السبت، 5 سبتمبر 2020

وائل قنديل يكتب: من بياع الخواتم لبياع الرافال... محرقة الصور




يا ست فيروز: هذا ليس "راجح"الحقيقي، القادم إلى الضيعة لكي يساهم في صناعة لحظات أفراحها، بتوزيع الخواتم على المحبين.
كما أنه ليس"راجح" الشبح الذي صنعه المختار في مخيلته وقدمه إلى أهل الضيعة، بوصفه الخطر الشرير، والشر الخطير، الذي يهدد سكونهم وأمنهم وسلامتهم، إن لم يحتشدوا خلف المختار مؤيدين ومصفقين وخانعين.
يا ست فيروز: هذا بياع الرافال، لا بياع الخواتم، هذا الشاب الفرنسي تاجر سلاح وتاجر موت وتاجر خراب، لا يفرق كثيرًا عن التاجر الأميركي العجوز الوقح، شريكه في حلب كل الضيع وامتطاء كل المخاتير.
هذا ماكرون وليس راجح يا ريما حتى تفتحين له منزلك وتستقبلينه بكل هذه الحفاوة وكل هذا السرور، وكأنه جاء يوزع الخبز والملح والمحبة، بالقسط، على كل سكان الضيعة، غير ناظر إلى الملة أو اللون أو العرق.
كما أنك لست حنجرة تافهة، نمت وترعرعت في مراعي سعيد عقل، المزروعة كرهًا للعروبة ولفلسطين، المروية بمياه التطبيع الملوثة"بكير" قبل أن يدشنوا الجسور الناقلة لبضائع وخدمات بوتيكات ثقافة السلام.
هذا يا ست ريما، ليس راجح، كما أنه ليس خالك المختار ، حتى تتركين له الفرصة للاستثمار السياسي في فنك وإبداعك وإشراقك داخل وجداننا وسطوعك في ذاتنا حتى صار جزءً من تكويننا..هذا صانع المخاتير المستبدين، والقيم على طغيانهم يحركه ويوجهه ويستعمله كيف يشاء.
هذا شخص ينتمي إلى ذلك المعسكر الذي يتقن فن صفعنا بالصور ، ويعرف كيف يقهرنا ويسحقنا ويهزمنا باللقطات شديدة الانفجار والتدمير في الوعي الأعمق، يجيئ إلى لبنان الكرامة والشعب العنيد، في الأوقات التي يختارها هو، لا يستأذن أهل الضيعة، ولا ينتظر دعوة من مخاتيرها، يذهب ويعود وكأنها ضيعته، يوزع فيها الثروة والسلطة، ذات اليمين وذات الشمال، ويلتقط الصور وهو يدرك أنه يحفر على جلودنا علامات وكلمات تسلطه علينا.
وقع صورة هذا الوغد الشاب وهو يقف في عقر دارك يا فيروز، علينا وعلى مشاعرنا، نحن محبيك وعارفي قيمتك والممتنين لغنائك النقي في الحفاظ على إنسانيتنا وعروبتنا ، يا حنجرتنا، ومئذنة مساجدنا وبرج كنائسنا، لا يقل قسوة وإهانة  عن وقع صورة الحذاء الصهيوني يضعه جندي الاحتلال فوق وجه شيخنا الفلسطيني الجليل المدافع عن أرضه وداره.


أوجعتنا بالقدر ذاته  صورته إذ يحتوي مغنية سعيد عقل على صدره، وكأنه الراعي جاء بالحماية وللجباية ، تمامًا كما أوجعتنا صور أطفال الإمارات يتسربلون بأعلام العدو، أو لقطات فحيح الغرام القذر بين خليفة الإماراتي، ومن قبله محمد سعود السعودي، ونتنياهو الإسرائيلي.
نعم، هي صورة الفرنسي المقاتل من أجل ضمان تفوق المستعمر الصهيوني واستعلائه على الذات العربية، في صحن دار تلك التي ربطت قلوبنا بواسطة خيوط من حرير صوتها المنساب من السماء بقبة الصخرة وساحات الأقصى وأبراج كنيسة المهد وكنائس القدس وفلسطين كلها، ليقول لنا إن العيون التي لمعت بالفرحة وهي تستقبله في بيروت، لم تعد عيونكم، بل هي عيون فرنسا، ويغيظنا باللقطات ولسان حاله يقول: انسوا تلك العيون التي كانت ترحل بكم إلى القدس كل يوم، تدور في أروقة المعابد، وتعانق الكنائس القديمة، و تمسح الحزن عن المساجد..فهذا ليس زمن القدس والمقدسات، بل زمن برج خليفة مضاءً بأعلام الاحتلال، هو زمن صفقات السلاح والنفط ونخاسة المواقف السياسية.
تأمرنا اللقطات الخادشة للكرامة الوطنية بأن نكون مثل محمد البرادعي، ننسى الماضي، ونتسول مكانًا في مستقبل يهندسه ويرسم حدوده المحتل..نتنازل عن الرواية الحقيقية لما جرى، ونبتدئ سردية جديدة للمسألة، لا يكون فيها الاستعمار استعمارًا، ولا يبقى العدو عدوًا ولا الحق حقًا، ولا قدسية لشئ أو لدم أو لتراب، ثم نجلس نرتشف كأسين من المؤانسة الحارة مع إيهود بارك، الذي قتل من العرب ما لم يصل إليه صهيوني قبله ولا بعده.

تلك هي صور واقعنا، كما يريدونه لنا، ويسعون إلى تثبيته، مطلوب منا أن ننحني أمامها ونسلم بأن هذا حالنا الراهن وفي المستقبل، وعلينا أن نرضخ، وصوت المستعمر القديم/الجديد يجلدنا بصوت عفيفي مطر وهو يصور  في ظلمة الزنزانة واحدة من"احتفاليات المومياء المتوحشة" ويقول:
 أرضك مفترق تتسع به أرض الأغيار،
وتعبره أمم وجيوش،
للأقوى وعبيد الأقوى ميراثٌ أنت لمن يرثون،
على كتفيك تكسرت الامواج تواريخ مجاعات
وطغاه منكسرين ومزهوين
بتدليس «الابهة البيزنطية.»



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 1 أغسطس 2020

عبد الحكيم حيدر يكتب: بلال فضل واللعب بذيلين




لن أقول إن بلال فضل (بنكاته) مع أحمد آدم، وترقيص حواجبه مع خروف الممثل هاني رمزي في برنامجه، مع فردة كاوتش (إبراهيم عيسى) التي كتب عليها (الاستبن) في الأستديو، مع استعانته بمجموعة من السواطير والشواكيش، مع حليفهم باسم يوسف، لن أقول إنهم كانوا الفرشة الناعمة لإزاحة محمد مرسي المنتخب الشرعي، ولكن المسألة كانت أكبر من ذلك بكثير.
هناك من حشد بالملايين وشركات السياحة (العاطلة عن العمل) في منتجعاتها السياحية، بعدما أملوا عليهم أن مرسي وأعوانه سيكونون أسّ البلاء عليكم، وساويرس اشترى نصف المجموعات الثورية والأدبية والفكرية والتنظيرية والصحافية، من مراكزها ومقاهيها ومنتدياتها بفلوسه وجوائزه وعملائه، وموّل حزبين على الأقل، وجعلهم في صفوف المعارضة، وحوّل ثائرات أسياخ وثائرين، لا يشق لهم غبار، في يوم وليلة، إلى مهاجمات ومهاجمين على مرسي ليل نهار (ريم ماجد وخالد تليمة وأحمد دومة وأماني الخياط)، من أسند إليه عملاً بالقطعة، أو من تم تعيينه، وهذه عينة بسيطة لقناة واحدة، حتى إن صديق بلال الحميم في دستوره الأول، حمدي عبدالرحيم، كان له نصيب، وآخرون يصعب حصرهم تنقلوا من طقس إلى آخر، من دون كلل أو ملل، وهذه جهود رجل أعمال واحد..
لم ننتقل إلى باقي رجال الأعمال وقنواتهم، أو القنوات العربية الصديقة، ولا إلى القضاء الشامخ، ولا إلى ثلاثة وزراء من وزراء الداخلية (منصور العيسوي ومحمد إبراهيم وأحمد جمال الدين) كانت أياديهم مع كل أيادي ثوار 6 إبريل مع الاشتراكيين الثوريين، مع كل نوادي المجتمع المدني، مع أولاد عبد الناصر وأحفاده مع التجمع مع "الحزب الوطني" مع "الوفد" مع عمرو موسى وحمدين صباحي، مع نكات بلال فضل مع زغاريد يسرا وفيفي عبده وليلى علوي مع كوادر الحزب الوطني مع (تسلم الأيادي) ونقابة المحامين (العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم)، كلهم معا في حزمة واحدة (ودع الأجهزة الأمنية على جنب)..
وعلى الرغم من ذلك نقول إن الوحيد من هذه الشبيبة، وتعدّى الأربعين بقليل، وفضّل المنفى هرباً، خوفاً على دماغه وموهبته، وهو موهوب حقاً، هو بلال فضل.
وإن كنا نقول إن الموهبة تكفي صاحبها أن يلعب سياسة بذيل واحد، فما بال بلال، اليوم، يحاول بعدما دفع الثمن، على الأقل غربة، أن يلعبها بذيلين؟
في مقاله (تجريم عبد الفتاح السيسي) يقول عن السيسي إنه (يستغل خطايا وجرائم الإخوان)، فأي جريمة يا سيد بلال؟ إلا إنْ كانت جريمة الاتحادية التي استُشهد فيها تسعة من شباب الإخوان في ليلة (النستون يا معفنين) التي كتبت فيها زبدة ضحكاتك ونكاتك؟
أما عن "سيئ الذكر"، كما تقول عنه الآن محمد مرسي (من قتل مئات المتظاهرين)، فهات لي قائمة بهذه المئات، يا أخي، لكي نقارنها بمذابح السيسي التي كانت هينة ورقيقة جداً إلى درجة أنك تساوي بين الاثنين بسهولة مرنة.

يا بلال سترجع، لا تخف أبداً على (خالتك فرنسا) وبرامجك، وما حققته على الشاشة الصغيرة والكبيرة، فالنظام يسامح أبناءه، وأنت، يا أخي، موهوب، وتستطيع أن تلعب بذيل واحد في مساحة صغيرة جدا، فلا تكلف نفسك عناء اللعب بذيلين.
لا تخف، ستعود، قريباً، بكامل ذنوبك، والسلطة التي لم تتغير، تسامح الأبناء الضاحكين، لأنها لا تأخذهم على محمل الجد (ومحمود السعدني الذي يعد قدوتك عاد وصهلل ثانية، وأنت من تلاميذه أو محبيه).
الباب موارب دائماً يا بلال، وأنت سيد العارفين.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

أروى صالح.. "المبتسرون" في زمن التحرش والهزيمة





عن العربي الجديد

كلّما تفجّر نقاش التحرش في المجتمع الثقافي المصري، أتذكّر الكاتبة أروى صالح (1951 - 1997)، وكتابها "المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية" (1996)، وفيه سردت حكاية جيلها الذي صنعته، أو بالأحرى دمّرته هزيمة عام 1967، والتي يُطلق عليها "النكسة".
كانت أروى أحد الموهوبين في جيلها الذي يّوصف بأنه جيل الحركة الطلابية في السبعينيات، و"المبتسرون" شهادة مهمّة على هذا الجيل وعلى الوسط الثقافي، واليسار، والنخبة، وأظن أنه لا زال صالحاً للاستدلال في الوقت الحالي، خصوصاّ أن هذا الجيل لا زال يحتل حيزاً كبيراً في ما يمكن أن نسميه "النخبة الثقافية" في مصر، سواء في الانتاج الأدبي، أو المواقف، أو الفضائح.
في "المبتسرون"، فصلٌ مهم بعنوان "المثقف عاشقاً"، وفي العنوان رمزية تشير إلى ما أسمته أروى صالح "النضال على السرير"، وهي تفضح فيه أساليب مثقفين كبار في الإيقاع بضحاياهن من خلال الوعود والكلام المعسول، ويؤكّد عدد من أصدقائها الذين اطلعوا على نسخة الكتاب الأولى قبل النشر، أنه كان يضمّ أسماء شخصيات معروفة، بعضهم رحلوا وآخرون كانوا أحياء وقتها، وسردُ لوقائع تعرّضت إليها أروى شخصياً، لكن تمّ حذفها قبل النشر حتى لا يتعرض الكتاب إلى المنع، أو لا يتمّ مهاجمته بدعوى أنه يشوّه الأشخاص.
وهي تقول في هذا الفصل الكاشف: "لا شيء يعدل تهافت البرجوازية على الجنس قدر عجزها عن الاستمتاع به"، وتقول: "إن المثقف في علاقته بالمرأة يسلك كبرجوازي كبير، أيّ كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة".
قدّمت شهادة مهمة على اليسار والوسط الثقافي في مصر السبعينيات
أطلقت أروى صالح سهاماّ كثيرة على المثقفين، وانتقدتهم بصراحةِ أحد أفراد المعبد الذي قرّر أن يفضح ممارسات الجميع، فكتبت: "يكفي أن تكون كاتباً، أو أن يتمّ تعميدك بهذه الصفة، لتحظى بمكانة مرموقة تُصبح قيمة بذاتها تمارس إرهاباً على الآخرين الذين لا يحق لهم أن يحكموا على ما تكتب، بل عليهم أن يشتغلوا مفسرين له، ودعاة متحمسين ملزمين بالدفاع عنه، ذلك أن الكتابة تنتمي لصفوة الصفوة المبدعين الذين يُحددون الاتجاه، والعقول التي توجه المنفذين".
وكتب الشاعر المصري عبد المنعم رمضان في مقال عنها: "كانت الأقوال المتناثرة عن أروى تتضارب، وترسم لها أكثر من صورة، صورة نضالها، وصورة ثقافتها، وصورة أزواجها، ثم صورة كبيرة لخصوماتها وانتحاراتها الفاشلة؛ كانت قمراً على قمر عند البعض، وطيناً تحت طين عند آخرين، طهارة كاملة عند البعض، ودنساً كاملاً عند آخرين".
ألقت أروى بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997، لتموت منتحرة بعد عدّة محاولات فاشلة للانتحار، وقد كتبت بنفسها في كتابها الذي يجمع بين الفصحى والعامية المصرية: "أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت بيبقى جزء لا يتجزأ من الحياة".
الصورة
اجتهد كثيرون لتفسير، أو تبرير أسباب انتحار صالح، والأرجح أن عدم قدرتها على مسايرة الواقع كان سبباً مباشراً لانهزامها في مواجهته، وقرارها بالمغادرة، ومن أصدق ما كتب في التفسير ما قالته هي نفسها: "رابطتي الأكثر حقيقية بالواقع، تبقى الإيمان الصلب بأجمل ما أنتجه البشر وهم يحاولون اكتشاف حلمهم وصنعه نقياً، ناصعاً، ومبرّأ من وساخة هؤلاء البشر أنفسهم. والذين كنت عاجزة في العلاقة المباشرة معهم عن تفسير لغزهم، فضلاً عن التعامل معهم، فاقدة أبسط روابط الثقة بهم، وكأن الواقع مصرّ على السخرية من إيماني الحصين في قلاعه الخاصة، الحقيقية جداً رغم كل شئ، والتي كنت أجري لأحتمي بأحضانها من قساوته كلما تعضني".
وكتبت ضمن ما يمكن اعتباره من الأسباب: "في ذلك العالم الوهميّ تنبت أرض لكل أنواع العجائب، وفيها يمكن أن يستحيل الأقزام فحولاً، وأن تولد المآسي الوضيعة من مهازل رخيصة، وأن تُستغل التضحيات النبيلة في إرضاء نزوات مريضة، وأن تنشأ صداقات حميمة، بل وعلاقات حب، بين أناس لا يجدون سبيلاً حقيقياً واحداً للتعرف على بعضهم البعض، وأن تكتسب أية خزعبلات لخيال مهووس قوة اليقين، وأن تصنع الأحداث الهامة صدفاً بعضها طريف، والبعض الآخر بذيء. كل ذلك كان ممكناً وأكثر ما دام يحدث في واقع مصطنع خارج كل واقع، ومن ثم فهو أكثر تشوهاً من أي واقع".
وقد وصفتها الكاتبة والناقدة المصرية أمينة النقاش، قائلة: "كانت أروى فتاة دقيقة الحجم، رقيقة الملامح، وسيمة الروح، ذات وجه طفولي وصوت خفيض، لكنه مفعم بالحماس الذي يبدو وكأنه ثقة بالنفس. تمتلك حيوية عقلية ساهمت ثقافتها المتنوعة وذكاؤها اللماح في شحذها وتجددها، وأمدتها بحضور آخاذ، مما جعلها دوماً نجمة السهرات بلا منازع".
ألقت بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997
لكن فساد الوسط الثقافي لم يكن السبب الوحيد لما وصلت إليه أروى، فللهزيمة أثر واضح في حياتها، وحياة كلّ جيلها، وربما لا زالت آثار الهزيمة ماثلة في العقل الثقافي الجمعي المصري والعربي حتى الآن.
تقول أروى في "المبتسرون": "عندما تحوّل زمن عبد الناصر إلى ماض ضاعت معالمه، تُهنا! ولم نجد ما نتوكأ عليه في المتاهة سوى الحنين. تعرّي وعينا التاريخي وهو يُواجه حاضراً لا يسير وفق نبؤاته الثورية، فأخذنا نولول مع النادبين على زمن الانهيار"، وتضيف: "اليوم أصبح مُبرر وجود القضية، أي قضية، هو تأكيد ذواتنا التي تمددت كثيراً في الفراغ"، وقد تنبأت بأنه "سينتهى الحال بجموع الناصريين واليساريين على حجر إسرائيل".
وفي محاولة لتحليل ما جرى، تسرد صالح: "الهزيمة رشقت الأسئلة بلا رحمة في قلب هذا الحلم، حينها بدونا كشعب يُحاول بعد طول نسيان أن يستعيد قدرته على التفكير، وتركه النظام الذي انكسرت هيبته الغشوم بالهزيمة، يلهو بهذه اللعبة الخطرة إلى حين، واندفع المثقفون، كل الفئات المتعلمة، يُعيدون فتح كل الملفات المحرّمة، وتجرّأ المبدعون على مناورة الرقيب، يقولون كلاماً خطيراً تماماً بقدر ما كانت تستقبله تربة متعطشة تبحث عن طرق جديدة تسلكها، عن إلهام لشعب لم يكن قد استولى عليه اليأس بعد. لهذا كان زمن الهزيمة هو الأكثر حيوية على كل مستوى يمكن تخيله في كل تاريخ نظام ثورة يوليو، حيوية لم يعرفها الشعب لا قبلها ولا بعد النصر، وفي هذا الزمن بالذات اندلعت الحركة الطلابية".
وتواصل: "إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الأصنام من كل نوع: ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن (الكل باطل) احتياج لا ينتهي عندهم".
ولم تتجاهل أروى رصد ما جرى لجيلها بعد الهزيمة، فقالت: "البحث عن الأمان- المادي والمعنوي أيضاً- انتهي بالبعض من البرجوازيين الصغار من المناضلين السابقين إلى نهايات لم يحلم بها مثقفو الستينيات، فالعمل في المقاولات مثلاً، بل والانتقال إلى أحزاب فاشستية سافرة لكنها تتضمن صعوداً سريعاً وقبولاً اجتماعياً، ناهيك عن المؤسسات الصحفية الخليجية التي امتصت كل من له ظل موهبة في عمل ثقافي، والذي كان أثره الوحيد الحقيقي هو تحويلهم إلى باعة ثقافة على المقاس البترولي".
كانت الصدمة ماثلة في كلّ ما كتبته صالح، ومنه: "لقد تهاوت الحدود التي كانت واضحة حتى الأمس بين الحقيقة والزور، والخصوم والحلفاء، وأيضاً بين الصواب والخطأ"، لكنها في الوقت ذاته لا تنكر الخطأ أو تدعي الذكاء، كيف ذلك "وقد استحق المغفلون أن يمتطيهم الأفاقون".
في أعقاب انكسار حلم تحقّق مطالب ثورة 25 يناير، تذكّرت ما كتبته أروى صالح في "المبتسرون" عن جيلها، جيل النكسة، لأنه يمكن أن ينطبق بشكل ما على جيلي أيضاً، أو على الغالبية فيه، ومنه: "خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة والإذعان لقوة الأمر الواقع، أو حتى أعلن الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار في طريق الندامة، واعتزال الحياة، والمرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة".
وتضيف: "دهمتنا نحن أيضاً حجلة الانتقال من زمن إلى زمن. كنا نظنه زمننا، وأننا سنغيره، ولكن لم نتبين مواقع أقدامنا بما فيه الكفاية، فقد اتضح مرة أخرى أن زمن قادة الشعب الحقيقيين لم يحن بعد"، لكن دائماً "الأبطال لا يظهرون في غيبة الملاحم".


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 10 يونيو 2020

النقد الفني... مهنة مستباحة


نشرت أولا في مجلة الكويت

يصر معظم كتاب السينما العرب في الداخل والخارج، حين نسألهم نحن المحررين عن الأفلام التي شاهدناها معهم أو الظواهر التي نرصدها من دونهم، على أن نُسبقَ أسماءهم بلقب الناقد، وبعضهم يحرص أن يكون لقبه متبوعا بلفظة «الكبير» رغم أن الكثير منهم لا يستحق أكثر من لقب «الناقم».

بات النقد السينمائي والنقد الفني عموماً مباحا متاحا لكل من شاهد فيلما سينمائيا ووجد من ينشر له في زاوية أو عمود وما أكثر من ينشرون حاليا في ظل الهجمة الإلكترونية القائمة التي انتهت بنا إلى نقاد لا نعرفهم إلا عبر مدوناتهم أو صفحات الفيس بوك دون أن يخبرنا أحدهم بصلاحياته للحديث.
شخصيا حاول البعض أن يصفوني بالناقد رغم حرصي الدائم على رفض اللقب الوثير الذي يستعذبه كثيرون من زملاء المهنة وبات معروفا عني جملة مأثورة يتناقلها عني الأصدقاء نصها «الله يحرق النقاد» وسببها كفري التام بالنقاد العرب الذين لا يملك معظمهم أيا من أساسيات النقد التي تؤهلهم أصلا للكتابة ناهيك عن التحليل والنقد.
كيف أتقبل أن زميلا أو صديقا في نهاية العقد الثاني من عمره بات ناقدا محترفا وكيف يمكنني قبول تحول صحفي فشل في ممارسة المهنة إلى ناقد باعتباره النقد أسهل كثيرا من الصحافة فهو لا يحتاج في رأي أشباه النقاد إلا مشاهدة الأفلام ثم جلسة هادئة وكوب شاي لزوم تدبيج مطولة لا يمكن لعاقل أن يكملها لعدم ترابط معانيها حول عمل فني لا يعرف الكاتب عنه إلا ما شاهده على الشاشة كما لا يعرف عن السينما إلا عدة أفلام شاهدها وعدداً أكبر من المقالات التي كتبها غيره.
عشت كثيرا في جدل عميق مع زملاء وأصدقاء حول أحقية فلان أو علان في إطلاق لقب الناقد عليه وكنت دائما أحاول البحث عن سند لمن يصنف نفسه ناقدا دون وجه حق، كم فيلما شاهد في حياته؟ وهل درس النقد الفني؟ بمعنى أنه يعرف النظريات الفنية والاتجاهات النقدية وكم من الكتب والدراسات النقدية قرأ في حياته طالت أو قصرت وبأي لغات؟.
وهل يدرك مدعي النقد الفروق بين الأجيال السينمائية وتغير التقنيات في الصناعة من جيل لآخر وكم مهرجانا حضر؟ وكم ندوة ناقش فيها صناع السينما؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي أعتقد أن الناقد لابد أن يكون لديه منها حصيلة واسعة من الأجوبة قبل أن نطلق عليه لقب «ناقد».
الجدل كان ينتهي دائماً بأني ناقم على النقاد أو أنني لا أعترف بالنقد كمهنة رغم أن هذا غير حقيقي على الإطلاق لأني أقرأ لنقاد كبار كثيرين وأحرص على قراءتهم حتى أتعلم وأفهم بينهم مصريون وعرب وأجانب كونت منهم قائمة أضيف إليها كل فترة اسما جديدا وأحذف أيضا كل فترة أسماء تسقط من وجهة نظري في هاوية المصالح أو تعمد إلى بيع قلمها وهؤلاء باتت كثرتهم أمرا محزنا حقا.
تبقى الأزمة في تعدد المنابر الإعلامية التي تريد كتابات لملء فراغات وتسويد صفحات دون النظر إلى قيمة ما يكتب أو مستوى ما يقدم فيه من تعليقات وملاحظات وعلاقته بالنقد وكونه ينتمي إلى الانطباعات أم إلى الانتقادات التي لا تكون عادة مبنية على نظريات أو أسس نقدية.
وبينما نعرف في العالم العربي معاهد متخصصة للنقد الفني وجمعيات للنقاد تتفاوت في قوتها وعدد أعضائها من بلد لأخر إلا أننا لا نمتلك تعريفا محددا للناقد الفني إجمالا قبل أن نتحول إلى تصنيف النقاد في المجالات المختلفة حيث إننا نعرف نقاد السينما بشكل واسع بينما لا نعرف تقريبا نقادا للتليفزيون وينحصر عدد نقاد الموسيقى والغناء في فئة محدودة جدا تجعل الأمر مختلطا بين تلك المجالات المتباينة.
حالة الخلط تلك ألقت بنا في هوة سحيقة من التضارب النقدي فالناقد السينمائي مثلا يكتب في التليفزيون والموسيقى والمسرح وربما في الفنون التشكيلية وهو أمر لم يعرفه أي بلد في العالم حيث ظل التصنيف محددا ومتباينا بين كل مجال وكان لكل مجال جمعية خاصة أو تصنيف داخل جمعية عامة إلا لدى العرب فكل يكتب ما يشاء وقتما يشاء.
بعيدا عن التصنيفات الواضحة التي لا يمكن إغفال دورها والنقاد الذين يظهرون يوميا دون رقيب أو حسيب فإننا نعيش فوضى نقدية حتى على مستوى النقاد المعتمدين أو المفروضين علينا قسرا دون أن نختارهم أو حتى نتمكن من إبداء آرائنا فيما يكتبون، فبينما الناقد غير الصحفي إلا أن رؤساء الصفحات الفنية في كل الصحف العربية باتوا نقادا رغما عن القراء لأن لديهم القدرة على اقتطاع أجزاء من تلك الصفحات التي يشرفون عليها لأقلامهم على حساب الخبر والحوار والتقرير.
المهم أن هؤلاء الزملاء ترقى بعضهم لمنصب الإشراف على الصفحات بحكم السن أو الأقدمية وأحيانا الصدفة أو حتى المجاملة لا يجيد بعضهم الكتابة أصلا ولا يعرف الفارق بين المقال والعمود والرؤية النقدية وتحليل العمل الفني ورغم ذلك فإننا مجبرون على قراءة ما يسطرون مهما كان غثا والسكوت على أفكارهم غير المنطقية أو المرفوضة أحيانا مهما كانت براقة.
لكن هؤلاء الزملاء الأعزاء أفضل كثيرا من نقاد محترفين باعوا القلم لمن يكتب وعطلوا ضمائرهم مقابل حفنة من المال أو مشاركة في مهرجان أو الإشراف على مسابقة في احتفالية حتى أن بعضهم يعمل لدى شركات الإنتاج بمقابل مادي محدد سواء لرسم الخطط الإنتاجية أو اختيار النصوص الجديدة أو حتى يحصلون على مقابل مالي دون عمل لمجرد تحييد أقلامهم كونهم يمتلكون مساحات في صحف ومجلات يمكنهم فيها التقريع أو الهجوم على الأعمال الفنية دون سند نقدي.
ورغم أن الكثير من القراء يتجاهلون تماما المقالات النقدية بعكس المتخصصين الذين تلفت نظرهم المقالات قبل الأخبار والتقارير بما يعني أن الناقد يكتب لحفنة من القراء وأن ما يكتبه لا تأثير له على العامة ممن يسعى خلفهم المنتجون بحثا عن الإيرادات ونسب المشاهدة إلا أن قلم الناقد مازال له نفس التأثير النفسي في عقل المنتج الذي لا يهمه أن يقدم عملا جيدا بقدر ما يهمه أن يشتري أقلام النقاد حتى لا يهاجمون عمله.
بقي أن نشير إلى اختفاء المطبوعات النقدية المتخصصة في العالم العربي واحدة تلو الأخرى بما يؤكد عدم الإقبال عليها من القراء بينما تصر الصحف على وجود مقالات نقدية في صفحاتها الفنية يبقى بعضها أحيانا لمجرد ملء المساحة بينما كانت الصحف فيما مضى تباع باسم الكاتب أو الناقد وحده.
وتسبب اختفاء المطبوعات النقدية المتخصصة وزيادة عدد النقاد «عاطلا وباطلا» إلى تحول بعضهم إلى التدوين، فعرفنا أخيرا نقاد المدونات الذين لا نعرف لهم نشاطا نقديا إلا عبر مدوناتهم الإلكترونية التي تحولت في أوقات كثيرة إلى شتائم متبادلة بينهم لتصفية خلافات شخصية أو الخلاف على أموال يتلقونها من جهات يتصارعون عليها أو لمجرد محاولة كل منهم إثبات أنه الأجدر وأن الآخرين مجرد هواة مقارنة به.
رفضنا طويلاً ومازلنا نرفض أن يتحول النقد إلى مهنة من لا مهنة له.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 17 مايو 2020

نحن ضحايا كورونا




 يتجاهل كثيرون الحقائق المعلنة حول فيروس كورونا، ويسهل على المتابع رصد أوجه مختلفة لهذا السلوك، فالبعض ينساقون خلف الدعاية الحكومية التي تروج الأكاذيب، أو تزيف الحقيقة؛ لا يمكن قصر هذا على بلد محد، أو على منطقة جغرافية، فجميع الحكومات تمتهن الكذب.
 يلجأ أخرون إلى خداع أنفسهم بأن الفيروس ليس خطيرا، أو أنه مؤامرة يقف خلفها عدو مزعوم يتهمه بكل مشكلاته، وتبعات فشله، أو فشل حكامه.
بداية، يجب أن ندرك أن الإصابات ليست مشكلة ⁧‫فيروس كورونا‬⁩ الأهم؛ هي مشكلة كبيرة بالطبع، إذ ربما سيصاب غالبية البشر بالفيروس، لكن القسم الأكبر من المصابين يتعافون، حتى قبل التوصل إلى علاج أو لقاح للفيروس، وغالبية المصابين لا تظهر عليهم أعراض خطيرة، أو لا تظهر عليهم أعراض على الإطلاق.
وهناك صنف ثالث من البشر قرروا الاستسلام للواقع، رغم أن التداعيات على الأغلب، ستكون أكثر خطورة من نتائج انتشار الفيروس المباشرة.
  أبرز تداعيات كورونا حاليا، هي عدد الوفيات. الأعداد المعلنة للوفيات حول العالم غير دقيقة، لكنها تظل كبيرة.
هناك آلاف الوفيات الأخرى من بين المصابين لكنها غير مسجلة لأسباب مختلفة، بعض الدول تخفي الأرقام الحقيقية، ودول أخرى تتجاهل انتشار الفيروس، وبالتالي عدد الوفيات، وكثير من الدول ليست لديها القدرة على اكتشاف المرض، ولا يمكنها الوصول إلى الضحايا، فضلا عن حصرهم والكشف عنهم.
في ‏13 مارس/ آذار، كان عدد الوفيات المسجلة عالميا 5000 وفاة، وفي ‏الأول من أبريل/نيسان قفز الرقم إلى 50 ألف وفاة، ثم في ‏9 أبريل، بات عدد الوفيات 100 ألف، وتضاعف الرقم في ‏24 أبريل، ثم بلغ 300 ألف في ‏13 مايو/أيار.
  هناك أيضا آلاف الوفيات من غير المصابين، وبعضهم ماتوا بسبب عدم الإسراع إلى إنقاذهم، أو عدم قدرتهم على مراجعة المستشفيات، أو عدم توفر الدواء، سواء بسبب الضغط الشديد على القطاع الصحي، أو إجراءات العزل المفروضة.
‫ربما نكتشف بعد انقشاع الأزمة وفاة عشرات الآلاف من البشر لأسباب أخرى، مثل الجوع، أو العطش، أو البرد، أو ارتفاع درجة الحرارة، وخصوصا في البلاد الفقيرة، وفي مجتمعات النازحين واللاجئين المنتشرة حول العالم.‬
لاشك أن هناك أخرين قتلتهم الضغوط النفسية التي تعرضوا لها بسبب انتشار كورونا، بعضهم فقد مصدر رزقه، وأخريم لم يتمكنوا من تحمل الرعب المنتشر عالميا، وتلك أيضا من التداعيات التي لا يمكن حصر ضحاياها حاليا.‬
  خطر كورونا لازال كامنا، ونحن جميعا ضحايا محتملون، وسيحتاج العالم إلى سنوات للتعافي، كما ستتغير كثير من الأمور



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 31 مارس 2020

مخطط "طائفة الـ1%" لإستعباد البشر... فيروس كورونا مثالا





ديفيد آيك (David Vaughan Icke) هو كاتب إنجليزي ومتحدث معروف، يوصف بأنه أحد أباء فضح مخطط السيطرة على العالم، والتي يتهم بسببها بأنه مروج لنظرية المؤامرة، خصوصا من الرأسمالية العالمية، والتي استغلت اتهامه لليهود بمحاولة فرض هيمنتهم على النظام الاقتصادي العالمي في التشكيك في أراءه وترويج أنه عنصري.
في هذا الفيديو عن انتشار فيروس كورونا، يرى آيك أن الأزمة مصنوعة، أو على أقل تقدير، يتم استغلالها في المخطط المعد مسبقا،  من خلال من يطلق عليهم اسم (طائفة الـ1%) لفرض نظام استبدادي على جميع البشر باستخدام التكنولوجيا، وهو يحلل وفق وجهة نظره تلك كثير من الموضوعات الرائجة عبر الإنترنت، معتبرا أنها جميعا معدة بهدف جعل البشر يشعرون بالرعب، وبالتالي يقبلون بقرارات (طائفة الـ1%) التي ترغب في استعبادهم.


يمكنك أيضا تحميل نسخة كاملة باللغة العربية من كتابه الشهير السر الأكبر

شاهد أيضا:






يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الخميس، 16 يناير 2020

تنمر طالبة الجامعة الخاصة





 حين كنا صغاراً، كان الأهل يشجعوننا للتميز في دراستنا حتى نتمكن من الالتحاق بكلية جيدة في جامعة مهمة، على اعتبار أنه السبيل إلى مستقبل أفضل، ولا شك في أن كل الآباء والأمهات يحلمون أن يعيش أبناؤهم ظروفاً أفضل من واقعهم. رغم تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن حرص الأهل على نيل أبنائهم تعليماً متميزاً ما زال قائماً، وفي ظل تدني مستوى وجودة التعليم في المدارس والجامعات الحكومية، زاد انتشار التعليم الخاص، إذ تدفع العائلات المال مقابل أن يلتحق الأبناء بكليات أفضل، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن التعليم الخاص أفضل. قبل أيام، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، تدوينة لطالبة جامعية جاء فيها ما يمكن اعتباره واقعة تنمر مكتملة الأركان، إذ إنها اعتبرت نفسها أفضل من عشرات الآلاف من أقرانها لأنها تدرس في جامعة خاصة، معتبرة أن طلاب الجامعات الحكومية هم من "طبقات الشعب الجاهل المتخلف"، على حد قولها. خلطت الفتاة في تدوينتها بين التنمر الذي هو ادعاء الأفضلية بأسلوب يشمل تحقير الآخرين، وبين النرجسية التي هي شعور داخلي بالأفضلية، ما يشي بجهل ليس مستغرباً على غالبية المنخرطين في التعليم المصري الذي بات خارج مؤشرات جودة التعليم العالمية من فرط السوء، ولا فارق في هذا بين الحكومي والخاص. أثارت التدوينة سجالات طويلة عبر مواقع التواصل، وقوبل تنمر طالبة الجامعة الخاصة بتنمر من طلاب في جامعات أجنبية، فضلاً عن استنكار آلاف من طلاب الجامعات الحكومية الذين ردد بعضهم أن الجامعات الخاصة ليست إلا وسيلة لمنح أبناء الأثرياء شهادات لا يستحقونها. لاحقاً، استضاف أحد البرامج التلفزيونية الطالبة لاستعراض رأيها، فقالت إنها فوجئت بردّات فعل وشتائم لم تخطر ببالها عندما كتبت التدوينة القصيرة. ولما سألها مقدم البرنامج عن اسم الجامعة التي ترتادها، كانت المفاجأة الأكبر، فجامعتها الخاصة ليست من بين الأفضل في مصر، ويحجم كثيرون عن ارتيادها كون مستواها العلمي لا يختلف عن الجامعات الحكومية، فضلاً عن أن الإقبال على خريجيها في سوق العمل ليس كبيراً. زادت حدة الانتقادات للفتاة حين كشفت عن اسم جامعتها، ووجه آخرون سهام النقد إلى الجامعة وخريجيها، في حين ظل النقاش هامشياً حول أسباب تدني التعليم في مصر، وأهمية العمل على استعادته مكانته السابقة، ودور الطلاب في الدفع باتجاه رفع مستوى المدارس والجامعات، الحكومية والخاصة على حد سواء. وكان من المثير للأسى لجوء بعضهم إلى تحقير حرص الأهل على تعليم أبنائهم استناداً إلى نجاح أفراد غير متعلمين.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية