ليست الثورة ميداناً. الثورة فكرة، والأفكار مكانها العقول. ليست الثورة جموعاً وملايين. الثورة إيمان بالفكرة وعمل لتحقيقها، وإن فعل ذلك عدد قليل..والثورات تصنع المكان.
لم تنطلق ثورة يناير 2011 في مصر من ميدان التحرير، وإنما من مناطق أخرى كثيرة في العاصمة والمحافظات، قبل أن تستقر في "التحرير" وسط القاهرة، كرمز صريح، ومكان متسع لآلاف المشاركين، وقريب من مراكز الدولة التي تسعى الثورة إلى الإجهاز عليها، لإنهاء عقود طويلة من الفاشية والديكتاتورية والفساد والظلم.
ورغم بروز التجمع في ميدان التحرير، كانت تشتعل ميادين مصرية أخرى، أبرزها ميدان الأربعين في السويس، والقائد إبراهيم في الإسكندرية، والشون في المحلة، وغيرها كثير، وبينما خطف التحرير الأضواء من ميادين وسط القاهرة، إلا أن أسماء الميادين الملاصقة له مثل ميدان عابدين، وميدان طلعت حرب، وميدان عبد المنعم رياض، ظلت تتردد وتشهد الكثير من أحداث الثورة الهامة.
ميدان عبد المنعم رياض تحديدا كان أحد أبرز ميادين الثورة، في أيامها الأولى وخلال السنوات الأربع اللاحقة لها، الميدان هو الأقرب لميدان التحرير، ربما هو بالأساس جزء لا ينفصل عن الميدان الأكبر والأشهر.
ظل ميدان عبد المنعم رياض، باعتباره المدخل الأوسع لميدان التحرير، مصدر خطر كبير على المعتصمين في التحرير، منه كانت تأتي معظم أشكال الهجوم، وفيه تمركزت قوات الجيش بعد الأمر بنزولها بعد انسحاب، أو بالأحرى، اختفاء قوات الشرطة في أعقاب ما جرى لها مساء يوم الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني المعروف إعلاميا باسم "جمعة الغضب"، ومنه أيضا اقتحمت جحافل راكبي الخيول والجمال في الثاني من فبراير/شباط المعروف إعلاميا باسم "موقعة الجمل".
في ميدان عبد المنعم رياض سقط عشرات الشهداء برصاص قناصة اعتلوا أسطح بناياته مساء يوم "جمعة الغضب"، وهم القناصة الذين لم تعرف هويتهم حتى الآن، وهل ينتمون إلى الشرطة أم الجيش، الأرجح أنهم من الجهتين معا.
في تلك الليلة سقط عدد أكبر من الشهداء الذين سقطوا في اقتحام الخيول والجمال للميدان، كل شهداء تلك الليلة الدامية قتلوا قنصا من مكان مرتفع، الرصاصات استقرت في الصدر والرأس في الأغلب، لكن بطلوع نهار اليوم التالي تحول الميدان إلى وعي أوسع بتفاصيل المؤامرة، بات الشك أوضح في قوات الجيش التي كان كثيرون يثقون فيها، القوات التي كانت تغلق الميدان بآلياتها الثقيلة، فتحت الطريق فجأة للمهاجمين، وكأنها جزء من خطة الهجوم المدبرة سلفا.
في عامي الثورة الأول والثاني، شهد ميدان عبد المنعم رياض الكثير من الأحداث، وأريقت فيه الكثير من الدماء، لكن كان التحرير دائما الملاذ، ومع إغلاق ميدان التحرير بشكل شبه متواصل منذ وقوع الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/تموز 2013، باتت كل الحركات الثورية تتظاهر في ميدان طلعت حرب القريب من ميدان التحرير، لكن يوم إعلان براءة مبارك، قبل أيام، عادت لميدان عبد المنعم رياض مكانته، بعدما عاد إليه الثوار.
لو استعرضت عناوين الأخبار في هذا اليوم ستكتشف ما جرى، بداية من "إعادة غلق ميدان التحرير.. وانتشار أمني مكثف في ميدان عبد المنعم رياض"، إلى "أهالي الشهداء يتظاهرون بميدان عبد المنعم رياض تنديدا ببراءة مبارك"، ثم "متظاهرو ميدان عبد المنعم رياض يشعلون الشماريخ ويهتفون ضد الداخلية"، ثم "الأمن يخلي ميدان عبد المنعم رياض.. وشباب يتجمعون أسفل كوبري أكتوبر"، وصولا إلى "حبس 9 من متظاهري عبد المنعم رياض بتهمة قطع الطريق"، ثم "الداخلية: تدرجنا فى إجراءات فض مظاهرات ميدان عبد المنعم رياض".
يبعد ميدان عبد المنعم رياض عن ميدان التحرير بنحو مئتي متر فقط، يطل عليه المتحف المصري، وتحتل محطة حافلات وسط القاهرة معظمه، كما يمر من فوقه جسر السادس من أكتوبر، أحد أشهر جسور العاصمة المصرية، يتوسطه تمثال شهير للشهيد العسكري الفريق عبد المنعم رياض (1919- 1969) رئيس أركان حرب الجيش المصري خلال حرب الاستنزاف، العسكري المصري الشهيد رحل وسط جنوده على الجبهة جراء قذيفة إسرائيلية، يوم 9 مارس/آذار 1969، التاريخ نفسه اتخذ يوما للشهيد في مصر، تحتفل به البلاد سنويا، بينما شهد الميدان الذي يحمل اسم الشهيد، سقوط عشرات الشهداء على أيدي قوات الجيش والشرطة التي تحكم البلاد بالحديد والنار.
نقل عن الشهيد عبد المنعم رياض الكثير من الأقوال المأثورة، منها ما يمكن اعتباره نصيحة للثوار.
كما نقل عنه في أعقاب هزيمة 1967 قوله: "أخطاء الصغار صغيرة ويمكن معالجتها ما دامت بغير قصد وحتى في حدود ممارستهم لحق التجربة والخطأ، أما أخطاء الكبار فإنها دائما كبيرة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق