عرفته من خلال شاشة التلفزيون خلال سنوات عملي الأولى، حينها كان يقدم نفسه كمعارض للظلم ومقاوم للاستبداد. كانت تعجبني جرأته في طرح آرائه الرافضة لقمع الحريات، والتأكيد على فضح الفساد. كان في منتصف العقد الثالث من عمره، ورغم حداثة سنه، إلا إنه كان معروفاً كمناضل ضد المستبدين، أو هكذا كان يتم تعريفه. لاحقاً، تعرفت على عدد من أصدقائه المقربين، وكنت أتعجب من استمرار صداقته مع هؤلاء الانتهازيين الذين يقضي معهم جل وقته، ويناقش معهم اهتماماته، بينما كنت أظنه على النقيض من كل ما عرفته عنهم من نفاق ووصولية ومؤامرات. في لقاء جمعنا سألته بشكل مباشر عن تلك المفارقة، رغم وجود بعض من هؤلاء الذين كنت أتحدث عنهم في اللقاء، فقال ببرود شديد إنه حريص على توسيع دائرة صداقاته قدر المستطاع، وإنه يحب مناقشة الأفكار مع أشخاص من تيارات وخلفيات مختلفة، وخصوصاً من يختلف معهم في الرأي أو القناعات. كان كلامه منمقاً منطقياً، لكني لم أقتنع به، بل زادت شكوكي فيه. بعد سنوات، جمعنا مكان عمل كان يحتل فيه منصباً كبيراً، وكانت فرصة لأكتشف حقيقته، فهذا الذي ظننته لسنوات مناضلاً ضد الفساد والاستبداد، ونموذجاً للدفاع عن الحريات، كان في الواقع محض مدع كبير، ونموذجاً لمستبد صغير يملك الاستعداد للتحول إلى فاسد كبير. جرت أزمة هددت مستقبل بعض العاملين في المؤسسة التي نعمل بها، وكان هو أحد من ينتظر منهم اتخاذ قرارات مصيرية، فاتخذ قرارات ديكتاتورية استبدادية تخالف كل مبادئ الحريات والحقوق التي ظل لسنوات يدعيها ويروج لها. لم تكن تلك القرارات تضيرني بشكل مباشر، لكنها كانت تؤثر على زملاء، وتضر بيئة العمل، فأعلنت رفضي لها، وتضامني مع الزملاء المتضررين، فهدد بضمي إلى قائمة المغضوب عليهم، واتهمني بافتعال مشكلات في المؤسسة التي تعاني. قررت عدم الخضوع لتهديداته، واتهمته علناً في اجتماع رسمي بأنه يستخدم كل وسائل القمع والاستبداد والديكتاتورية التي أرفضها وأقاومها ضد أفراد المؤسسة التي يفترض أن أحد أهداف وجودها هو مقاومة تلك الأساليب. احتدم الخلاف بيننا، وانتهى بقراري مغادرة المؤسسة احتجاجاً على سياسة الادعاء، وتفشي ازدواجية المعايير، بينما واصل هو عبر شاشات التلفزيون ادعاء انحيازه إلى الحقوق والحريات. لما انطلقت ثورة يناير في 2011، كان أحد الرافضين لها بحجة الحفاظ على الدولة، مردداً كل ما كان يردده النظام الحاكم، ثم بدأت آراؤه تتغير شيئاً فشيئاً بتغير الوقائع على الأرض، وصولاً إلى ادعاء أنه أحد الداعين للثورة، قبل أن ينضم إلى قائمة المستفيدين لاحقاً.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية