عام 1986، صدر كتاب "مثقفون وعسكر" (مدبولي) في القاهرة لـ الكاتب المصريالراحل صلاح عيسى (1939-2017)، والذي أعلن وفاته اليوم الإثنين، في مستشفى المعادي العسكري، بعد صراع مع المرض امتد لأسابيع.
في الكتاب، رصد عيسى عدداً من الوقائع التي دونها في مقالات أو كان شاهداً على تفاصيلها، وأغلبها يدور حول نفاق المثقفين للسلطة في عصر الرئيسين المصريين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهي الفترة التي كان الكاتب منتمياً فيها إلى اليسار المصري، حتى أنه تعرض للسجن عدة مرات في 1966 و1977 و1981، وللطرد من عمله مرات أخرى بسبب أرائه السياسية.
يفصّل عيسى حقيقة مثقفي الأنظمة في كتابه قائلاً: "عرفنا أنماطاً من المثقفين يفهمون الثقافة والفكر على أنها لسان ذرب، وقلم سيال، وعقل يملك مهارة الاحتيال على الحق ليصبح باطلاً، وعلى الأسود ليجعله أبيض، يلعبون بالأفكار ويضحكون على الذقون، ويسربلون الأغراض الدنيئة بأنبل الشعارات".
ويضيف "معظم هؤلاء للأسف من أصول اجتماعية متواضعة، نحتوا بأظافرهم فى الصخر طريقاً صعباً ودامياً ليصعدوا من أسفل السلم الاجتماعى إلى حيث يصبحون أقرب ما يكونون إلى القمة، وحين يجدون أنفسهم هناك، تأسرهم أضواء الكاميرات، ويفقدون تقدير أنفسهم، فيستكثرون ما وصلوا إليه، ويعضون بالنواجذ عليه، حتى لا يضيع، ويتملكهم رعب السقوط إلى القاع الذى صعدوا منه، وتصطك أوصالهم وأسنانهم فرقاً من أعباء الانتماء للفقراء الذين كانوا منهم يوماً، ورعباً من السجون والفصل والتجميد، فيتطوعون لتبرير كل ما يفعله السادة، ويقنعون أنفسهم بأن الثقافة حرفة كالحدادة والسباكة والنجارة".
ويتابع "كما أنه ليس من حق الحرفي أن يرفض عملاً، اعتراضاً على رب العمل، فليس من حق المثقف أن يضن بحرفته على أي نظام حكم، وبذلك أصبحوا بعضاً من حاشية السلطان، يدافعون بشراسة عن الذين لا يؤمنون به، ويهاجمون بشراسة ما يعتقدون أنه الصواب والحق، يقفون كالحجّاب على أبواب السلاطين، لا يغادرون مكانهم حين يغادر السلطان عرشه، ولكنهم يغيرون مواقفهم إذا ما عنّ للسلطان أن يغير مواقفه، أو يوم يخلفه خليفة يسير على خط سلفه بممحاة".
ينتقد الكتاب الكاتب الراحل يوسف السباعي، ويتهمه بالتضييق على الكتاب اليساريين، ويسميه في الجزء المخصص عنه "الكولونيل"، في إشارة صريحة إلى كونه عسكري سابق، كما ينتقد مواقف الكاتبين الراحلين نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم المؤيدة لاتفاق السلام الذي عقده السادات مع إسرائيل في كامب ديفيد، ويرصد أيضاً حواراً له مع الكاتب محمد حسنين هيكل حول كتابه "خريف الغضب" الذي يتناول عهد السادات بانتقاد شديد.
من النصوص اللافتة في الكتاب قوله "عرفنا مثقفين أقوياء فيهم صلابة حقيقية وشجاعة داخلية، تتوزع على مدى العمر، وتنمو مع التجربة، وتؤثر إيجابياً في بناء الآخرين، وأخرى فيها صلابة هشة تتجمع في موقف، أو تتركز في بضع سنوات، ثم تنكسر مع العمر فتنثني ولا تعتدل! جيلنا من المثقفين العرب، مصريين وغير مصريين، سيدخل التاريخ من باب السيكولوجيا، لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر".
في سنوات لاحقة، أصبح عيسى أحد رجال سلطة حسني مبارك، ودخل ما كان يطلق عليه وزير ثقافة مبارك، فاروق حسني، حظيرة الدولة، فبات يكتب في صحفها الرسمية، ويظهر في قنواتها الرسمية، ثم أسند إليه رئاسة تحرير صحيفة وزارة الثقافة، والتي تسمى "القاهرة"، ليصبح أحد منظري النظام في ميدان الثقافة، وينتهي عيسى المعارض، حتى وفاته مؤيداً لعبد الفتاح السيسي.
وكان عيسى أحد المثقفين الذين قابلوا مبارك يوم 30 سبتمبر/أيلول 2010، قبل أقل من أربعة أشهر على ثورة يناير التي أطاحت به، وقد أفردت لهم صحيفة "الأهرام" الرسمية، صفحة عنوانها "لقاء مبارك مع المثقفين.. بأقلام كتاب الأهرام"، مزينة بصورهم.
لم يكن مفهوماً لكثيرين أسباب التحول، خاصة وأنه طاول عدداً من المثقفين اليساريين، ومنهم الراحلين محمد سيد أحمد ورفعت السعيد، والكاتب محمد سلماوي وغيرهم، فمن يقول إن المناضلين أتعبهم النضال فاختاروا الركون إلى الراحة لأنهم اكتشفوا أن النضال بلا جدوى، ومن يرى أنه تم تخييرهم بين الانضمام إلى حظيرة السلطة أو البقاء في السجون، وربما السبب هو ذلك الذي أورده عيسى في كتابه، من أنهم "يتملكهم رعب السقوط إلى القاع الذي صعدوا منه، ورعب من السجون والفصل والتجميد، فيتطوعون لتبرير كل ما يفعله السادة".
في سنة 2010، أصدر صلاح عيسى كتاباً بعنوان "شخصيات لها العجب"، يمكن اعتباره نقيضاً مناسباً لكتابه "مثقفون وعسكر". الكتاب الأحدث كان أيضا تجميعاً لمقالات منشورة مثل الكتاب الأقدم، لكن تلك المقالات نشر أغلبها في صحيفة وزارة الثقافة التي كان عيسى يرأس تحريرها، وبالطبع كانت محددة بسقف النظام، وفيها يلتمس الكاتب الأعذار لكثير من الشخصيات التي صب عليها غضبه في سنوات حياته السابقة، وكأنه يعتذر عن تهوره في انتقاد المثقفين والكتاب في عهدي عبد الناصر والسادات، واتهامهم بنفاق السلطة وتشويه وعي المجتمع، ربما لأنه فعل مثلهم في عهد مبارك.
من أوضح ما كتبه عيسى في "شخصيات لها العجب"، والذي يمكن اعتباره نموذجا للتحول من النقيض إلى النقيض، ما كتبه عن الكاتب الراحل لطفي الخولي (1928 ـ 1999)، وعنه يقول: "تعلّم جيلنا الثورة والتمرد من الخولي، ومن جيله، لاحقاً، كنا ننظر إليهم بغضب، لأنّهم، في ما كنا نعتقد، كفّوا أن يكونوا ثواراً، وتخلّوا عن قضايا الأمة والوطن والشعب، واستناموا إلى المقاعد الوثيرة التي منحتها لهم السلطة في أحد الجوانب القصية من صالة المسرح. وكما يفعل الأبناء مع الأباء عادةً، اتخذنا منهم شواخص أولى لسخطنا. وكان سخطنا فواراً بمقدار حبنا لهم، وعنيفاً بقدر ما نظن أنّه خديعتنا فيهم. في ما بعد أيقنت أن تلك سنن الله في خلقه وفي كونه".
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق