الذين يضعون فأس اتجاهات التيارات الإسلامية في مصر والعالم العربي نحو التزمت ثم العنف في عنق الشيخ (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي غاب عن دنيانا في مثل هذه الأيام منذ خمسين عاما، يسيئون عن عمد قراءة وقائع التاريخ ويقحمونه في الصراع السياسي القائم الآن بينهم وبين التيار الإسلامي بمجمل فصائله. فلا يسيئون بوضعهم الجميع في سلة واحدة لوقائع التاريخ فحسب، ولكنهم وهذا هو الأخطر، يؤججون نيران العنف حيث يتوهمون أنهم سيقضون عليه ويقودون الأمة إلى صراع عبثي لا جدوى من ورائه، يتوهم خلاله كل تيار من تياراته الرئيسية في الحركة السياسية العربية أن بإستطاعته إستئصال الآخرين، وبذلك تطيش خطواتها نحو المستقبل في الألفية الثالثة كما طاشت في الألفية الثانية.
وما يتجاهله الذين يحملون (الشيخ حسن البنا) المسئولية عن نشأة تيار العنف هو أن تشكيل المنظمات شبه العسكرية كان موضة لدى كل التيارات السياسية في الثلاثينيات في إطار النتائج الإيجابية التي حققتها نظم الحكم في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية التي نجحت استنادا إلى عسكرة المجتمع في استعادة ما أضاعته الحرب العالمية الأولى من حقوق البلدين الوطنية وأن فرق الجوالة التي أنشأها (البنا) وعرفت بفرق القمصان الكاكية لم تكن الوحيدة في الساحة فقد كانت هناك فرق القمصان الخضراء التي شكلتها جماعة (مصر الفتاة) وكان من أعضائها (جمال عبدالناصر)! بل إن (الوفد) وهو الحزب الديمقراطي العتيد قد شكل هو الآخر فرق القمصان الزرقاء وكل الشواهد التاريخية تؤكد أن (جوالة الإخوان) كانت أكثر هذه الفرق انضباطا سواءا من الناحية الأخلاقية أو من ناحية الإلتزام بالقانون.
ومما يتجاهلونه كذلك أن الإخوان المسلمين لم يكونوا هم الذين بدأوا باستخدام الرصاص في الحوار السياسي مع القوى السياسية المحلية، فقد كان أول استخدام له في هذا الإتجاه عام 1922، وقبل ست سنوات من تشكيلهم، عندما اغتال مجهولون يشك في أنهم من المتعاطفين مع (الوفد) اثنين من زعماء (الأحرار) الدستوريين إبان الصراع العنيف بين الطرفين. كما أن أحدا من الإخوان المسلمين لم يشارك في محاولات الإغتيال التي تعرض لها (إسماعيل صدقي) وأركان الأنقلاب الديكتاتوري الذي تزعمه طوال النصف الأول من الثلاثينيات وكان أحد أعضاء (مصر الفتاة) هو الذي حاول أغتيال مصطفى النحاس عام 1937.
ولم يكن العنف ضد الإحتلال البريطاني في الأربعينيات قاصرا على الإخوان فباستثناء الشيوعيين الذين لا يؤمنون- من حيث المبدأ- بالعنف الفردي فقد كان اللجوء للعنف لإجبار المحتلين على الجلاء، أو على الأقل تنفيذ معاهدة 1936 والرحيل عن المدن الكبرى إلى قاعدة قناة السويس، يكاد يكون توجها عاما بين التيارات السياسية الجديدة- كالحزب الوطني الجديد ومصر الفتاة- فضلا عن كثير من المنظمات السرية الشبابية التي استلهمت تجارب المقاومة السرية ضد الإحتلال النازي لدول أوروبا وخاصة فرنسا، بل إن هذه الموجة قد شملت كذلك قواعد شبابية تنتمي إلى الأحزاب التقليدية ومنها (الوفد).
ولم يكن الإخوان وحدهم الذين غيروا في النصف الثاني من الأربيعينات اتجاه رصاصهم من صدور جيش الإحتلال إلى صدور المصريين، فالذي قتل (أحمد ماهر)- أول ضحية تسقط نتيجة لهذا التغيير- لم يكن إخوانيا بل كان من المنتمين لشباب الحزب الوطني، ولم يكونوا أصحاب نظرية هذا التوجه لأن صاحبها هو ضابط الجيش المفصول آنذاك (أنور السادات) الذي تعرف إلى مجموعة من الشبان يتزعمهم (حسين توفيق) كانوا يقومون بعمليات مقاومة سرية ضد ضباط وجنود ومؤسسات جيش الإحتلال ويمكنون له إنطلاقا من تصور يرى أن تطهير البلاد من عملاء الإحتلال وجواسيسه هو المقدمة الأولى للإنتصار عليه. وهو التيار الذي تواءم مع سعي القصر الملكي للثأر من خصومه من الوفديين وأسفر عن اغتيال (أمين عثمان) وعن محاولتين لاغتيال (مصطفى النحاس) زعيم الوفد.
وليس (حسن البنا) هو الذي أسس تيار التزمت في الفكر الإسلامي، إذ الحقيقة أن هذا التيار قد تأسس ضده ونشأ تمردا على قيادته وكان أول انشقاق عن جماعته اسفر عام 1937 عن تشكيل (جماعة شباب محمد) التي اتهمته بالقعود عن الإجتهاد وبالإكتفاء بمساندة ثوار فلسطين- الذين يجاهدون ضد الصهيونية- بالكلمات وليس بالقتال الفعلي وبمهادنة القوى التي تماطل في تطبيق الشريعة وبالتواطؤ مع الذين لا يحكمون بما أنزل الله وطالبته بالتخلي عن قيادة الدعوة أو اتخاذ موقف جهادي واضح يجابه الحكومة بأنها كافرة ويقاوم المنكر في المجتمع بالعنف, وكانت مصر الفتاة في سياق التنافس مع الإخوان هي التي ارتادت على الصعيد الحركي طريق مقاومة المنكر باليد حين قام انصارها عام 1939 بالهجوم على الحانات لتحطيمها والأعتداء على روادها وفي المرتين قاوم (البنا) هذا الإتجاه وأعلن انه خروج عن القوانين مهما كان رأيه في درجة إسلاميتها.
والذين يضعون فأس المسئولية عن العنف الديني الذي تفشى منذ ذلك الحين في أنحاء مختلفة من المنطقة العربية في رقبة (حسن البنا) يتجاهلون أن المسئول الأول عن ذلك هم الذين شجعوا بل تآمروا على إقامة دولة دينية في المنطقة عن طريق العنف، والذين سعوا إلى ذلك عن طريق هجرة استيطانية تحولت إلى أحزاب سياسية صهيونية علنية لكل منها جناح عسكري سري تتعاون جميعها في ممارسة العنف ضد أصحاب البلاد الأصليين من المسلمين والميسحيين لكي تطردهم منها وتحل محلهم.
وكان هذا التحدي الذي استجاب له (البنا) فاتبع نفس الطريقة ولكن لهدف مضاد وشرع- بمشورة المجاهدين الفلسطينيين- في تشكيل الجهاز الخاص للاخوان المسلمين ليكون بمثابة جناح عسكري للجماعة يجند طاقات الشبان الأكثر حماسا واستعدادا للتضحية من خلال دراسات فقهية حول نظرية الجهاد في الفقه الإسلامي وبرامج للتدريب العسكري للأسلحة والمتفجرات لكي يكونوا مؤهلين لمواجهة الغزو الصهيوني والاحتلال الاجنبي لبلاد المسلمين.
وبصرف النظر عن مدى صواب ذلك أو عدم صوابه فإن المسئول عن نشؤ العنف الديني في المنطقة ليس صاحب (رد الفعل) ولكنه صاحب (الفعل) الذي يملأ الدنيا الآن في بلاد الغرب صؤاخا ضد هذا النوع من العنف.
والشواهد التاريخية تؤكد أن معظم عمليات العنف التي قام بها الجهاز الخاص أو تلك التي قام بها قسم الوحدات الذي يضم ضباط الجيش وجنوده وضباط الشرطة من الإخوان ظلت في إطار الهدف الذي أنشئ من أجله الجهازان، وفي السياق نفسه لعمليات مشابهة قام بها أعضاء من فرق سياسية أخرى سواء بصفتهم الحزبية أو الشخصية إذ توجهت في الأساس تجاه جنود ومؤسسات جيش الإحتلال ثم بعد ذلك وحين تعقد الوضع بين الفلسطينيين و الصهاينة- في أعقاب صدور قرار التقسيم- توجهت ضد الممتلكات اليهودية ومع أن تحفظا قد يرد على عمليات من نوع نسف حارة اليهود أو محلات مثل (شيكوريل) و(أوركو) فإن الفظائع التي كان يرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين تجعل وقوعها أمرا واردا وفضلا عن ذلك فقد تطوع عدد كبير من أعضاء القسمين ضمن أفواج المتطوعين العرب التي دخلت أرض فلسطين قبل أن تدخلها الجيوش العربية رسميا في 15 مايو 1948.
لكن الجهاز الخاص الذي كان قسما ذا استقلال شبه ذاتي له قيادته التنفيذية و تشكيلاته الخاصة ولوائحه المستقلة ولا يربطه عمليا بالجماعة سوى مجلس من المستشارين ورئاسة (حسن البنا) ما لبث بعد أن أتسعت عضويته وتعاظم نفوذه أن بدأ ينحو نحو مزيد من الإستقلال ونشأ لدى بعض قيادته وخاصة (عبدالرحمن السندي) نزوع للإنفراد باتخاذ القرار تذرعا بأن ضرورات التنفيذ تبيح محظور عدم استشارة المرشد العام!
ومن الإنصاف للرجل أن نقول بأن عمليات العنف التي قام بها الجهاز الخاص ضد مصريين في حياته لا تتجاوز ثلاثة هي قتل القاضي (أحمد الخازندار) بسبب أحكام قاسية أصدرها بحق بعض الذين قاموا بأعمال عنف ضد قوات الإحتلال- من أعضاء الجهاز ومن غيرهم- واغتيال رئيس الحكومة (محمود فهمي النقراشي) ردا على قراره بحل جماعة الإخوان ومصادرة ممتلكاتها وإعتقال قادتها وأخيرا محاولة نسف محكمة الإستئناف لإحراق الأوراق السرية للجهاز الخاص التي كانت قد ضبطت في سيارة جيب لتدمير أدلة الإتهام ضد قياداته وتأمين من لم يقع في أيدي الشرطة من أعضائه.
ولم يكن (البنا) طرفا في هذه العمليات الثلاث, فقد نفذت أولاها دون علمه و غضب غضبا شديدا لوقوعها ونفذت الثانية والثالثة بعد حل الجماعة وتفكك روابطها التنظيمية بسبب إعتقال قادتها ومطاردة الآخرين ووضعه هو نفسه تحت الرقابة بوليسية صارمة حالت بين الذين خططوا لهما وبين عرض الأمر عليه وحالت بينه وبين الإعتراض على التنفيذ بل إنه أعتبر الرصاصات التي وجهت (للنقراشي) قد أصابته هو نفسه ونظر إلى محاولة نسف محكمة الإستئناف باعتبارها تحديا له إذ كان يجري مباحثات سياسية لكي يلغي قرار الحل أبدى خلالها مرونة سياسية وصلت إلى حد أبدى فيه استعداده لأن يقصر نشاطها على الجانب الديني وحده ويتوقف عن التدخل في الشؤون السياسية.
ولم يكن استقلال الجهاز السري للإخوان برؤاه وعملياته بعيدا عن القوانين العامة لهذا النوع من الأجهزة بل يكاد يكون تكرارا لتجربة الجهاز السري لثورة 1919 الذي نشأ للقيام بعمليات عنف محسوبة ضد الإحتلال ومع أن الثورة قد حققت أهدافها فأعلن الإستقلال ثم الدستور وتولى زعيمها سعد زغلول رئاسة الوزارة فقد قامت مجموعة منه بإغتيال القائد البريطاني للجيش المصري وحاكم السودان العام فكانت النتيجة استقالة وزارة سعد وسحب الجيش المصري من السودان و تعطيل الدستور.
والحقيقة أن انشغال (البنا) بالحشد والتحريك والتنظيم على حساب ما كان محتما ألا يتأخر في القيام به وهو صياغة فقه إسلامي يستجيب لحاجات العصر وخاصة فيما يتعلق بالمسألة السياسية لم يؤد فقط إلى المخاوف التي أشاعها هذا الحشد في نفوس بقية الفرقاء على الساحة الإجتماعية والسياسية والمحلية والدولية ولم يسفر عن تعدد الرؤى داخل جماعته، بل وانعكس كذلك داخل الجهاز الخاص الذي قام بالعمليات الثلاث استنادا إلى اجتهاد خاص ببعض أعضائه لم ينظر إلى الإخوان المسلمين كما كان (البنا) ينظر إليها باعتبارها (جماعة من المسلمين) يجوز الخلاف معها بل نظر إليها باعتبارها جماعة المسلمين التي يتوجب حمل السلاح في وجه من يختلف معها.
ومن سوء الحظ التاريخي أن الذين توجهت إليهم رصاصات الجهاز الخاص للإخوان- إستنادا إلى هذا الفهم الخاطئ- لم يميزوا بين الرجل وبين الذين أساؤوا فهم أفكاره ووضعوها في سلة واحدة فاغتالوه! وفي ظنهم أنهم يقضون على العنف فإذا بهم يشعلونه في الأرض إذ أن المؤكد أنه لولا غياب حسن البنا لتغير وجه النصف الثاني من القرن العشرين عما صار إليه ولاختلف استقبالنا للألفية الثالثة عما نحن فيه.
نشر المقال عام 1999 في جريدة الشرق القطرية
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر
أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية