على نية النظام على التغيير استجابة لشباب الميدان.

بات اسم وائل غنيم يتردد صداه بين الثوار بعد حملات الدعوة لإطلاق سراحه، ثم الإفراج عنه، وبات معروفاً أنه مؤسس صفحة "كلنا خالد سعيد". لابد هنا من لفت النظر إلى الدور الهام الذي قام به الناشط عبد الرحمن منصور في إطلاق الصفحة وتطويرها، لكن يبقى وائل غنيم مصدر شهرتها الأساسي.

في تلك الأثناء، كان نظام مبارك يراوغ بكل جهده للبقاء، وكان صوت الرافضين يعلو أكثر للمطالبة برحيله، في ليلة الإفراج عنه ظهر وائل غنيم مع الإعلامية منى الشاذلي في برنامجها الشهير "العاشرة مساء" على قناة "دريم" الفضائية، كان الإعلام المصري الخاص وقتها مرتبكاً للغاية، لا يدري إلى أي جهة ينحاز، خاصة وأن ملّاك القنوات الفضائية جميعاً من رجال الأعمال الذين تخضع مصالحهم للنظام بالأساس، كانت الفضائيات تخشى النظام الذي لازال يحكم قبضته على كل شيء في البلاد، وتستشعر في الوقت ذاته أن تغييراً على الأبواب، وبالتالي حاول الجميع "إمساك العصا من المنتصف".

قال وائل في البرنامج واسع المشاهدة "إن أجندتنا الوحيدة هي حب مصر"، وعندما ذكرت مقدمة البرنامج سيرة الشهداء الذين سقطوا خلال الأيام الأولى من الثورة، انهار وائل غنيم وأجهش بالبكاء، وقال: "أريد أن أقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه. أنا آسف لكن دي مش غلطتنا. والله العظيم مش غلطتنا. دي غلطة كل واحد متمسك بالسلطة ومش عايز يسيبها"، ثم فاجأ مقدمة البرنامج وجمهورها قائلاً: "عايز أمشي"، ولم يمهلها للرد وإنما قام من فوره مغادراً.




كانت تلك اللقطات القصيرة مفصلية مجدداً مثلما كانت صفحة "كلنا خالد سعيد"، وحققت دموع وائل غنيم تعاطفاً واسعاً في الشارع، الذي نكأ صدق الشاب المصري جراحاً كثيرة لديه وذكره بسنوات طويلة من القمع والفساد والفشل على كل المستويات.

في اليوم التالي، كان وائل غنيم نجم ميدان التحرير بلا منازع، استقبل الشاب استقبالاً مشهوداً، وتداول الآلاف صورة له مع والدة خالد سعيد، الذي بات يعرف باسم "الشهيد".




لم تمر إلا ثلاثة أيام، وتنحى مبارك وفوض صلاحياته للمجلس العسكري بقيادة وزير دفاعه المشير حسين طنطاوي، وبدأ طنطاوي ورجاله اللقاءات المتكررة مع من بات يطلق عليهم لاحقا وصف "شباب الثورة"، وبينهم وائل غنيم، وأحد اللقاءات الشهيرة التي لازالت صورة لها متداولة، ضمت الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي كان وقتها مدير المخابرات الحربية، وعنها كتب وائل غنيم "تدوينة" طويلة.

لكن تفاصيل لقاء أهم جرى قبل تنحي مبارك، وحضره وائل غنيم وآخرون، بينهم أحمد ماهر مؤسس حركة شباب 6 أبريل، في مكتب رئيس الوزراء وقتها أحمد شفيق، ربما فيها الكثير من الملامح عما كان يتم التحضير له.

عرفت بتفاصيل اللقاء في مكتب شفيق في مصر الجديدة، من خلال روايات متفرقة لعدد ممن حضروه، في الخلاصة: كان شفيق يتعامل مع الشباب باعتبار أن الأمر استقر له، وكان متعالياً متباهياً كعادته، ووزع عليهم "بونبوني" (نوع من الحلويات)، كان عليه شعار شركة "مصر للطيران" التي كانت تخضع لإدارته سابقاً كوزير للطيران المدني.

خرج الشباب من لقاء شفيق وكلهم ثقة بضرورة مواصلة الحراك حتى إزاحة مبارك تماماً عن السلطة، وكلهم يدرك أن النظام يحاول استعادة قوته ليفتك بهم، خرجوا من اللقاء إلى الميدان، وتسربت تلك الأفكار بين المتظاهرين فزادت إصرارهم على مطلبهم. وتنحى مبارك.

طوال فترة حكم المجلس العسكري كانت صفحة "كلنا خالد سعيد" تنحاز للطرف الثوري وتنتقد الحكام العسكريين وتفضح جرائمهم، باتت الصفحة في هذا الوقت مصدراً موثوقاً للأخبار في أنحاء العالم، حتى أن المجلس العسكري نفسه قرر تقليدها ودشن صفحة رسمية لنشر بياناته وتصريحاته على "فيسبوك".

وكان للصفحة دور هام خلال أحداث هامة جرت في تلك الفترة، بينها واقعة ضباط 8 أبريل، وأحداث محمد محمود الأولى والثانية، وأحداث مجلس الوزراء، ومجزرة ستاد بورسعيد وغيرها.



في تلك الفترة كنت متواصلاً مع وائل بشكل دوري، غالباً عبر "تويتر"، وتصادف أن كنت مع صديق مقرب في أحد مقاهي حي المهندسين بالعاصمة، نشارك في نقاش عن مساعي إطلاق شبكة اجتماعية جديدة يقوم عليها عدد من الشباب، بعد انتهاء اجتماعنا وعند مغادرتنا، شاهدنا وائل غنيم جالساً في أحد الأركان.

جمعتنا به جلسة امتدت لما يزيد عن الساعة، بات لدينا ما يشبه الثقة المتبادلة، كنت وصديقي صحافيين، لكنه كان يحدثنا باعتبارنا أصدقاء، لكن لا يمل من تكرار عبارة "مش للنشر"، تحدثنا في الكثير من الأمور، كان مثلنا جميعاً، لا يدري ما القادم، ولا إلى أي مسار ستتحول الأمور في بلادنا، وحدثنا أيضاً عن الكتاب الذي يعتزم إصداره عن فترة الثورة التي عايشها.

لاحقاً كتبت أنا أول تقرير باللغة العربية عن الكتاب في وكالة الأنباء الألمانية، حيث كنت أعمل. في فترة الانتخابات الرئاسية كان وائل غنيم من مؤيدي المرشح عبد المنعم أبو الفتوح وأحد الفاعلين في حملته الانتخابية، وفي المرحلة الثانية عندما انحصر السباق بين محمد مرسي وأحمد شفيق، انحاز إلى مرسي، وظهر ضمن شخصيات عدة في مؤتمر لدعمه، عرف بمؤتمر "فيرمونت".



لكن في فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي انحازت الصفحة ووائل غنيم لمعارضيه، وتولت فضح الكثير من الأخطاء التي وقعت في عهده. وقبل 30 يونيو بيوم واحد نشر وائل غنيم فيديو يطالب فيه مرسي بالإستقالة، عندها هاجمته علناً وانتقدت دعوته، محذراً من انقلاب عسكري وشيك، وكانت آخر مرة تحدثنا فيها مباشرة.

لكن اليوم الأخير للصفحة التي تجاوز عدد متابعيها 4 ملايين شخص، كان الثالث من يوليو/ تموز 2013، لم يكتب في الصفحة بعدها أي شيء، وإن بقي أرشيفها متاحاً لمن يريد.

لاحقاً لم يظهر وائل غنيم علناً إلا مرتين، الأولى عبر مواقع التواصل بعد نشر ما قيل إنه تسريبات صوتية يظهر اسمه فيها في الاسبوع الأول من يناير/كانون الثاني 2014، والثانية قبل أشهر قليلة في ندوة خارج مصر، ونالته الكثير من الاتهامات بالخيانة للثورة والشهداء، بل وموالاة الحكام العسكريين الجدد في مصر، والسكوت عن جرائمهم المتلاحقة، لكنه لم يرد أبداً.

يبقى أن ألفت النظر إلى مشروع وائل غنيم الذي يعمل عليه منذ نحو العامين، وهو "أكاديمية التحرير"، وهي أكاديمية للتعليم عن بعد وعبر الإنترنت، يستغل فيها طاقات الشباب لإنتاج وترويج مواد تعليمية مفيدة حول العالم وتقديم خبرات ومهارات لمن يرغب في ارتياد عالم الأعمال، خاصة في مجال التكنولوجيا.

 لم يكن وائل غنيم أبداً سعيداً بوصفه بالمناضل أو الثوري، أو مفجر الثورة، هو يرى نفسه شاباً مصرياً ضمن مئات الآلاف من الشباب المصريين التواقين إلى الحرية وتطور بلدهم، والذين شاركوا في ثورة شعارها "عيش. حرية. عدالة اجتماعية. كرامة إنسانية".

ختاما، لا أحد غير وائل غنيم نفسه يمكنه التهكن بأسباب انزوائه المفاجئ، أو بالأحرى قراره عدم الظهور والامتناع عن الحديث في السياسة على مدار الأشهر الماضية، شخصيا أجد أن من حق كل إنسان أن يقرر ما يشاء في ما يخصه وفق ما يناسبه، لكن يبقى من حقنا جميعا معرفة سبب توقف صفحة "كلنا خالد سعيد" عن العمل، كونها لا تخص وائل ولا أيا من القائمين عليها وحدهم، وإنما بات اسمها مرتبطا بالثورة المصرية التي بات الملايين شركاء فيها، ويبقى السؤال قائما في انتظار الإجابة: لماذا تقرر إيقاف الصفحة عن العمل؟ ومن صاحب هذا القرار؟



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 9 سبتمبر 2019

تفسيرات الأطباء للموت




 ليس عدد أصدقائي من الأطباء كبيراً لأسباب تتعلق بطبيعة مهنتهم التي تمنعهم من قضاء الأوقات مع الآخرين، أو تشغلهم عن متابعة الأمور التي تشغلني، وأحياناً ما يفاجئني طبيبي بأسئلة تكشف عدم اهتمامه بما أعتقد أنه الحياة. في الأصل، لست أحب التردد على الأطباء، أغلب البشر مثلي في هذا الشأن. أستسلم لفكرة الخضوع للعلاج حين تفشل محاولاتي في الهرب من المرض، أو التحايل على الألم. لكني أحب مجالسة الأطباء الذين يمتلكون رؤية ما حول طبيعة الحياة، وعادة ما تعجبني تفسيراتهم المتأثرة بمهنتهم، كما أن عدداً من أبرز الكتاب والروائيين الذين أحب القراءة لهم في الأصل أطباء. قبل أيام، جمعني نقاش مع أحد هؤلاء حول الوفاة المفاجئة للعشريني المصري عبد الله محمد مرسي، وكنت أنتظر رداً علمياً يفسّر موت شاب لا يعاني من أية أمراض بتلك البساطة. لكنه قال إن الأطباء أنفسهم لا يملكون تفسيرات واضحة لكثير من الأمراض التي تصيب البشر، وإن وفاة شخص أكثر تعقيداً من قدرة الطبيب على التفسير، وعادة يكون لها عشرات التفسيرات، حتى إن ما يدونه الطبيب الشرعي في تقرير الوفاة غالباً ما يكون رأيه المعتمد على السبب الظاهر، وليس سبب الوفاة الحقيقي. كنت مستغرقاً في التفكير في كلامه، ثم طالبته بمزيد من التوضيح، فقال إن أزمة قلبية قد تنهي حياة الإنسان، لكنها لن تكون سبب وفاته، ويظل ما أدى إلى حصول الأزمة القلبية هو السبب الحقيقي للوفاة. زادت حيرتي، فأضاف أن المتفق عليه بين العلماء والأطباء أن تعرض جسد الإنسان للمؤثرات الخارجية تنتج عنه استجابات معقدة لم يتم تحديد طبيعتها حتى الآن، وأن الأثر النفسي عادة ما يكون له تداعيات عضوية خطرة، وبعضها قاتل، إذ يمكن لوضع نفسي أن يتسبب في توقف القلب أو الدماغ عن العمل، وربما كان هذا ما جرى مع عبد الله مرسي الذي كان يعيش أزمة نفسية عميقة. تذكرت عندها مقولة للروائي أحمد خالد توفيق، وهو أيضاً طبيب: "الإنسان لا يموت دفعةً واحدة، بل كلما مات له قريب أو صديق مات الجزء الذي يحتله هذا الصديق أو القريب في نفسه، ومع الأيام وتتابع سلسلة الأموات، تكثر الأجزاء التي تموت بداخله، وتكبر المساحة التي يحتلها الموت". هناك نص مشابه كتبه جبران خليل جبران. ويظل ما كتبه المفكر والطبيب مصطفى محمود في "لغز الموت" معبراً: "الموت في حقيقته حياة. الموت يحدث داخلنا في كل لحظة. كل نقطة لعاب، وكل دمعة، وكل قطرة عرق فيها خلايا ميتة نشيعها إلى الخارج. ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت، ومثلها الكرات البيض، وخلايا اللحم والدهن والكبد والأمعاء".


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 30 أغسطس 2019

نساء "يوم تلات"


 انشغل كثيرون مؤخراً بأغنية المطرب المصري عمرو دياب الجديدة "يوم تلات"، وتباينت الآراء حولها، فقابلها البعض بتنويعات من السخرية من المطرب، والفكرة، والكلمات، وصولاً إلى اختيار يوم الثلاثاء، في حين عبّر آخرون عن إعجابهم بها. لست هنا مهتماً بمستوى الكلمات أو تكرار اللحن، وإنما يعنيني بالأساس الأثر الأخلاقي لعمل فني رائج، وهو أمر مسكوت عنه عادةً بحجة رفض التعرض إلى حرية الإبداع، وهذه الفزاعة ينبغي تجاوزها لمناقشة ما يقدمه الفنانون في إطار مبادئ أخلاقية، وضمن سياق حرية الرأي، وحرية التعبير. تكرّر الأغنية، كمثال فني، تكريس الوضع التمييزي للمرأة، وتتجاهل كلماتها أفكاراً عملت مئات النساء والرجال طيلة عقود على تثبيتها في وعي وثقافة المجتمع، مثل التعامل مع الأنثى ككيان مكافئ للذكر، وليس كائناً ناقصاً، أو إنساناً من الدرجة الثانية. تعيد "يوم تلات" ما تداولته أعمال فنية كثيرة سابقة من عدم استهجان فئات من المجتمع، وأحياناً إعجابها، بتصرفات للذكور ما زالت محظورة على الإناث، والمثير أن كثيرات من النساء لا تلفت نظرهن تلك الفكرة كثيراً، كما لا تبدي غالبيتهن اعتراضاً على هذا النوع من التمييز. والمستغرب أن ناشطات حقوق المرأة يخفت صوتهن كثيراً في مواجهة ما تقدمه كثير من الأعمال الفنية من إهانات للنساء، سواء على مستوى تصوير المرأة ككائن أضعف، أو أقل جدارة، أو تكريس استخدام جسدها كوسيلة للمتعة، أو تبرير هيمنة الرجال، وبعض تلك الأعمال الفنية المتهمة تقدمها نساء للأسف. يفترض بالنساء جميعاً، وليس فقط الناشطات، استغلال كل المناسبات المتاحة للتذكير بضرورة توقف الفن ووسائل الإعلام عن التعاطي مع موضوعات الحقوق والحريات جندرياً، أو تنميط المرأة، أو منح الرجال حقوقاً أو صلاحيات أو امتيازات تحرم منها النساء. لا أنكر أنني طالعت أصواتاً نسائية عبرت عن غضبها سابقاً من خطورة رسائل الفن والإعلام، لكنها تظل أصواتاً محدودة، وخافتة، وبالتالي لا تلقى تفاعلاً كافياً. من بين التساؤلات التي طالعتها تعليقاً على "يوم تلات": ماذا لو أن مطربة تغنت بكلمات مشابهة؟ وأين دعاة حماية أخلاق المجتمع من تكرار تعبير الرجال عن رغباتهم الجنسية؟ ولماذا لا يرفض الجمهور المشاهير عندما يتضح أنهم بلا أخلاق؟ في رأيي أن تلك التساؤلات المتناثرة يتم طرحها على استحياء، أو بطرق ملتوية خشية من تداعياتها، كما تلجأ بعضهن إلى قصر الأزمة على كون المجتمع ذكورياً، وهو كذلك بالطبع، لكن الواقع يؤكد أن المجتمع لن يتغير طالما استمر الخوف من مواجهته بمشكلاته، وحثه على ضرورة معالجتها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 29 يوليو 2019

الخروج من الأزمة


 يأمل عدد كبير من المصريين، والعرب، أن يؤدي خروج مصر من أزماتها الراهنة إلى إنهاء كثير من الأزمات بمنطقة الشرق الأوسط، على اعتبار أن مكانة مصر وقدراتها في مجالات عدة كانت قادرة في أوقات سابقة على تحقيق ذلك. لكن هذا المنطق، في رأيي، يناقض الواقع، ومن يردده إما جاهل أو ساذج، وربما منخدع بما يروّجه حكام مصر كذباً من أنها استعادت مكانتها اللائقة، وهي مكانة تتراجع منذ عقود لأسباب متباينة، على رأسها سوء تصرف حكام البلاد أنفسهم، والأوضاع الإقليمية والدولية. في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كانت الدولة المصرية تتدخل في شؤون كل دول الجوار بأشكال مختلفة، بينها القوة العسكرية. حدث هذا في اليمن كمثال صارخ، وكان التحالف مع سورية وتكوين الجمهورية العربية المتحدة جزءاً من رغبة مصرية في التوسع أو السيطرة، لكن تلك الرغبة ذاتها كانت سبباً مباشراً في عدم صمود تلك الوحدة طويلاً، وكان عبد الناصر لا يتورع عن تهديد دول وحكام. لا شك أن مصر وقتها كانت تمتلك أيضاً قوة ناعمة مؤثرة تتمثل في الإعلام والثقافة والسينما، والمدرسين والأطباء والمهندسين، لكن هزيمة الجيش المصري في اليمن، ثم هزيمة 1967 أضرت كثيراً بهذه القوة. في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، خسرت مصر المزيد من قوتها على جميع المستويات، حتى أن غالبية الدول العربية قاطعتها بعد اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الإسرائيلي، كما تدهورت قوتها الناعمة أيضاً خلال مهاترات الانفتاح الساداتي. في عهد الرئيس السابق حسني مبارك زاد اعتماد مصر على الدعم الخارجي، العربي والدولي، ما جعل قرارها محكوماً بتوجهات المانحين، ومرتهناً بمواقفهم. ظل نظام مبارك بمناوراته وألاعيبه قادراً على البقاء، لكن هذا لم يمكّن البلاد من أي مكانة أو قوة. بمرور السنوات، فقدت مصر الثقل الكبير السابق في محيطها العربي، وتراجعت قوتها الناعمة في مقابل قوى أخرى؛ ربما ما زالت الذاكرة العربية تعتبرها حاضرة مهمة، لكن الواقع أن دولاً أخرى باتت تحتل المكانة الأهم، سياسياً واقتصادياً، وإعلامياً وفنياً. ولا شك أن استعادة مصر لمكانتها السابقة ليس بالأمر السهل، ربما لأن الخسارة فادحة، أو لأنها خسارة على مستويات متعددة، فضلاً عن أن العرب بعد فورة النفط، والتحالفات المتشعبة، انسلخوا تماماً من شعارات القومية الناصرية إلى الهموم المحلية، ناهيك عن تداعيات التبعية، أميركية كانت أم روسية. الوضع المصري مزر جداً، وتوقع تغييره خلال فترة وجيزة ضرب من الخيال، ومثله تماماً الواقع العربي. علينا دائماً الاعتراف بحقيقة الواقع، وبعدها التمسك بالأمل كضرورة.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 14 يوليو 2019

تربية المراهقين



 قبل فترة طالعت إعلاناً في وسائل الإعلام عن دورة متخصصة في "تربية المراهقين"، ولما كنت أحد الآباء الذين يعايشون تجربة طفلين على أعتاب المراهقة، قررت أن أتبين التفاصيل، فاكتشفت أن المدرب لا يمتلك شهادة علمية في التربية، أو علم النفس، وإنما واحد من هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم حالياً لقب "مدرب تنمية بشرية" بغرض التربح. قناعتي الراسخة أن كل شخص يتخذ قراراته ويبني اختياراته وفقاً للطبيعة الأيديولوجية والثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه، ثم مواقف عائلته من مجموعة المبادئ الأساسية، وأبرزها الحقوق والحريات، فضلاً عن التجارب التي يخوضها شخصياً، والأخطاء التي يقع فيها. يفترض أن الإنسان كائن يتعلم من خلال تجاربه، ويستفيد من أخطائه، وكلما كثرت تجارب الشخص زادت خبرته، وكلما قلت أخطاؤه بات أقرب إلى النجاح. لا أدعي أنني والد مثالي، فأحياناً يدفعنا خوفنا الغريزي على أطفالنا إلى ارتكاب أخطاء لا ندرك خطرها إلا بعد فوات الأوان، لكني رغم ذلك حريص على أن أظل والداً متفهماً، سواء لطبيعة المرحلة العمرية التي يمران بها، أو للتباين بين تفاصيل مراهقتهما وما كانت عليه مراهقتي، كما أحاول جاهداً عدم تكرار أخطائي تجاههما فور اكتشافها. أبرز مشكلات التعامل مع المراهقين تتمثل في عدم إيمان الأهل بأهمية النقاش، ومن مظاهر تلك المشكلة أن لا يتمكن الأب أو الأم من إدارة حوار جدي مع الابن أو الابنة، أو أن ينتهي الحوار سريعاً بقرار من الأهل دون الانتباه إلى وجهة نظر الأبناء، أو إلى أسباب اعتراضهم على القرار. يخطئ كثير من الآباء حين يسلبون أبناءهم حق الاختيار ظناً منهم أنهم أكثر وعياً من أطفالهم، أو أن الأبناء غير مؤهلين نظراً لحداثة سنهم، أو قلة خبراتهم، لكن الواقع أن هذا الفعل عادة ما يظهر فشل الأهل في إقناع الأبناء بصحة قراراتهم، أو عدم قدرتهم على مواجهة حجج الأبناء القوية. لا أنكر أيضاً أنني أتعلم الكثير من تعاطيهما مع مواقف مختلفة، فمثلما نؤثر نحن في قناعات واختيارات ومستقبل أطفالنا، فإن لهم تأثيراً كبيراً على قراراتنا وخياراتنا ومستقبلنا، وتلك العلاقة التكاملية ضرورية، ويجب البناء عليها. شخصياً، أحاول منح طفليّ القدرة على التعامل مع مستقبل يبدو أسوأ من الواقع السيئ الذي نعيشه حالياً، وأوضاع عالمية ينتظر أن تفتقد إلى كثير من مبادئ العدالة، وتتراجع فيها حريات الأشخاص وقدرتهم على الاختيار بفعل تدخل الحكومات والمؤسسات. ويتطلب التعاطي مع هذا المستقبل في رأيي الكثير من التمسك بالمبادئ والثقة بالنفس، وليس الكثير من التحصيل العلمي.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية