الخميس، 28 فبراير 2019

ثورة عمر مكرم


يقبع مسجد "عمر مكرم" في قلب ميدان التحرير بوسط القاهرة، وهو يحمل اسم أحد أشهر مناضلي مصر في العصر الحديث، والذي يمكن اعتباره الزعيم الشعبي الذي لم يتكرر. إذ قاوم كل احتلال وكل استبداد، ولم يطمع في السلطة حين أتيحت له.

كان عمر مكرم (1750- 1822) نقيبا لأشراف مصر، وبدأ صيته كزعيم حين تصدى للمظالم والضرائب التي كان يفرضها على بسطاء المصريين القائدان المملوكيان "إبراهيم بك" و"مراد بك"، ثم قاد لاحقاً نضالاً شعبياً مسلحاً ضد الاحتلال الفرنسي لمصر (1798-1801)، كما قاد المقاومة الشعبية المسلحة ضد "حملة فريزر" الإنكليزية سنة 1807.
لكن الأبرز في تاريخه كان قيادته لثورة شعبية ضد الوالي العثماني خورشيد باشا، إذ أقر خلعه بقوة السلاح رافضاً المقاومة السلمية التي اعتبرها لا تصلح في مواجهة جنود مسلحين.

ووثق المؤرخ المصري الراحل مصطفى صادق الرافعي واقعة السجال بين عمر مكرم ومستشار الوالي العثماني، والذي جادله مستنكراً: "كيف تنزلون من ولاه السلطان عليكم؟ وقد قال الله (أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)؟ فأجابه عمر مكرم: "أولو الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وهذا رجل ظالم. حتى السلطان إذا سار في الناس بالجور فإنهم يعزلونه".

وتروي كتب التاريخ أن الثورة ضد خورشيد باشا عمت أنحاء القاهرة، وأن المحال أقفلت وتوقف عمل الأسواق، وهو ما يسمى حالياً بالعصيان المدني، ثم احتشد الآلاف فى الشوارع يهتفون ضد قرارات الوالي، وعندها بدأت المفاوضات معه للرجوع عن فرض الضرائب، فلما فشلت انتقل هتاف الجماهير إلى المطالبة بخلعه.

وعلى مدار أربعة شهور، تواصلت الثورة ضد الوالي، وكانت أبرز مطالبها تتمثل في حق الشعب في تقرير مصيره، واختيار حاكمه.

نجحت الحملة في خلع خورشيد باشا، وحينها عرضت على عمر مكرم السلطة، فرفضها.
تقرر تعيين محمد علي باشا والياً، واشترط عليه من عينوه، وعلى رأسهم عمر مكرم، "أن يسير بالعدل، ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم، وألا يفعل أمراً إلا بمشورة العلماء، وإن خالف الشروط عزلوه".

استجاب محمد علي ظاهرياً للشروط، وحين تمكن من السلطة خالفها جميعاً، وخضع له غالبية العلماء، إلا عمر مكرم الذي رفض تسلطه، فعزله الوالي الذي كان قد عينه من جميع مناصبه، ونفاه من القاهرة إلى دمياط، عقاباً له على عدم خضوعه.

ليس الغرض من رواية تاريخ عمر مكرم التسلية أو الثناء، وإنما لأنه فصل مهم من تاريخ العرب الحديث الذي يجب تدارسه، فربما نتعلم منه أو نعتبر، فلا نسقط في تكرار نفس الأحداث مجدداً.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الخميس، 21 فبراير 2019

قصص الاعتراف تحت التعذيب في مصر... نموذج متكرر




في 1991 تم القبض على 3 أشخاص في كفر شكر اتهموا في جريمة سرقة وقتل تمت في الكفر، التلاتة اعترفوا بالجريمة بتفاصيلها قدام النيابة واعترافهم كان متطابق مع تحقيقات المباحث واحيلوا للمحاكمة في الجناية 427/ لسنة 1991 وصدر حكم المحكمة بالاعدام للمتهم الأول وبالأشغال الشاقة المؤبدة على المتهم التاني والتالت، وفي النقض الحكم اتخفف للاشغال الشاقة المؤبدة للمتهم الأول والأشغال الشاقة لمدة 15 سنة للمتهم التاني والتالت 
في 2004 وبعد ما قضوا 13 سنة في السجن، مسجون جديد في السجن ووسط قعدة مع المساجين كان بيتفاخر بارتكابه للجريمة وبعدها تمت اعادة المحاكمة، التلاتة قدام المحكمة اعترفوا بانهم تم تعذيبهم بشكل بشع عشان يقولوا الاقوال دي فمكنش قدامهم غير كده.

في 1996 كان فيه قضية شهيرة في الإسكندرية لأب تم اتهامه وادانته بقتل بنته بعد اختفائها من البيت بشكل مفاجئ، الأب: محمد بدر الدين جمعة إسماعيل راح قسم شرطة المنتزه وبلغ عن إختفائها، بعدها الشرطة لقت جثة فتاة مجهولة الهوية والملامح، ظابط الشرطة عشان يعمل شغل ويبقى قفل القضية راح قبض على الأب وتم اتهامه في القضية 43806/1997 جنايات المنتزه بقتل بنته وتم عرضه على النيابة واعترف بقتل بنته قدامها وتم احالة القضية للمحاكمة
في الواقع بنته مكنتش اتقتلت ولا ماتت أصلا، كانت هربانه من البيت وراحت عند أمها اللي هي طليقته، في 1998 بعد سنتين من حبسه خبر القضية بتاعته اتنشر في الجرايد الأم صعبة عليها فخدت البنت وراحت القسم تقول للظابط ان البنت مماتتش فقام الظابط حبصها هي وبنتها وفضلوا محبوسين فترة فياحدى زنازين القسم لحد ما جه تفتيش بالصدفة على القسم واكتشفوا وجودهم فتم القبض على مجموعة من الظباط اللي اشتركوا في الواقعة وتم تحويلهم للمحاكمة. 
في جلسة المحاكمة اللي بعدها القاضي سأل محمد " انت اعترفت ليه مع انك عارف ان العقوبة الاعدام" فكان رده " ولو مكنتش اعترفت كنت هموت من التعذيب، فالاعتراف هيأجل الموت شوية وهيخليه أرحم"، وتم الافراج عنه. 

في 1999 تم اتهام حبيبة محمد سعيد سالم (الفنانة حبيبة) بقتل جوزها/ عطا الله جعفر عطا الله " قطري الجنسية" بعد اعترافها قدام المباحث وبعدين اعترافها قدام النيابة، تم إحالتها للمحاكمة في القضيه رقم 6849 لسنه 1999جنايات الهرم، والمحكمة حكمت عليها بالسجن عشر سنوات.
في 2004 بعد ما قضت خمس سنين في السجن تم التوصل لأحد الجناة بعد ما باع ساعة غالية من مسروقات القتيل، في جلسة إعادة المحاكمة حبيبة قالت إنها اعترفت تحت التعذيب والتهديد من ظابط المباحث. 

في القضية 14860 لسنة 2000 جنايات طوخ، تم القبض على مجموعة من الأشخاص واعترفوا أمام النيابة بارتكابهم جريمة قتل خالد عبد التواب، والمحكمة أصدرت حكمها بالسجن المشدد لجميع المتهمين 
في 2003 وبعد سجنهم 3 سنين، تم القبض على الجناة الحقيقيين اللي قتلوه بدافع السرقة، وفي جلسة إعادة المحاكمة المقبوض عليهم قالوا إنهم اعترفوا تحت التعذيب، ومكنش فيه اختيار تاني غير الموت.

في القضية 6750 لسنة 2004 جنايات الرمل، تم القبض على شاب اسمه إبراهيم، وتم اتهامه بقتل جدته، وقدام النيابة اعترف بارتكابه للجريمة، بعد شهر تم القبض على الجاني الحقيقي بالصدفة، والنيابة بدأت تحقيقات جديدة في القضية، قال إبراهيم فيها إن ظباط مباحث قسم الرمل احتجزوه هو وأسرته وقاموت بتعذيبه بالضرب والصعق بالكهربا، وجابوا خطيبته وهددوه إنهم يغتصبوها، فالاعتراف بارتكاب الجريمة كان أهون بكتير.
 

في 2015 حصل تفجير قدام استاد كفر الشيخ كان المستهدف طلاب الكلية الحربية اللي بيركبوا الباصات بتاعتهم من قدام الاستاد، مات 3 طلاب واصيب اخرين، تم اتهام 8 بارتكاب الجريمة ، 4 منهم مقبوض عليهم و3 هربانين، برغم تقديم أدلة تفيد انهم مقبوض عليهم من قبل الحادثة ب6 شهور وانهم ملهمش علاقة بالحادث بناء على تحريات المخابرات العسكرية اتحكم عليهم بالاعدام، بعد الحكم عليهم وفي2017 اتقبض على مجموعة في القضية المعروفة اعلاميا ب ( داعش الصعيد ) واحد منهم اعترف بارتكاب جريمة التفجير مع اخرين وده يوقف الحكم مباشرة ويعيد المحاكمة من أول وجديد 



في يونيو 2015، تم إغتيال النائب العام السابق هشام بركات، في الوقت ده كان فيه ناس مقبوض عليهم من قبل الاغتيال وشباب اتقبض عليهم بعد الحادثة، بعدها ظهر في الإعلام فيديو لشباب أهلهم بيدعوا بمحاضر رسمية حرروها إنهم كانوا مختفين لفترات طويلة، في الفيديوهات الشباب بيعترفوا بارتكابهم الواقعة وبيشرحوا هم نفذوها إزاي، واتشاركوا مع بعض إزاي.
بعد كده الشباب طلعوا في المحكمة وحكوا عن تعذيبهم وإجبارهم على حفظ الاعترافات، والتوقيع عليها، وتسجيلها، المحكمة محققتش في ادعاءات التعذيب اللي قالوها، استنفذوا كل مراحل المحاكمة، وانتهت المحكمة بالتصديق على إعدام 9، والسجن المؤبد والمشدد لبقية المتهمين، من ضمنهم شاب كفيف متهم بتدريب بقية المتهمين على عمليات القتال واستخدام السلاح والقنص، كفيف مبيشوفش، أيوه. والمحكمة معرفتش إنه كفيف غير بعد سنة من المحاكمة لما طلعوه من القفص.
 

دي وقائع احنا عرفناها لان حصل حاجة بالصدفة بينت برائتهم، وأكيد في ألاف الأشخاص دخلوا السجن أو اتعدموا بناء على اعتراف ليهم تحت التعذيب بارتكاب جريمة. 
اللي فكرني بالوقائع دي ويخليني أكتب عنها كل مرة نتكلم عن الإعدام بشكل مطلق سواء في القضايا السياسية أو القضايا الجنائية هو تخيلي لوهلة إن هؤلاء الأشخاص اللي اتلفقلهم قضايا وكانوا على وشك القتل لولا أن حاجة ظهرت بينت برائتهم، طب لو مكنش دليل البراءة ده ظهر وتم تنفيذ حكم الإعدام، وبعد كده عرفنا إن الشخص برئ، إزاي هتعوضه وتعوض أهله بعد ما قتلته. ده غير الوصم اللي بيقع عليه هو وأسرته، ايه ممكن يعوضهم؟؟؟
لما نيجي نتكلم عن القضايا السياسية وأشوف بعيني المتهمين بيقولوا معملناش واعترفنا تحت التعذيب وكنا مختفين قسريا لفترات طويلة بعضهم من قبل الحادثة، لو اعتبرنا إن دي مجرد ادعاءات مفيش عليها دليل، فهل لا تستحق النظر فيها والتحقيق بجدية؟ وإيقاف المحاكمة لحين النظر فيها خاصة إن القضية معتمدة على الاعترافات اللي بيدعوا إنها حصلت تحت التعذيب، وعلى تحريات الظابط اللي هم متهمينه بتعذيبهم، مين يقدر يفصل؟ وليه ميحصلش تحقيق في ده؟
ليه القاضي مسألش محمود الأحمدي عن أمين الشرطة اللي عذبه، واللي اتعرف عليه؟ ليه متمش الكشف الطبي على اللي ادعوا تعذيبهم، سواء وهم في مرحلة التحقيق قدام النيابة، أو قدام المحكمة؟ ليه مبيتمش تأخير تنفيذ العقوبة وخاصة في الظرف السياسي اللي بتمر بيه البلد، وشبهة إنعدام المحاكمة العادلة؟ 
لما شخص بيقول إنه اتعذب عشان يتم إجباره على الاعتراف أنا بصدقه، أولا لأني بصدق الضحايا لحين ثبوت العكس، وثانيا لأن ده مجاش من فراغ وإنما من تاريخ طويل من التعذيب والتهديد وتلفيق القضايا، ومنهج ماشية عليه الأجهزة الأمنية في مصر من يوم نشأتها، سواء في القضايا السياسية أو الجنائية، بيعتمد على إنه ينهي شغله ويقفل قضاياه وخلاص، مش مهم اللي قبض عليه برئ ولا لا؟ وعشان كده لازم يعذب المقبوض عليهم ويهددهم بأهلهم عشان محدش يتكلم، وتفضل القضية ماشية ضدهم لحد ما يتحكم عليهم، وحظابط يترقى ويكبر على حساب حياة الناس وأرواحهم. 
جانب مخيف من اللي بيحصل والإجراءات اللي بتم بالمخالفة للقانون هو تغييب وإخفاء الحقائق عننا، وده بيخلي ناس كتير واقفة في حتة في النص مش عارف يكون مشاعر تجاه الضحايا، هل هم فعلا أذنبوا ولا لأ؟ هل ارتكبوا الجريمة زي ما التحقيقات والتحريات بتقول؟ ولا اتقبض عليهم بالاشتباه واتعذبوا وأجبروا على الاعتراف زي ما بيحكوا؟ وفي الحالة دي المجرمين الحقيقين أحرار؟
 لما نبقا كلنا بنسأل الأسئلة دي يبقا فيه شبهة، ولو 1% إن الأشخاص دول بريئين، فهل هنقبل في النهاية أن يتم قتلهم باسمنا؟
أنا ضد القتل دايما وأبدا، القتل بيفضل قتل حتى لو باسم القانون. 
#اوقفوا_التعذيب
#اوقفوا_احكام_الاعدام 
#اوقفوا_الاعدام



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 15 فبراير 2019

فالانتين



لا يُعرف على وجه التحديد متى اعتمد يوم 14 فبراير/شباط من كل عام عيداً عالمياً للعشاق تيمناً باسم الكاهن الروماني الذي قُطع رأسه عقاباً له على تزويج العشاق وفق الديانة المسيحية.

لكن الاحتفال بالمناسبة بات رائجاً في كل دول العالم، حتى تلك الدول القليلة التي كانت قبل سنوات تمنعها لأسباب مختلفة، أغلبها مرتبط بتفسيرات قاصرة لنصوص دينية، أصبحت أكثر تساهلاً في السنوات الأخيرة، إما استجابة لضغوط الانفتاح والعولمة، أو لأسباب تجارية.
عاش الكاهن المسيحي "فالانتين" في القرن الثالث الميلادي، واستمد شهرته من تحدي سلطة الإمبراطورية الرومانية المهيمنة وقتها، والتي كانت ضد الزواج وفق تعاليم المسيحية، بحسب الروايات الرائجة.

ورغم أن فالانتين تم اعتقاله وحكم عليه بالإعدام عقاباً له على تحدي قوانين الإمبراطورية، إلا أن هذا كان سبباً في تخليد اسمه كشهيد للحب ونصير للعشاق.

لكن اختيار يوم المناسبة عبثي بالنسبة لي، إذ كيف يتم اختيار يوم قطع رأسه ليكون يوماً لعشاق العالم؟ كان الأولى بالباحثين عن يوم للاحتفاء بالعشاق اختيار مناسبة سعيدة من قبيل اقتران عاشقين شهيرين، بدلاً من يوم فقدان إنسان لحياته.

ربما يجد العشاق في ارتباط العشق بالمأساة جدوى ما تغيب عن عقلي، أو بالأحرى لا يريد عقلي تقبلها، فالواقع يوثق أن قصص كثير من العشاق المشاهير التي لا تزال متداولة حتى اليوم، انتهت بطريقة مأساوية أو حزينة، سواء بالدماء مثل روميو وجولييت، أو دون اقتران مثل جميل وبثينة، أو قيس وليلى، أو لم تكتب النهايات أصلاً وتمت التعمية عليها كما في قصة عنتر وعبلة، وإن بقيت قصة العشق المشتعل متداولة.

شخصياً، يميل عقلي إلى اعتبار الحب أحد أسباب شقاء البشر الكثيرة، خصوصاً عندما يتسبب في تغييب العقول، أو يتحكم في مصائر العشاق، وإن جاز لنا أن نأخذ عبرة وعظة فيمكننا استرجاع واقعة قتل قابيل ابن آدم لشقيقه هابيل للاستئثار بالأنثى الأجمل التي كان يفترض أن تتزوج شقيقه، أو قصة حرب طروادة التي استمرت لعشر سنوات بسبب قصة حب تسببت في قتل الآلاف.

لا شك أن الأمر نفسه ينطبق على حب المال وحب السلطة أيضاً، وإن كانت الآثار التدميرية والدموية أكبر كثيراً من تلك الخاصة بقصص الحب بين الجنسين.


رغم كل ذلك، فإن أحداً لا يمكنه الجدال في أن البشر لا يمكنهم العيش من دون الحب، وأن العلاقة بين الجنسين هي أصل الحياة على كوكب الأرض، وأن قصص الحب المأساوية الشهيرة تلك، لا يمكن بحال أن تقارن بملايين قصص الحب الناجحة على مدار التاريخ، والتي كانت سبباً مباشراً في بقاء الجنس البشري.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

كتاب "النقد الأدبي" لسيّد قطب.. آفاق منسية




محمد الأسعد

بعد أكثر من سبعين عاماً على صدور كتاب "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" لسيّد قطب (1906 - 1966)، الكاتب والناقد الأدبي في تلك الأيام، قبل أن ينتقل إلى عالمَي الأيديولوجية والسياسة ويسبح بعيداً في خضمّ تياراتهما، وبعد مرور مياه كثيرة تحت جسور النقد الأدبي ومدارسه؛ يمكن القول إن هذا العمل كان فاتحة لآفاق أوسع وأبعد مما تداولته، آنذاك وفي ما بعد، أوساط المجدّدين العرب على كل الأصعدة، وخاصةً صعيد الشعر والرواية والقصّة والمسرح والنقد، وإن هذه الآفاق، لم تجتذب إلا قلّة من الروّاد - من أمثال الشاعر العراقي محمود البريكان - وجدنا لديها صدىً لبعض مما تردّد من تعابيره ومصطلحاته؛ مثل "الأدب الحي" و"المنهج المتكامل" و"وحدة القيم الشعورية والتعبيرية".. وما إلى ذلك.
صدر هذا الكتاب عام 1948، أي في وقتٍ كانت الحياة الأدبية العربية، والحياة العربية بشكل عام، تمرّ بتغيّرات عظمى تهيّأت شروطها في مجريات القرن التاسع عشر، بكل ما حملته هذه من كوارث أبرزها استعمار فلسطين، ومن وعودٍ وآمالٍ أبرزها وعد بالتجدُّد والنهوض تطلقه أجيال جديدة.
ومع أن تيارات التجديد على الصعيد الأدبي، تيار الرومانسية والواقعية على وجه الخصوص، كانت قد بدأت في ترسيخ أسسها في وجه التيار التقليدي الراسخ، إلّا أن اتجاه سيّد قطب في كتابه هذا كان مفارقاً لهذه التيارات، التقليدي منها والمجدّد، متطلّعاً إلى أسس أكثر انفتاحاً وإنسانية قوامها وضع "أصول مفهومة بدرجة كافية للنقد الأدبي"، بعد أن لاحظ عدم وجود "مناهج.. تتبعها هذه الأصول".
وسيتّضح هذا الاتجاه المنفتح على قاعدتَي العلم والروح الأدبية الفنية، ومحاولة التوفيق بينهما، كلّما مضينا في القراءة؛ بدءاً بالمقدّمة، ففصل القيم الأدبية والتعبيرية، ثم فنون العمل الأدبي بأنواعها، وصولاً إلى قواعد النقد ومناهجه، المنهج النفسي والتاريخي والفني والمتكامل.كانت المهمّة، إذاً، هي وضع أصول في وقتٍ كان لكلّ فريق ما يعتقد أنه "أصوله القائمة على مناهج"، بدءاً من مدرسة "الديوان" في نقدها لتيار الإحياء الأدبي على أساس مقولات النقد الإنكليزي، ومروراً بمدرسة "أبولو" الرومانسية في نقدها لجماعة "الديوان" على أساس ملتقطات من مجلّة "شعر" الأميركية، وصولاً إلى دعاة الأدب الواقعي، الأدب للشعب، المستمدّ من الواقعية الاشتراكية. وتضع كلمات الإهداء التي تصدّرت الكتاب علامات هادية أمام القارئ، ذات دلالة مهمّة في هذا الاتجاه: "إلى روح الإمام عبد القاهر، أوّلِ ناقد عربي أقام النقد الأدبي على أسس علمية نظرية، ولم يطمس بذلك روحه الأدبية الفنية.. في وقت مبكر شديد التبكير".
يبدأ الكتاب بموجزٍ يمنح قارئه فكرة عمّا يعنيه النقد الأدبي: "وظيفة النقد الأدبي وغايته هي تقديم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمه التعبيرية والشعورية، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كلّه، وقياس مدى تأثّره بالمحيط وتأثيره فيه، وتصوير سمات صاحبه، وخصائصه الشعورية والتعبيرية، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك".
قد يبدو هذا الموجز للوهلة الأولى مجرّد تعاليم شبه مدرسية، إلّا أن تطبيق هذه المبادئ منذ الفصل الأول، وعدم البدء بذكر المناهج وتفاصيلها، يفتح الطريق أمام إدراك أننا أمام نهج جديد في تناول العمل الأدبي بأنواعه المختلفة.
ولعلّ عبارة "وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كلّه" هي مفتاح هذا الجديد؛ فهي تمضي من قراءة العمل الأدبي في ضوء "لغته" إلى قراءته في ضوء "العالم الأدبي كلّه"، بكلّ ما يعنيه هذا من اتخاذ معايير نقدية أشمل وأوسع من معايير هذه الثقافة أو تلك.
وهذا هو بالتحديد ما نجده حين يذهب الكاتب في شرح ما يعنيه بتعبير "التجربة الشعورية" التي هي عنده شرط أدبية أيِّ موضوعٍ يتناوله الكاتب، إلى الكشف عن عوالم ثلاثة شعراء هم الهندي طاغور، والفارسي عمر الخيام، والبريطاني توماس هاردي، فيكشف بذلك عن ثلاثة عوالم، الأوّل عالم السماحة والرضا، والثاني عالم الحيرة، والثالث عالم اليأس والقنوط. وفي ضوء هذا يحاول إثبات أن "الأدب يفتح للإنسانية عوالم جديدة من الشعور". وفي هذه العوالم تكمن قيمة العمل الأدبي، فـ"ليس بالقليل أن يضيف الفرد الفاني المحدود إلى آفاق حياته صوراً عن الكون والحياة كما تبدو في نفس إنسان ملهم ممتاز هو الأديب".
بالطبع، يمكن أن نجد صدى لهذا الإعلاء من قيمة "الأدب" لدى قلّة من الكتّاب كما قلنا، إلّا أن هذا المنحى، أي ربط الأدب بالتجربة الشعورية، والحديث عن هذه التجربة بوصفها كشفاً عن كون وحياة متميّزَين هي موضع حاجة كل إنسان، لم يتواصل في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم نعد نجد من يتابع هذا القول: "يفتح الأدب للإنسانية عوالم جديدة من الشعور.. وما دمنا قادرين على أن نعيش تجارب هؤلاء الأدباء مرّةً أخرى وننفعل بها، فإن هذا رصيدٌ يُضاف إلى أعمارنا، وزادٌ يُضاف إلى أزوادنا في الرحلة القصيرة المحدودة على هذا الكوكب الأرضي الصغير".
ماهي سمات هذه العوالم التي تستحق كل هذا الاهتمام؟

يُضاف إلى ذلك تمييزه الذي نقرأه لأول مرّة، والذي لا سابقة له في مقولات النقد الأدبي العربي، بين تقانتَين تتعلّقان بطريقة تناول الموضوع: الأولى هي تلك التي دأب على ممارستها شعراء العربية، وتقوم في الغالب بتصوير التجربة الشعورية في ثوابت فكرية وقواعد في أبيات قليلة، ويضرب مثلاً بالمتنبّي وابن الرومي والمعري، الذين نخلص معهم إلى حِكَم لا إلى تجارب قادت إلى هذه الحِكَم، والثانية هي ما عرضها لدى طاغور والخيّام وهاردي، وتقوم على تصويرهم لعوالمهم في مشاعر ومشاهد جزئية، ننتهي من خلالها إلى عوالم شعورية حية.من وصفه العملَ الأدبي كوحدة مؤلَّفة من الشعور والتعبير، أو كما يُقال حالياً، وحدة مؤلّفة من شكل ومضمون، ينتقل قطب إلى خصائص هذا العمل في ضوء قراءته تجارب الشعراء الثلاثة الذين أشرنا إليهم، وهي أوّلاً، تفرُّد العالم الذي يكشف عنه، أي طابعه الشخصي المتأتّي عن طريقة الشعور والتعبير وتناول الموضوع (الأسلوب)، وثانياً، الشمول والخروج من الجزئي والاتصال بما يسمّيه "منبع الوجود" (شعور بقضية كبرى وراء الجزئيات)، وأخيراً الصدق، ويقصد به الصدقَ الفني كما يوضّح بمثال من بيتَين شعريَّين لأحمد شوقي يرسم في الأول صورة لقصور غرقى على شاطئ نهر مصابة بالفزع، ويتلوه الثاني فيشبّه هذه القصور ذاتها بعذارى سابحات في الماء يُخفين بضّاً ويُبدين بضّاً، ويرى في هذه الصورة والتشبيه "تجربة شعورية مزوّرة".
هذا هو جوهر ما يرمي إليه كتاب "النقد الأدبي"؛ وضعَ أسسٍ لنظر قائم على مبادئ تتجاوز أفق الأدب المحلّي أيّاً كان نوعه، وتتطلّع إلى وضع معايير مستمدّة من آفاق وحاجات إنسانية شاملة، جامعاً بذلك بين النهج الفني والنفسي والتاريخي في قالب واحد يسمّيه "المنهج المتكامل".
والأكثر أهمية أن أسلوب هذا الكتاب بعيد كل البعد عن الإبهام الذي سيسود مباحث النقد الأدبي في العقود اللاحقة، ويصبح "علامة" امتياز للناقد الأدبي العربي طوال الخمسين عاماً الماضية، وصولاً إلى مشارف القرن الحادي والعشرين. إنه كتاب فتح أفقاً، ومازال هذا الأفق مفتوحاً ينتظر من يرتاده.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 3 فبراير 2019

كوميديا عساكر وادي النيل

يوصف المصريون بأنهم "شعب ابن نكتة"، لأنهم يسخرون من كل شيء وأي شيء، حتى من أنفسهم، وكثيراً ما استخدمت النكتة للتعبير عن الغضب، إذ إن المقيمين حول نهر النيل يعانون منذ قرون رغم الخصب الذي ينشره النهر في تربتهم. في مصر كما في السودان، يحكم عسكريون منذ عقود طويلة، ويعاني الشعب في البلدين من الفشل والاستبداد وسرقة الثروات، ويلجأ الناس عادة إلى سلاح "النكتة" التي تزعج العسكري أكثر من أي شيء آخر، رغم أنها لا تغير كثيراً في واقع أوضاع البلاد. يؤكد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد (1813- 1855) أنه "حين يبدأ الشعب بإنتاج النكتة، فاعلم أنه بدأ يشعر بالجوع والفقر". في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي قال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في شهادته بالقضية المعروفة إعلامياً بقضية "اقتحام السجون"، إن رئيس المخابرات الأسبق، عمر سليمان، أبلغه بأن "حوالي 800 شخص من جنسيات مختلفة تسللوا عبر الحدود المصرية من الناحية الشرقية"، وأن سليمان لم يخبره عن جنسيتهم أو هويتهم وليست لديه معلومات عن ذلك، "ولكن معروف أنهم قادمون من غزة، وتحديداً حماس". وزاد مبارك الذي تمت تبرئته من غالبية القضايا التي أقيمت ضده، وخصوصاً قتل المتظاهرين، أن الهدف من تسلل هؤلاء كان "علشان يزوّدوا الفوضى في أحداث يناير. استخدموا الأسلحة الثقيلة وضربوا أقسام الشرطة من رفح للشيخ زويد للعريش، ثم انقسموا داخل البلاد في أماكن كثيرة وتوجهوا للسجون ومدينة القاهرة والميادين، وتحديداً ميدان التحرير، وكان هدفهم إخراج السجناء، وأطلقوا النار في ميدان التحرير على المتظاهرين لإحداث الفوضى". لم يذكر مبارك في شهادته أي شيء عن دور الجيش الذي كان هو قائده الأعلى لمنع هذا التسلل الخارجي. ولا عن دور المخابرات العسكرية التي كان يديرها وقتها اللواء عبد الفتاح السيسي، الرئيس المصري حالياً. تحولت الشهادة إلى مصدر جديد للسخرية من خزعبلات العسكريين الرائجة في وادي النيل. قبل أيام، اتهم المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، عبد الله قوش، قوى اليسار بالسعي إلى تسلم السلطة لتطبيق مشروع "السودان الجديد" وإحداث الفوضى الشاملة، وقال: "هناك خمسة جيوش تنتظر ساعة الصفر لتتقدم نحو الخرطوم، بعد إشغالها بالفوضى وأعمال السلب والقتل، وذلك حتى لا تجد من يقاومها". وعلى غرار مبارك، لم يذكر قوش أي توضيح حول كيفية سماح الجيش السوداني باحتشاد خمسة جيوش، ولماذا لم تتم مواجهتها قبل التقدم نحو عاصمة البلاد، فتحولت التصريحات إلى فصل جديد من السخرية من خزعبلات العسكريين في وادي النيل.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية