عن العربي الجديد
كان قادماً من القاهرة، قابلته لأطمئن على أحواله، فجلس يحكي لي عن أحوال البلاد والعباد هناك، استوقفته قائلاً: "لست في حاجة لحكاياتك، أعرف عنهم أكثر مما رأيت في رحلتك القصيرة". سكت وسيطر على كلينا الوجوم.
لم يكن صديقي قد زار القاهرة منذ أربع سنوات مضت، قرّر فجأة أن يقضي فيها إجازته السنوية، كان معتاداً في ما سبق على إجازة في مصر، لكن انطباعاته هذه المرة لم تكن مشابهة لانطباعاته في أي زيارة سابقة.
سألني: ألا تحنّ إلى مصر؟ أومأت برأسي مؤكداً وأفلتت مني تنهيدة حارة طويلة، فقال: لماذا لا تعود؟
ليست المرة الأولى التي يكرّر على مسامعي السؤال، وما زلت أكرّر الإجابة: لا أريد أن أعود. على الأقل ليس الآن. قلتها له قبل سنتين ونصف السنة نصاً عندما سألني السؤال نفسه، والآن أكرّرها.
مرّ عليّ الآن نحو ثلاث سنوات بعيداً عن مصر، ما كان حنيناً إلى العودة، ولو حتى للاطمئنان على الأهل والأصدقاء، لم يعد بنفس القوة التي كان عليها في السنة الأولى. لا ينحصر السبب في الانقلاب والإجرام والقمع وغياب الحريات، وكلها أسباب، الواقع أن مشكلة مصر أيضاً في الناس.
أهل مصر طيبون، ودودون، مهادنون؛ هذا هو الشائع عنهم. أزعم أن هذا بات من الماضي، لا شك في أن بينهم ملايين الطيبين، لكن بينهم أيضاً عشرات آلاف المجرمين والمحرّضين والقتلة، وملايين المُضَلَلين.
لا أريد الحياة بين هؤلاء، لن أحتمل السخافات والجهالات، لا أرغب أن أعيش مجدداً في بلد يحتكره العساكر، ويتولى أموره الفاسدون والمنافقون والوصوليون. ربما هذا الوضع قائم في كثير من البلدان، لكنه في مصر بات لا يحتمل وتجاوز كل الحدود.
"هذه بلاد لم تعد كبلادي"، بلادي أرض الطيبين، وهم باتوا أقلية متوارية في مصر. بلادي أرض المتدينين، وهؤلاء باتوا شهداء أو معتقلين أو مطاردين. بلادي أرض العلماء والعقلاء، بينما في مصر عبد العاطي وعكاشة ومرتضى يمثلونهم.
يطاردني مجدداً: كأنك تتخلى عن حلم تحرّر شاركت فيه وتترك بلادك التي تحبها نهباً للفاسدين والجهلة والفاشلين، لو فعلها كل مصري فلن تقوم لهذه البلاد قائمة أبداً.
أجادله بأنني لم ولن أتخلى عن حلم التحرّر، هو نفسه يشفق عليّ أحياناً من التركيز في الهمّ الوطني وينصحني أن أهوّن على نفسي.
عندما أخلو إلى نفسي تراودني أحياناً بالتخلي عن كل الأحلام، للحظات أفكر في ذلك، ثم أستعيد عقلي فأواصل حلمي بالحرية.
يقول صديقي إنني هارب ينتظر أن تشفى البلاد من علّتها، ربما كان محقاً، لكني أشعر في قرارة نفسي أن غربتي قد تمنح نفسي الوقت للشفاء من علل أصيبت بها في بلادي.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق