محمد الأسعد
بعد أكثر من سبعين عاماً على صدور كتاب "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" لسيّد قطب (1906 - 1966)، الكاتب والناقد الأدبي في تلك الأيام، قبل أن ينتقل إلى عالمَي الأيديولوجية والسياسة ويسبح بعيداً في خضمّ تياراتهما، وبعد مرور مياه كثيرة تحت جسور النقد الأدبي ومدارسه؛ يمكن القول إن هذا العمل كان فاتحة لآفاق أوسع وأبعد مما تداولته، آنذاك وفي ما بعد، أوساط المجدّدين العرب على كل الأصعدة، وخاصةً صعيد الشعر والرواية والقصّة والمسرح والنقد، وإن هذه الآفاق، لم تجتذب إلا قلّة من الروّاد - من أمثال الشاعر العراقي محمود البريكان - وجدنا لديها صدىً لبعض مما تردّد من تعابيره ومصطلحاته؛ مثل "الأدب الحي" و"المنهج المتكامل" و"وحدة القيم الشعورية والتعبيرية".. وما إلى ذلك.
صدر هذا الكتاب عام 1948، أي في وقتٍ كانت الحياة الأدبية العربية، والحياة العربية بشكل عام، تمرّ بتغيّرات عظمى تهيّأت شروطها في مجريات القرن التاسع عشر، بكل ما حملته هذه من كوارث أبرزها استعمار فلسطين، ومن وعودٍ وآمالٍ أبرزها وعد بالتجدُّد والنهوض تطلقه أجيال جديدة.
ومع أن تيارات التجديد على الصعيد الأدبي، تيار الرومانسية والواقعية على وجه الخصوص، كانت قد بدأت في ترسيخ أسسها في وجه التيار التقليدي الراسخ، إلّا أن اتجاه سيّد قطب في كتابه هذا كان مفارقاً لهذه التيارات، التقليدي منها والمجدّد، متطلّعاً إلى أسس أكثر انفتاحاً وإنسانية قوامها وضع "أصول مفهومة بدرجة كافية للنقد الأدبي"، بعد أن لاحظ عدم وجود "مناهج.. تتبعها هذه الأصول".
وسيتّضح هذا الاتجاه المنفتح على قاعدتَي العلم والروح الأدبية الفنية، ومحاولة التوفيق بينهما، كلّما مضينا في القراءة؛ بدءاً بالمقدّمة، ففصل القيم الأدبية والتعبيرية، ثم فنون العمل الأدبي بأنواعها، وصولاً إلى قواعد النقد ومناهجه، المنهج النفسي والتاريخي والفني والمتكامل.كانت المهمّة، إذاً، هي وضع أصول في وقتٍ كان لكلّ فريق ما يعتقد أنه "أصوله القائمة على مناهج"، بدءاً من مدرسة "الديوان" في نقدها لتيار الإحياء الأدبي على أساس مقولات النقد الإنكليزي، ومروراً بمدرسة "أبولو" الرومانسية في نقدها لجماعة "الديوان" على أساس ملتقطات من مجلّة "شعر" الأميركية، وصولاً إلى دعاة الأدب الواقعي، الأدب للشعب، المستمدّ من الواقعية الاشتراكية. وتضع كلمات الإهداء التي تصدّرت الكتاب علامات هادية أمام القارئ، ذات دلالة مهمّة في هذا الاتجاه: "إلى روح الإمام عبد القاهر، أوّلِ ناقد عربي أقام النقد الأدبي على أسس علمية نظرية، ولم يطمس بذلك روحه الأدبية الفنية.. في وقت مبكر شديد التبكير".
يبدأ الكتاب بموجزٍ يمنح قارئه فكرة عمّا يعنيه النقد الأدبي: "وظيفة النقد الأدبي وغايته هي تقديم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمه التعبيرية والشعورية، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كلّه، وقياس مدى تأثّره بالمحيط وتأثيره فيه، وتصوير سمات صاحبه، وخصائصه الشعورية والتعبيرية، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك".
قد يبدو هذا الموجز للوهلة الأولى مجرّد تعاليم شبه مدرسية، إلّا أن تطبيق هذه المبادئ منذ الفصل الأول، وعدم البدء بذكر المناهج وتفاصيلها، يفتح الطريق أمام إدراك أننا أمام نهج جديد في تناول العمل الأدبي بأنواعه المختلفة.
ولعلّ عبارة "وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته، وفي العالم الأدبي كلّه" هي مفتاح هذا الجديد؛ فهي تمضي من قراءة العمل الأدبي في ضوء "لغته" إلى قراءته في ضوء "العالم الأدبي كلّه"، بكلّ ما يعنيه هذا من اتخاذ معايير نقدية أشمل وأوسع من معايير هذه الثقافة أو تلك.
وهذا هو بالتحديد ما نجده حين يذهب الكاتب في شرح ما يعنيه بتعبير "التجربة الشعورية" التي هي عنده شرط أدبية أيِّ موضوعٍ يتناوله الكاتب، إلى الكشف عن عوالم ثلاثة شعراء هم الهندي طاغور، والفارسي عمر الخيام، والبريطاني توماس هاردي، فيكشف بذلك عن ثلاثة عوالم، الأوّل عالم السماحة والرضا، والثاني عالم الحيرة، والثالث عالم اليأس والقنوط. وفي ضوء هذا يحاول إثبات أن "الأدب يفتح للإنسانية عوالم جديدة من الشعور". وفي هذه العوالم تكمن قيمة العمل الأدبي، فـ"ليس بالقليل أن يضيف الفرد الفاني المحدود إلى آفاق حياته صوراً عن الكون والحياة كما تبدو في نفس إنسان ملهم ممتاز هو الأديب".
بالطبع، يمكن أن نجد صدى لهذا الإعلاء من قيمة "الأدب" لدى قلّة من الكتّاب كما قلنا، إلّا أن هذا المنحى، أي ربط الأدب بالتجربة الشعورية، والحديث عن هذه التجربة بوصفها كشفاً عن كون وحياة متميّزَين هي موضع حاجة كل إنسان، لم يتواصل في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم نعد نجد من يتابع هذا القول: "يفتح الأدب للإنسانية عوالم جديدة من الشعور.. وما دمنا قادرين على أن نعيش تجارب هؤلاء الأدباء مرّةً أخرى وننفعل بها، فإن هذا رصيدٌ يُضاف إلى أعمارنا، وزادٌ يُضاف إلى أزوادنا في الرحلة القصيرة المحدودة على هذا الكوكب الأرضي الصغير".
ماهي سمات هذه العوالم التي تستحق كل هذا الاهتمام؟
يُضاف إلى ذلك تمييزه الذي نقرأه لأول مرّة، والذي لا سابقة له في مقولات النقد الأدبي العربي، بين تقانتَين تتعلّقان بطريقة تناول الموضوع: الأولى هي تلك التي دأب على ممارستها شعراء العربية، وتقوم في الغالب بتصوير التجربة الشعورية في ثوابت فكرية وقواعد في أبيات قليلة، ويضرب مثلاً بالمتنبّي وابن الرومي والمعري، الذين نخلص معهم إلى حِكَم لا إلى تجارب قادت إلى هذه الحِكَم، والثانية هي ما عرضها لدى طاغور والخيّام وهاردي، وتقوم على تصويرهم لعوالمهم في مشاعر ومشاهد جزئية، ننتهي من خلالها إلى عوالم شعورية حية.من وصفه العملَ الأدبي كوحدة مؤلَّفة من الشعور والتعبير، أو كما يُقال حالياً، وحدة مؤلّفة من شكل ومضمون، ينتقل قطب إلى خصائص هذا العمل في ضوء قراءته تجارب الشعراء الثلاثة الذين أشرنا إليهم، وهي أوّلاً، تفرُّد العالم الذي يكشف عنه، أي طابعه الشخصي المتأتّي عن طريقة الشعور والتعبير وتناول الموضوع (الأسلوب)، وثانياً، الشمول والخروج من الجزئي والاتصال بما يسمّيه "منبع الوجود" (شعور بقضية كبرى وراء الجزئيات)، وأخيراً الصدق، ويقصد به الصدقَ الفني كما يوضّح بمثال من بيتَين شعريَّين لأحمد شوقي يرسم في الأول صورة لقصور غرقى على شاطئ نهر مصابة بالفزع، ويتلوه الثاني فيشبّه هذه القصور ذاتها بعذارى سابحات في الماء يُخفين بضّاً ويُبدين بضّاً، ويرى في هذه الصورة والتشبيه "تجربة شعورية مزوّرة".
هذا هو جوهر ما يرمي إليه كتاب "النقد الأدبي"؛ وضعَ أسسٍ لنظر قائم على مبادئ تتجاوز أفق الأدب المحلّي أيّاً كان نوعه، وتتطلّع إلى وضع معايير مستمدّة من آفاق وحاجات إنسانية شاملة، جامعاً بذلك بين النهج الفني والنفسي والتاريخي في قالب واحد يسمّيه "المنهج المتكامل".
والأكثر أهمية أن أسلوب هذا الكتاب بعيد كل البعد عن الإبهام الذي سيسود مباحث النقد الأدبي في العقود اللاحقة، ويصبح "علامة" امتياز للناقد الأدبي العربي طوال الخمسين عاماً الماضية، وصولاً إلى مشارف القرن الحادي والعشرين. إنه كتاب فتح أفقاً، ومازال هذا الأفق مفتوحاً ينتظر من يرتاده.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر
أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية