يواصل صديقي،
منذ نحو سنة، مساعيه الجادة، الفاشلة حتى الآن، للهرب من ما يصفه بأنه
"الجحيم المستعر في الشرق الأوسط"، والذي يقول إنه يترك في نفسه آثاراً
شديدة الخطورة، حتى إنها بدأت مؤخراً تؤثر على جسده الذي لم يعد يتحمل متابعة
الأخبار اليومية، ما اضطره إلى عدم متابعة وسائل الإعلام نهائياً.
غادر صديقي مصر،
قبل سنوات، يقول إنه قرر، مثل كثيرين، المغادرة، بعد أن تم وأد حلمهم في التحرر من
الديكتاتورية والفساد والقمع، واستعادة بلدهم الذي يرعى مصالح مواطنيه ويحفظ لهم
حقوقهم، ليكتشفوا أنهم خرجوا من قبضة عصابة مستبدة ليسقطوا في قبضة عصابة أخرى
مماثلة، كل ما يهمها هو حماية مصالحها، بغض النظر عن مصالح الوطن أو المواطن.
قابلني قبل أيام
مصادفة، فاستعدنا حواراتنا السابقة حول الهجرة. كانت لديه رؤية جديدة، قال لي إن
البقاء في الشرق الأوسط بعد مغادرة مصر لم يمنحه القدر الكافي من السلام النفسي
حسبما كان يعتقد سابقاً، وأن الأزمة في مصر جزء من أزمة الإقليم الذي لا يتوقع أحد
أن يستقر قريباً، بل ربما تتصاعد مشكلاته أكثر مما هي عليه الآن.
وأكد أنه قرر
المغادرة مجدداً بعد محاولات متعددة ومتباينة للتكيف، أو بالأحرى التصالح مع
الواقع، وكان قراره الجديد هو الابتعاد، قدر المستطاع، عن منطقة الشرق الأوسط. كان
يحاول الهجرة إلى كندا في أقصى الشمال الغربي، أو إلى أستراليا في أقصى الجنوب
الشرقي.
لكن عملية
الهروب التي كان يتوقعها يسيرة، لم تسر كما تخيل بسبب كثير من المعوقات، حتى وصل
مؤخراً إلى قناعة مفادها أنه من المنحوسين المكتوب عليهم أن يعيشوا بقية حياتهم
وسط هذا الصراع المحتدم، مشيراً إليّ باعتباري أيضا من هؤلاء الأشخاص المنكوبين.
حاولت أن أجادله
في منطق الهرب أو مآلاته، لكني وجدتني متفهماً لما يقوله، ربما لأنني كنت متعاطفاً
معه، وربما لأنني فكرت مثله في الهرب بعيداً عن الشرق الأوسط، وإن لم أتخذ قراراً
جدياً بالسعي إلى ذلك.
عاجلني قائلاً:
قررت أن أترك مهنتي التي قضيت فيها نحو ربع قرن من عمري لأختبر مجال عمل جديد،
وأتمنى أن أنجح في هذه المحاولة للهروب.
لم أستوعب فكرة
الهرب من الواقع بتغيير المهنة، لكني أصبحت أشفق عليه أكثر، فقد وصل إلى مرحلة من
القنوط لم يعد يملك أمامها إلا استحداث أشكال تغيير تخالف المنطق.
شجّعته على فعل
ما يراه مناسباً، أو بالأحرى متاحاً، للخروج من الأزمة التي يحاول الفكاك منها،
فقال لي إنه بات يعتقد أن الهرب ليس حلاً، وأنه لا مناص من المواجهة. قالها بترددِ
مَن لم يتخل كلياً عن خطط الهجرة إلى أقصى الشمال أو أقصى الجنوب.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق