تستخدم الأنظمة العربية نفس أساليب القمع والاستبداد للحفاظ على بقائها في السلطة رغم فشلها الواضح. لا شك في أن الأنظمة تدرس الأحداث، وتتعلم منها، وكثيراً ما تغير من أساليبها لتجاوز الأسباب التي تسببت في سقوط أنظمة مماثلة، أو أجبرتها على التفاعل إيجابياً على غير رغبتها مع مطالب الشعب. في المقابل، فإن الشعوب العربية تواصل المطالبة بحقوقها الأساسية متجاهلة القمع الذي تستخدمه الأنظمة، وبعض الشعوب تجاوزت كل الخطوط الحمراء التي حاولت الأنظمة لسنوات فرضها، والتي جعلت سقف المطالب لا يتجاوز العيش الكريم أو توفير فرص العمل، بدلاً من ديمقراطية كاملة تضمن تداولاً سلمياً للسلطة، وحرية رأي، ومكافحة الفساد، ومحاسبة السلطة الفاشلة. عندما انحسرت موجة الربيع العربي التي اشتعلت في 2011، ظن أنصار الثورة المضادة أن الشعوب لن تقوم لها قائمة مجدداً، خاصة بعد تنفيذ الانقلاب العسكري في مصر، وتحويل الثورة في سورية واليمن وليبيا إلى صراع دموي متواصل حتى الآن. لكن الشعوب أثبتت أنها ما زالت قادرة على المقاومة وعلى المطالبة بالتغيير، وتمكنت من إسقاط مزيد من المستبدين، فسقط عمر البشير في السودان، وسقط عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر. الأوضاع في السودان ليست واضحة المعالم بعد؛ لكن الشعب استرد القدرة على التعبير عن رأيه فيمن يحكمونه بعد عقود من القمع والبطش. والحراك في الجزائر متواصل منذ فبراير/ شباط حتى الآن، رغم كل محاولات السلطة العسكرية الحاكمة التلاعب بمطالبه، وفرض رئيس جديد يضمن لها مصالحها التي كان يحميها بوتفليقة لسنوات. وليست التظاهرات ذات المطالب الاجتماعية في الأردن ولبنان والعراق إلا مظهراً آخر من مظاهر الغضب الشعبي الكامن، والذي ينتظر شرارة تفجر ربيع عربي جديد يعتقد كثيرون أنه لن يكون مثل سابقه الذي تلاعبت به قوى إقليمية ودولية. لا يمكن في هذا السياق تجاهل التأثير الإيجابي لتنظيم تونس مؤخراً انتخابات رئاسية وبرلمانية، وما تمثله تلك الممارسة الديمقراطية من نموذج يرغب بقية العرب في تكراره داخل بلادهم، ولو من باب الغيرة من أشقائهم في تونس. الواقع أن النجاح التونسي يؤكد أن الشعوب العربية قادرة على تحمل كلفة الديمقراطية؛ على عكس محاولات الأنظمة الحاكمة لربط الحرية بالفوضى، أو تهديد الشعوب بانهيار الدول في حال واصلت المطالبة بإسقاط الأنظمة. وتؤكد الأحداث أن الشعوب ما زالت قادرة على تجاوز ألاعيب الأنظمة التي تقاوم التغيير، ومنطق الأمور يؤشر إلى أن أهداف الشعوب، وعلى رأسها الحرية، ستتحقق يوماً. عسى أن يكون قريباً.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق