الخميس، 27 ديسمبر 2018

انتفاضات عربية



كلّما انتفض أفراد من أيّ شعب عربي طلباً للحقوق والحريات والعيش الكريم التي تتجاهلها حكوماتهم الديكتاتورية الفاشلة الفاسدة المستبدة، ظهر من يتّهمهم بالخيانة في بلادهم، وفي بلاد أخرى تخشى أن تصلها عدوى الاحتجاجات الاجتماعية. الشعوب العربية مقهورة وحقوقها ضائعة أو منقوصة. حتى هؤلاء الذين يروّجون أنّهم يتمتعون بالعيش الرغيد، فإنّ أحداً منهم لا يملك رفع صوته لانتقاد الحكومة أو الحاكم، مهما فعل؛ وهو يكتفي بالتمتع بالمال لكنّه لا يعرف المعنى الحقيقي للحرية، وكثيراً ما يزعم هؤلاء أنّ العيش في أمان أهمّ من الحرية. الحكومات في العالم العربي، شرقاً وغرباً، مستبّدة أو تدعم الاستبداد، ولو زعم بعضها العكس، تمارس التطبيع مع إسرائيل علناً وسراً، ثمّ تروّج أنّها تدعم حقّ الشعب الفلسطيني في التحرّر. تأتمر بأوامر ترامب أو بوتين، ثم تدّعي أنّها تحكم دولاً ذات سيادة. يكره أغلب حكام العرب ثورات الربيع العربي لأنّ مطالبها كانت مشاركة الشعب في الثروة والقرار، بينما كثير منهم يفعل ما يشاء وقتما يشاء من دون حساب، ولا تعرف الشعوب العربية الديمقراطية، ما يجعل أوضاعها مزرية. يرفض البعض حكم العسكريّين بعد أن ثبت فشله حول العالم، بينما ما زال البعض عربياً يتمسّك به، والأوضاع في مصر وفي الجزائر وفي السودان وفي موريتانيا تشهد بالفشل. بشار الأسد ليس عسكرياً، لكنّه أيضاً ليس رئيساً ديمقراطياً لسورية، وإنّما ورث الحكم من والده الجنرال. عمر البشير جاء به الإخوان في انقلاب عسكري إلى سدّة الحكم في السودان، ظناً بأنّه سيترك السلطة لاحقاً، لكنه لم يفعل. وسبقه في ذلك جمال عبد الناصر في مصر، الذي أطاح بالرئيس محمد نجيب حين فكر في تسليم السلطة إلى المدنيين ليعود الجيش إلى ممارسة مهامه في حماية الحدود. لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن المؤامرة على بلاد العرب واضحة، إذ إنّ هناك من قرّر تدمير كلّ بلاد العرب الكبرى الغنية، أو تحويل شعوبها إلى فقراء، أو إغراقهم في الجهل. هذا هو الوضع حالياً في حواضر عربية كبرى مثل العراق وسورية واليمن والسودان والجزائر، وسبق ذلك فلسطين. من يدمّر البلدان العربية ليس عربياً، هو المستعمر القديم نفسه، وحكّام العرب متواطئون معه. مصر والسعودية على وجه الخصوص. في أيّ كارثة عربية، يتجاهل حكام العرب الضحايا لأنّهم عادة متورّطون أو مسؤولون أو مقصّرون. قارن ذلك بتوافدهم على باريس للمشاركة في مسيرة ضدّ الإرهاب. في تظاهرات السودان، يتجاهل الإعلام العربي الأحداث، وكذا يفعل الإعلام الغربي. قارن ذلك بالتغطية الواسعة لتظاهرات السترات الصفراء في فرنسا.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

ذكريات ضائعة


جلس صديقي القادم من مصر، يحكي عن توجهه مؤخرا إلى أحد المقاهي التي كنا نرتادها سويا على ضفة نهر النيل في الجيزة، وكيف أنه لم يجد المقهى الذي تم إزالة جميع معالمه، وأنه اضطر إلى التوجه لمقهى ثان في نفس المنطقة لم تكن تعجبنا جلسته أو مشروباته، أو يدللنا العاملون فيه.
قال صديقي إنه كان منزعجا من تغير طبيعة المنطقة المحيطة بسبب ظهور بناء ضخم أحال هدوءها السابق إلى ضجيج وزحام متواصل، لكن كل هذا كان هينا مقارنة بغضبه من زوال المكان الذي كانت تقصده مجموعتنا لسنوات، وأن ذكريات المقهى الكثيرة مرت أمامه كشريط فيديو حين اكتشف إزالته.
كنت أتابع حديثه منزعجا أيضا، لكن انزعاجي كان أقل حدة منه لأسباب مختلفة.
ورد ذكر المقهى الذي كان يحكي عنه قبل فترة قصيرة في حديث جمعني بأصدقاء أخرين حول مناطق التجمع في القاهرة، ووقتها كنت منزعجا جدا، ليس لأنه تمت إزالته، إذ لم أكن أعلم وقتها، وإنما كان مصدر انزعاجي أنني لم أستطع تذكر اسمه.
لاشك أن فترات الغربة تجعلنا ننسى كثير من التفاصيل التي كانت سابقا هامة في حياتنا، وهي إن كانت تفاصيل صغيرة، ونسيانها ليس أمرا ذا شان، لكنها تؤكد أن عقولنا تقوم بطريقة غير محسوسة بتفريغ تفاصيل ومعلومات قديمة لتحل محلها أخرى عن أماكن وذكريات لازلنا على علاقة مباشرة بها.
ذكرتني تلك الواقعة بما كتبه على "تويتر" في شهور غربتي الأولى قبل نحو خمس سنوات، أحد رفاق الثورة السابقين الذي أغضبه رفضي تأييدهم للانقلاب العسكري، فاعتبر أنني انقلبت على "الشلة"، وإنني خسرتهم كأصدقاء.
بعد نحو ثلاث سنوات مما كتبه الصديق السابق عني، عرفت أنه اضطر إلى مغادرة مصر خوفا من اعتقاله بعدما بات يقول إن ما جرى في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، هو "انقلاب عسكري"، بعد أن كان يسميه "الثورة الثانية"، وقال لي صديق مشترك إنه طلب منه إبلاغي بإعتذاره.
أتابع طيلة السنوات الماضية آراء كثير من رفاق الثورة السابقين الذين شاركوا في دعم حركة "تمرد"، وشاركوا في تظاهرات الثلاثين من يونيو، رغم وضوح أنها كانت مصنوعة للإجهاز على كل مكتسبات ثورة يناير.
بعضهم اكتشف بعد فوات الأوان، أنه تم استخدامه في الانقلاب على الثورة التي كان مؤمنا بها، وأخرين لازالت تأخذهم العزة بالإثم ويرفضون الاعتراف بالجريمة التي ارتكبوها في حق تلك الثورة.

لازلت غير قادر على التسامح مع المعترفين بالخطأ، خصوصا الأصدقاء السابقين منهم، ولا أفهم أسباب عدم إزالة عقلي لمواقفهم الكريهة تلك من ذاكرتي مثلما حدث مع أمور أخرى لا تزعجني بنفس القدر.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

"كفرناحوم"... أربعة أطفال يعيشون المأساة نفسها





عن: العربي الجديد
قدمت المخرجة اللبنانية نادين لبكي في أحدث أفلامها "كفرناحوم" الخليط الإنساني نفسه الذي عرفته أفلامها السابقة، والذي كان سبباً في تهافت مهرجانات دولية على أفلامها، ولا شك في أن ذلك كان سبباً مباشراً في حصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي الدولي، ثم حصوله قبل أيام على جائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان "أجيال" السينمائي في الدوحة.

كنت حريصا على مشاهدة الفيلم بعدما تابعت على مدار أكثر من شهرين حالة من الجدل التي أثارها داخل لبنان على خلفية سياسية، أو بالأحرى طائفية، وما يهمني في الفيلم، هو موضوعه الإنساني، وأسلوب تقديم هذا الموضوع، فضلاً عن العناصر الفنية الأساسية من تمثيل وتصوير وموسيقى وإيقاع وغيرها.
بعد العرض الوحيد للفيلم الذي حضره، في دار السينما في قطر، عددٌ كبير نسبياً من الأشخاص، كانت آثار الدموع واضحة في أعين كثير من الجمهور، ومعظمهم سوريون ولبنانيون، بسبب المشاهد المأساوية التي ضمها الفيلم، حتى أن البعض اعتبر تلك المشاهد مقصودة لاستدرار التعاطف، وهذا لا يعيب الفيلم، بل على العكس هو أحد أسباب نجاحه.
الطفل "زين" هو محور الفيلم الأساسي، ومن خلال قصته المروعة انتقلت نادين لبكي لاستعراض عدد من المآسي الأخرى التي لا تقل فداحة عن مأساة الطفل الذي ينتمي إلى فئة "مكتومي القيد"، وهم أشخاص لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وبالتالي لا يمكنهم ولوج المدارس أو الحصول على العلاج، وغير ذلك من الخدمات الحكومية.
يعيش زين وأشقاؤه الخمسة مع والديهم في الحي الفقير على هامش الحياة، لكن الطفل الذكي يحاول التحايل على كل الظروف ليوفر لنفسه ولإخوته بعضاً من الكرامة في ظل تقاعس والديه عن ذلك، ربما لأن قسوة الظروف أكبر من قدرتهما على التحمل، وفق محاولتهما للتبرير في أحد حوارات الفيلم.
يرفض الطفل زواج شقيقته (11 سنة)، ويحاول إقناع أبويه بعدم تزويجها، لكنه يفشل لأنهما اتخذا قرارهما بمنح الطفلة لابن صاحب المنزل مقابل البقاء في المنزل الضيق الذي يؤوي العائلة. عندها يقرر "زين" مغادرة المنزل غاضباً، لتبدأ سلسلة أخرى من المصاعب المتشابكة مع قصص آخرين.
كانت نادين لبكي جريئة في طرح قضية هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة، والذين لا تلتفت إليهم الحكومات، لكنها كانت مغامرة بطرح قضية الخادمات الإثيوبيات الشائكة في المجتمع اللبناني؛ فالفتاة الإثيوبية "راحيل" قررت الاستغناء عن أوراقها الثبوتية حتى لا تفقد طفلها الذي أنجبته من علاقة غير شرعية، ولجأت إلى أحد المزورين ليمنحها أوراقاً تخولها البقاء في لبنان بصحبة ابنها، في حين حاول المزور- طويلاً- إقناعها ببيع ابنها له.
انخرط "زين" في حياة "راحيل" وابنها، ربما بسبب تقارب الظروف، ثم حاجته إلى من يؤويه، وحاجتها إلى من يرعى ابنها خلال فترة عملها، لكن فترة الهدوء انتهت سريعاً باعتقالها بتهمة عدم امتلاكها رخصة تخولها العمل، ما دفع الطفل زين بعد محاولات مضنية لرعاية ابن راحيل إلى التخلي عن الطفل للمزور.
خلال فترة الهدوء، برزت قصة ثالثة للطفلة السورية اللاجئة التي تبيع المناديل أو الزهور وغيرها لمن يقودون السيارات لتجمع المال الذي يمكنها من تحقيق حلمها بالهجرة إلى السويد، ورغم أن تلك القصة لم تأخذ حيزاً واسعاً في الفيلم، إلا أن تعبيرها الطفولي عن أحلامها يعبر عن جيل من الأطفال الضائعين، فكل آمالها في الهجرة تتمثل بحسب قولها في منزل خاص بها يمكنها أن تغلق بابه بنفسها، ويتاح لها فيه أن تسمح لمن تشاء أن يدخل وتمنع من تشاء من الدخول.
لم تكتفِ نادين لبكي بتلك المآسي الثلاث، إذ قذفت في وجوه جمهورها المأساة الرابعة التي مهدت لها في بداية الفيلم، فالطفلة "سحر"، شقيقة زين، التي زوّجها أهلها قسراً، ماتت على أبواب المستشفى الذي رفض استقبالها حين كانت تعاني من النزيف بسبب الحمل في سن مبكرة، وكان سبب رفض علاجها عدم امتلاكها أوراقاً ثبوتية.
يؤكد الفيلم أن الفقر هو أصل الشرور، وأحد أهم أسباب الكثير من الجرائم، فالطفل يسرق ويروج المخدرات، ثم يحاول قتل الشاب الذي يعتبره مسؤولاً عن وفاة أخته، قبل أن يقرر مقاضاة والديه اللذين يعتبرهما سبباً مباشراً في المأساة التي يعيشها هو وإخوته.


كان يفترض بالفيلم أن يهتم أكثر بقصة "سحر" التي كانت سبباً مباشراً في تطور الأحداث، بداية من هروب بطله، ثم دخوله السجن، إلى تحول قصته إلى قضية إعلامية، لكنها رغم ذلك ظهرت مهمشة، فشاهدنا والدها يجبرها على الذهاب إلى منزل زوجها، ثم انقطعت أخبارها، قبل أن نعرف لاحقا أنها ماتت على أبواب المستشفى.
يمكن أيضاً ملاحظة الافتعال الواضح في جعل زين نجماً إعلامياً من خلال المكالمة الهاتفية من داخل السجن بأحد البرامج التلفزيونية، وهذه الواقعة من الصعب تصورها في الواقع، والتي كان يمكن إيجاد بديل درامي لها، لكن يبقى لصناع السينما حق اختيار طريقة الطرح التي تناسبهم، حتى إن لم تعجبنا.
تشابك القصص المأساوية للأطفال الأربعة، "زين" وشقيقته "سحر"، وصديقته اللاجئة السورية وابن راحيل الرضيع، يجعل فيلم "كفر ناحوم" يستحق الاهتمام، رغم بعض مواضع الوهن، إذ قدمت نادين لبكي المشكلة الإنسانية في إطار سينمائي جيد، ووفق إيقاع درامي يجذب الانتباه، ولا يخلو من موسيقى معبرة، وتقنيات تصوير محترفة.
لكن أداء الأبطال الأطفال، يظل أكثر الأمور تميزاً، وعندما تعرف أن هؤلاء الأطفال لم يسبق لأي منهم التمثيل، فإنك عندها تدرك المجهود الكبير الذي بذلته لبكي في تدريبهم وإدارتهم للوصول إلى هذا المستوى المتميز الذي يقارن بأداء مميز للممثلين المحترفين المشاركين في الفيلم.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية