الجمعة، 27 أبريل 2018

فضفضة عربية

يعتقد صديق أن إصرار كثير من العرب، خصوصاً من كبار السن، على بقاء الحاكم، حتى لو كان ديكتاتوراً أو فاشلاً، سببه تجاربهم السابقة مع التغيير التي كانوا يأملون منها الخير، لكنها جلبت عليهم مزيداً من البؤس. نحتج على ما قاله، فيحيلنا إلى نتائج الربيع العربي الذي كان هدفه تغيير أنظمة مستبدة، فانتهى إلى إحلال أنظمة أكثر استبداداً. يمثل الصديق المتشائم وجهة نظر قطاع من العرب الذين يؤمنون بأن من يفشل مرة يجب أن لا يحاول مجدداً. هؤلاء أنفسهم يكررون عشرات الأمثال الشعبية المتداولة التي تحض على الرضا بالوضع المتاح، حتى لو كان مأساوياً. يطرح صديق آخر نظرية مفادها أن الطباع السيئة التي يبديها مواطنون عرب تجاه بعضهم البعض ليست إلا نتيجة طبيعية لعدم قدرتهم على مقاومة الأنظمة التي تحكمهم بالحديد والنار، وأن هؤلاء المحكومين البائسين يلجؤون إلى تفريغ غضبهم المكبوت في آخرين مثلهم أملاً في استشعار قدرة ما على رد الفعل، حتى إن كان رد فعل مزعوم، أو بالأحرى مذموم. يأخذنا صديق ثالث إلى رواية "فساد الأمكنة" للكاتب المصري الراحل صبري موسى، ويقرأ لنا منها نصاً حول قسوة المدينة على نفوس الناس، يقول: "إن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين، تتراكم على قلوبنا وعقولنا، ثم تتكثف ضباباً يغشى عيوننا وأقدامنا، فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء. فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية. ولكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها، ويصبح ضبابها على النفس أشد كثافة وثقلاً، بينما تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلى بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها". ينقل أحد الأصدقاء دفة الحديث إلى رواية أخرى هي "حرب الكلب الثانية" للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، والفائزة بجائزة "البوكر" قبل أيام، ويقرأ لنا أحد حواراتها المعبرة، يقول الشخص الأول: "لاحظت أن الناس لم تعد تتعارك وتختلف لتجرح، بل لتقتل نهائياً، كما لو أنهم متفقون على قاعدة: من مكان الشجار إلى المقبرة دون المرور بالمستشفى". فيسأله الثاني: "هل يحاولون التخفف من مصاريف العلاج؟"، فيرد: "لا أظن هذا، لقد قرروا التخفف ممن يشبهونهم إلى الأبد بعد أن كانوا قد تخففوا ممن يختلفون عنهم في الماضي". يشخص الحوار القصير الحالة القائمة في أغلب بلدان الربيع العربي، حيث تحول شركاء الثورة إلى أعداء، على الرغم من أنهم لا ينفكون يكررون المثل العربي الشهير "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". ما يمكن اعتباره الانتصار الأهم للثورة المضادة.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية



الجمعة، 20 أبريل 2018

وزن زائد


 بدأتُ قبل أكثر من شهر مضى، خطة جادة للتخلص من الوزن الزائد. توقفت عن تناول الطعام بعد التاسعة مساء، وامتنعت عن استهلاك السكر، كما امتنعت عن تناول الخبز. وألقيت كل ما كان لدي من المقبلات و"المخللات" في القمامة، وصرت أواظب على المشي أو الجري ساعة يومياً على الأقل، وساعتين على الأقل في العطلات الأسبوعية. عندما بدأت كان وزني يتجاوز المعدلات الطبيعية بتسعة كيلوغرامات كاملة، والآن فقدت خمسة منها، ولا يزال يتوجّب عليّ التخلص من خمسة كيلوغرامات أخرى. لكنها أصعب من سابقتها. بعد فقدان هذا الوزن الزائد بدأت أتلقى تشجيعاً من أغلب الزملاء، وتشجع عدد منهم للتخلص من وزنه الزائد أيضاً. أغلب الزملاء يعانون من المشكلة التي يمكن اعتبارها ظاهرة في كثير من أماكن العمل، وخصوصاً في مهنتنا التي تساعد على زيادة الوزن، إما بسبب الأوقات الطويلة التي نقضيها جلوساً، للكتابة والقراءة ومتابعة الأحداث، أو ما يمكن أن تسميه عدم وجود مواعيد ثابتة للعمل، حتى وإن كانت هناك مواعيد رسمية، وبالتالي تتأثر مواعيد تناول الطعام وممارسة الرياضة. نحن نعمل على مدار الساعة، حتى خلال ممارسة الرياضة، أو عند الذهاب إلى دور السينما، أو مشاهدة مباريات كرة القدم. تدور أغلب تفاصيل حياتنا حول العمل، ونربط كل ما نمارسه به، وأحياناً ما تتحوّل مهمة تسوّق إلى موضوع للكتابة، أو تمنح فكرة ما ضمن موضوع، وعادة ما ننتبه خلال نشاط نقوم به إلى ارتباطه بموضوع أو فكرة خاصة بالعمل. لا توفّر أغلب أماكن العمل، لأسباب اقتصادية في العادة، للعاملين مساحات لممارسة أي نوع من الرياضة، وبالتالي يتحوّل العمل إلى أحد أسباب السمنة، فضلاً عن أمراض العمل الأخرى المعروفة. وتؤكد كثير من الدراسات في مجالات الصحة واللياقة البدنية وجودة العمل، أن توفير صالة رياضية صغيرة في مكان العمل يمكن أن يزيد من إنتاجية العاملين، ويحافظ أيضاً على صحتهم البدنية والعقلية، بما يوفر لمكان العمل الكثير. شاهد كثيرون لقطات فيديو عدة تظهر موظفين يمارسون الرقص الجماعي قبل بدء العمل، أو خلال فترة الراحة بين ساعات العمل الطويلة، لكن أحداً من هؤلاء يدرك أنه لن يمكنه الرقص في مكان عمله لأسباب أغلبها يتعلق بالتقاليد العربية الرائجة. دعك من الرقص. تعال نتحدث عن إقرار دقائق يومياً لممارسة أي رياضة خلال ساعات العمل، ربما تكون تلك الدقائق كفيلة بتجديد النشاط وتصفية الذهن بما يسمح باستكمال مهام العمل على الوجه الأكمل.

طرحت الفكرة على زملاء، فأقروا بأهميتها، ثم تقمص أحدهم دور المدير، ورفض تطبيقها قطعيا.





يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 13 أبريل 2018

خايف للغربة تحلالك

جمعتني، قبل أيام، جلسة امتدت لساعات مع أشخاص ينتمون إلى جنسيات عربية مختلفة، كما تتباين المهن التي يمارسونها، وتتفاوت أعمارهم ومستوياتهم التعليمية والثقافية. كنا نتحاور حول موضوع واحد هو "الغربة".
أغلب الحضور كانوا مغتربين عن أوطانهم لأسباب اقتصادية، لكن الحوار كان مليئا بالتباينات.
بدأت صديقتنا اللبنانية الحوار بتأكيد عدم رغبتها في العودة إلى بلادها، وأنها تشعر أن حياة الغربة أكثر راحة من العيش في الوطن، فوافقها صديق مصري قائلاً إنه لا يفكر في العودة لأنه يرفض العيش في كنف نظام يحكم بلاده بالحديد والنار.
كان صديقنا الليبي متحفزاً لطرح وجهة نظره. قال إنه لم يكن يخطر بباله يوماً أن يغادر بلاده، أو أن لا يتمكن من العودة إليها مجدداً، لكن الأوضاع التي آلت إليها البلاد تدفعه إلى ذلك، مضيفاً أنه يصعب عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الإطاحة بالعقيد القذافي.
انبرى رفيقنا المغربي متهماً إياه بالحنين إلى عهد القذافي، وأفاض في سرد الكوارث التي فعلها العقيد طيلة عقود قبل قتله على أيدي الثوار.
فضّل صديقنا الليبي الصمت، فحاولت صديقة سورية انتشاله من تهمة الحنين إلى عهد بائد، مؤكدة أنه لا يمكن بعد كل ما جرى في بلدان الربيع العربي أن نستنكر بعضاً من الحنين إلى هدوء العهود السابقة، وإن كان الفساد مستشريا فيها، وضربت مثالاً ببلدها الذي بات شبه مدمر بالكامل، والذي يحلم كل شخص يحمل جنسيته لو عادت الأمور إلى ما قبل 2011، رغم كل ما كان قائماً من ظلم وقمع وفساد.
كان رفيقنا الفلسطيني يراقب من دون تدخل، فوجهت إليه سؤالاً مباشراً حول رغبته في العودة إلى فلسطين. تجهّم الشاب الذي لا يكف عادة عن الضحك والسخرية، وقال إن القرية التي تم تهجير جده منها بعد النكبة لم تعد موجودة على الخريطة، وبالتالي فإنه لا يملك مسقط رأس يعود إليه.
سيطر الوجوم على المجموعة لفترة، قبل أن تقطعه صديقتنا السورية قائلة: إذا ما عدت وعاد غيرك، فعندها يمكن إعادة القرية إلى الخريطة مجدداً، فاحتد الشاب قائلاً: هذا يستلزم إنهاء الاحتلال أولاً، وكيف ينتهي الاحتلال بينما الفصائل الفلسطينية تتصارع معاً على تفاهات بدلاً من الاتفاق على أسلوب موحد للمقاومة.
تدخّل صديق يمني مؤكداً أنه سيعود في حال أتيحت له الظروف، وأنه لن يسمح للغربة التي فرضت عليه أن تستمر إلى الأبد.
ساد صمت بارد قطعه تسلل صوت محمد عبد الوهاب في مقطع "خايف للغربة تحلالك. والبعد يغير أحوالك. خليني دايما على بالك. يا مسافر وحدك وفايتني".

نظر بعضنا إلى بعض للحظات، قبل أن يبدأ أغلبنا ترديد الأغنية.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 6 أبريل 2018

محاولة هروب فاشلة



يواصل صديقي، منذ نحو سنة، مساعيه الجادة، الفاشلة حتى الآن، للهرب من ما يصفه بأنه "الجحيم المستعر في الشرق الأوسط"، والذي يقول إنه يترك في نفسه آثاراً شديدة الخطورة، حتى إنها بدأت مؤخراً تؤثر على جسده الذي لم يعد يتحمل متابعة الأخبار اليومية، ما اضطره إلى عدم متابعة وسائل الإعلام نهائياً.
غادر صديقي مصر، قبل سنوات، يقول إنه قرر، مثل كثيرين، المغادرة، بعد أن تم وأد حلمهم في التحرر من الديكتاتورية والفساد والقمع، واستعادة بلدهم الذي يرعى مصالح مواطنيه ويحفظ لهم حقوقهم، ليكتشفوا أنهم خرجوا من قبضة عصابة مستبدة ليسقطوا في قبضة عصابة أخرى مماثلة، كل ما يهمها هو حماية مصالحها، بغض النظر عن مصالح الوطن أو المواطن.
قابلني قبل أيام مصادفة، فاستعدنا حواراتنا السابقة حول الهجرة. كانت لديه رؤية جديدة، قال لي إن البقاء في الشرق الأوسط بعد مغادرة مصر لم يمنحه القدر الكافي من السلام النفسي حسبما كان يعتقد سابقاً، وأن الأزمة في مصر جزء من أزمة الإقليم الذي لا يتوقع أحد أن يستقر قريباً، بل ربما تتصاعد مشكلاته أكثر مما هي عليه الآن.
وأكد أنه قرر المغادرة مجدداً بعد محاولات متعددة ومتباينة للتكيف، أو بالأحرى التصالح مع الواقع، وكان قراره الجديد هو الابتعاد، قدر المستطاع، عن منطقة الشرق الأوسط. كان يحاول الهجرة إلى كندا في أقصى الشمال الغربي، أو إلى أستراليا في أقصى الجنوب الشرقي.
لكن عملية الهروب التي كان يتوقعها يسيرة، لم تسر كما تخيل بسبب كثير من المعوقات، حتى وصل مؤخراً إلى قناعة مفادها أنه من المنحوسين المكتوب عليهم أن يعيشوا بقية حياتهم وسط هذا الصراع المحتدم، مشيراً إليّ باعتباري أيضا من هؤلاء الأشخاص المنكوبين.
حاولت أن أجادله في منطق الهرب أو مآلاته، لكني وجدتني متفهماً لما يقوله، ربما لأنني كنت متعاطفاً معه، وربما لأنني فكرت مثله في الهرب بعيداً عن الشرق الأوسط، وإن لم أتخذ قراراً جدياً بالسعي إلى ذلك.
عاجلني قائلاً: قررت أن أترك مهنتي التي قضيت فيها نحو ربع قرن من عمري لأختبر مجال عمل جديد، وأتمنى أن أنجح في هذه المحاولة للهروب.
لم أستوعب فكرة الهرب من الواقع بتغيير المهنة، لكني أصبحت أشفق عليه أكثر، فقد وصل إلى مرحلة من القنوط لم يعد يملك أمامها إلا استحداث أشكال تغيير تخالف المنطق.

شجّعته على فعل ما يراه مناسباً، أو بالأحرى متاحاً، للخروج من الأزمة التي يحاول الفكاك منها، فقال لي إنه بات يعتقد أن الهرب ليس حلاً، وأنه لا مناص من المواجهة. قالها بترددِ مَن لم يتخل كلياً عن خطط الهجرة إلى أقصى الشمال أو أقصى الجنوب.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية