الجمعة، 29 مارس 2019

قصة مستبد صغير


 عرفته من خلال شاشة التلفزيون خلال سنوات عملي الأولى، حينها كان يقدم نفسه كمعارض للظلم ومقاوم للاستبداد. كانت تعجبني جرأته في طرح آرائه الرافضة لقمع الحريات، والتأكيد على فضح الفساد. كان في منتصف العقد الثالث من عمره، ورغم حداثة سنه، إلا إنه كان معروفاً كمناضل ضد المستبدين، أو هكذا كان يتم تعريفه. لاحقاً، تعرفت على عدد من أصدقائه المقربين، وكنت أتعجب من استمرار صداقته مع هؤلاء الانتهازيين الذين يقضي معهم جل وقته، ويناقش معهم اهتماماته، بينما كنت أظنه على النقيض من كل ما عرفته عنهم من نفاق ووصولية ومؤامرات. في لقاء جمعنا سألته بشكل مباشر عن تلك المفارقة، رغم وجود بعض من هؤلاء الذين كنت أتحدث عنهم في اللقاء، فقال ببرود شديد إنه حريص على توسيع دائرة صداقاته قدر المستطاع، وإنه يحب مناقشة الأفكار مع أشخاص من تيارات وخلفيات مختلفة، وخصوصاً من يختلف معهم في الرأي أو القناعات. كان كلامه منمقاً منطقياً، لكني لم أقتنع به، بل زادت شكوكي فيه. بعد سنوات، جمعنا مكان عمل كان يحتل فيه منصباً كبيراً، وكانت فرصة لأكتشف حقيقته، فهذا الذي ظننته لسنوات مناضلاً ضد الفساد والاستبداد، ونموذجاً للدفاع عن الحريات، كان في الواقع محض مدع كبير، ونموذجاً لمستبد صغير يملك الاستعداد للتحول إلى فاسد كبير. جرت أزمة هددت مستقبل بعض العاملين في المؤسسة التي نعمل بها، وكان هو أحد من ينتظر منهم اتخاذ قرارات مصيرية، فاتخذ قرارات ديكتاتورية استبدادية تخالف كل مبادئ الحريات والحقوق التي ظل لسنوات يدعيها ويروج لها. لم تكن تلك القرارات تضيرني بشكل مباشر، لكنها كانت تؤثر على زملاء، وتضر بيئة العمل، فأعلنت رفضي لها، وتضامني مع الزملاء المتضررين، فهدد بضمي إلى قائمة المغضوب عليهم، واتهمني بافتعال مشكلات في المؤسسة التي تعاني. قررت عدم الخضوع لتهديداته، واتهمته علناً في اجتماع رسمي بأنه يستخدم كل وسائل القمع والاستبداد والديكتاتورية التي أرفضها وأقاومها ضد أفراد المؤسسة التي يفترض أن أحد أهداف وجودها هو مقاومة تلك الأساليب. احتدم الخلاف بيننا، وانتهى بقراري مغادرة المؤسسة احتجاجاً على سياسة الادعاء، وتفشي ازدواجية المعايير، بينما واصل هو عبر شاشات التلفزيون ادعاء انحيازه إلى الحقوق والحريات. لما انطلقت ثورة يناير في 2011، كان أحد الرافضين لها بحجة الحفاظ على الدولة، مردداً كل ما كان يردده النظام الحاكم، ثم بدأت آراؤه تتغير شيئاً فشيئاً بتغير الوقائع على الأرض، وصولاً إلى ادعاء أنه أحد الداعين للثورة، قبل أن ينضم إلى قائمة المستفيدين لاحقاً.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 16 مارس 2019

صعوبة الاعتراف بالفشل



جمعتني بأصدقاء من جنسيات مختلفة، جلسة طويلة على المقهى في وقت متأخر من مساء الإثنين الماضي، وجلساتنا المتكررة لا تخلو من مناقشات وتبادل أفكار وتكهنات حول الموضوعات الراهنة، عربياً ودولياً.
 بدأت الجلسة بعد نحو ساعتين من قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، عدم الترشح لولاية رئاسية خامسة، فكان القرار الحدث الأبرز في المقهى الذي كانت أنظار غالبية المتواجدين فيه متعلقة بجهاز التلفزيون، ولما احتدم نقاشنا انضم عدد من الجالسين إلينا بطريقة عفوية.
 شكك صديقي في نية السلطة الجزائرية، مؤكداً أن قرار بوتفليقة ليس إلا التفافاً صريحاً على مطالب الشعب الرافض لبقاء النظام، وحلقة جديدة من حلقات خداع الشعوب الراغبة في التحرر.
لم أكن متفقاً مع هذا الرأي بالكلية، فقرار عدم الترشح في رأيي، بداية يمكن للشعب الجزائري البناء عليها، وأن ينطلق منها إلى تفاوض جدي مع سلطة تحكم البلاد بقوة السلاح، مع ضرورة عدم السقوط في أخطاء تسببت في فشل الثورة في مصر، أو الانزلاق إلى فخ العنف كما في سورية واليمن وليبيا.
 رفض أحد الأصدقاء منطق التعامل مع انتفاضات الشعوب العربية وفق نفس المقياس، مشدداً على أن لكل بلد خصوصيته المميزة التي تصبغ حراكه، كما أن لكل سلطة خصوصيتها التي تصبغ رد فعلها. لم نختلف كثيراً في هذا، فالخصوصية واقع قائم، لكنها ليست العامل الرئيس في نجاح أو فشل أي ثورة، وإنما عوامل كثيرة متشابكة، بعضها داخلية، وكثير منها خارجية.
أحاول جاهداً ألا يتحول النقاش إلى صراع جنسيات، فأقول: المهم أن الثورة المضادة فشلت في القضاء على الربيع العربي رغم كل الخيبات.
اتفق الجالسون على خطورة التأثير الخارجي، وخصوصاً التأثير الفرنسي في الشأن الجزائري. وقتها لم يكن تصريح الرئيس الفرنسي الفج قد صدر بعد. يستوقفنا صوت سوري يشدد على خطورة غياب بوتفليقة عن المشهد، ويحذر من تداعيات ما بعده، فيرد شاب تونسي مؤكداً أن بقاءه أخطر بعد أن أعلن الشعب رأيه فيه، فيستدرك أحد أصدقائي: هو لا يحكم فعلياً منذ سنوات، والجميع يعرف هذا.
  يعاجلني صديق لم يبد طيلة النقاش إلا بعض همهمات وإيماءات، بضرورة التوقف عن اعتبار ما جرى في مصر نموذجاً يصلح تطبيقه في بقية بلاد العرب، ويضيف: فشلكم ليس ملزماً للجميع. ألجأ إلى الصمت لأنني لا أستطيع ادعاء عدم فشل ثورتنا، أو بالأحرى فشلنا في إدارتها، قبل أن يعلو صوت شاب سوداني قائلاً: يوميات ثورة مصر تصلح دليلاً لمن يريد النجاح. يكفيه فقط أن يفعل عكس كل ما فعله المصريون.
أكاد أرد مستهجناً، فيقمعني صديقي المقرب قائلاً: ليس الفشل عاراً لتنكره.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 8 مارس 2019

النجاة للعرب أم النجاة منهم؟





تتباين مواقف وآراء كثير من المواطنين العرب إزاء الأوضاع الراهنة في بلادهم، وكذا مستقبل الشرق الأوسط، إذ إن غالبيتها مما لا يسر الخاطر، فضلاً عن أن كثيراً من مواطني المنطقة لا يمكنهم التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور غداً، أو في المستقبل القريب.
 عانى العرب طويلاً من حكومات غير ديمقراطية أورثت بلادها فشلاً وقمعاً وفقراً لا تخطئه عين، كما رسخت تبعية مخزية لمراكز القوى العالمية التي لا تكف عن التدخل في كل تفاصيل الحياة العربية دون رادع من سيادة أو كرامة.
حين انتفض بعض العرب خلال العقد الأخير طلباً لتغيير الوضع المزري الذي يقبعون فيه انتبه الفاسدون إلى مدى الخطر الذي يهددهم، فتكالب على المطالبين بالتغيير الفاسدون في الداخل ورعاتهم في الخارج، واستخدموا كل الوسائل لقمع رغبات الحرية ووأد مطالب التغيير.
 يظن هؤلاء أنهم نجحوا في ثورتهم المضادة، لكن الواقع يؤكد أنهم واهمون، وأنهم كلما أغلقوا نافذة للمطالبين بالتغيير في بلد عربي انفتح باب تغيير في بلد عربي آخر، وكلما تباهوا بنجاحهم في استعادة السيطرة على الأوضاع التي خرجت أو كادت تخرج عن السيطرة، تفجرت الأوضاع مجدداً بأشكال مختلفة، أو في أماكن مختلفة.
لا يمكن بحال تجاهل أن كثير من العرب حالياً لا يرغبون في مزيد من فورات الربيع العربي بعدما تأثرت حياتهم بالفورات السابقة، وخصوصاً أن أياً منها لم تحقق أياً من المطالب التي قامت من أجلها.
في المقابل، لا يمكن إنكار التأثير السلبي لفشل بعض المطالبين بالتغيير على غيرهم من الراغبين في السير على دربهم، فمثلما يمكن أن يتعلم الثائر من تجارب من سبقوه حتى لا يكرر الأخطاء نفسها، فلا شك أنه يتأثر كذلك بفترات تراجعهم أو هزيمتهم التي يمكن أن تجهض مشروعه أو تؤثر على حماسته.
  الواقع أن غالبية العرب لم يكونوا داعمين للربيع عند انطلاقته، فبعضهم كان معادياً له، وإن بأشكال مختلفة، وكثيرون كانوا ينتظرون ما سيؤول إليه ليقرروا موقفهم منه، وهؤلاء الذين طالبوا بالتغيير كانوا أقلية كما هي عادة الثورات على مدار التاريخ. حالياً، يمكن رصد أزمة لدى كثير من الذين طالبوا بالتغيير، ففريق منهم ما زال مؤمناً بما خرج من أجله إلى الشارع قبل أكثر من ثماني سنوات، وهدفه الوحيد العمل على نجاة العالم العربي من مستقبل مظلم ينتظره، أملاً في ألا يعيش أطفاله الأوضاع السيئة نفسها.
أما الفريق الآخر، فوصل إلى مرحلة متقدمة من الكفر بتكرار مطالب التغيير، وبات مقتنعاً بأنه لا نجاة للعرب لأنهم غير راغبين في النجاة، فقرر أن يبحث عن مخرج للنجاة من الحياة في بلاد العرب.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية