يستعرض الفيلم الذي يعرض حاليا، بحرفية فنية ملحوظة مدى قسوة تكرار معاينة أو العيش في مناطق العنف والقتل على حياة البشر، وكيف أن من جربوا الأمر مرة، أو مرات، تتغير حياتهم بالكلية، وأحيانا دون أن يشعروا هم أنفسهم بحجم هذا التغير.
روت ماري كولفين بأسلوبها المتميز تفاصيل مروعة عن وقائع عدة حروب، وكانت أول من كشف عن المقابر الجماعية لضحايا نظام صدام حسين في العراق، وأجرت حوارات مع قادة "نمور التاميل" المعارضة في سريلانكا خلال فترة احتدام الصراع، وهناك فقدت عينها اليسرى بعد انفجار قذيفة بالقرب منها خلال محاولتها التنقل بصحبة المقاتلين.
لاحقا، انتقلت مع تفجر ثورات الربيع العربي إلى الشرق الأوسط، وكانت موجودة في ميدان التحرير يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، والمعروف إعلاميا باسم "جمعة الغضب"، ولاحقا كانت في ليبيا خلال تفجر الثورة ضد نظام حكم العقيد معمر القذافي، وأجرت حوارا صريحا مع القذافي شخصيا، وقالت لاحقا إنه كان يغازلها بشكل فج، وكانت شاهدا على مقتله على أيدي الثوار في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
انتقلت بعدها إلى سورية، وعاشت مع مقاتلي الجيش الحر، ونقلت تفاصيل الجرائم والمجازر هناك، وكانت ضمن أصوات إعلامية قليلة تنقل الأحداث من على الأرض، وهناك لقيت حتفها في حمص في فبراير/شباط 2011 بعد استهداف المخبأ الذي كانت فيه مع آخرين.
استغل الفيلم تلك الجولات الصحافية في المناطق الساخنة لتسليط الضوء على شخصية كولفين، التي قامت بدورها الممثلة روزاموند بايك، والتغيرات التي طرأت على حياتها وطريقة تفكيرها. فالصحافية الأميركية المقيمة لسنوات في لندن تحولت مهنتها الخطرة إلى نوع من العشق المرضي، فهي لا ترتاح إلا بعد الوصول إلى أبعد مدى ممكن على جبهات القتال، ولا تعترف بالخطر مهما اقترب، وتستخدم كل ما تعرفه من مهارات، وكل ما تمتلكه من خبرات للوصول إلى التفاصيل والمعلومات التي تبني عليها تقاريرها إلى صحيفتها.
يحفل الفيلم بأصوات الرصاص والانفجارات والمطاردات، ومحاولات النجاة من الموت، لكن مخرجه ماثيو هاينمان ضمنه مزيجا من العلاقات الإنسانية المتشابكة والمتقاطعة التي تخبر الكثير عن شخصية البطلة المعقدة، فعلاقتها الغامضة بأبيها وغياب أمها عن حياتها لفترات طويلة كانت أحد أسباب شخصيتها الغريبة عن محيطها، ثم علاقتها المتوترة بزوجها صاحب العلاقات النسائية التي يبررها بانشغالها الدائم في عملها.
لا يمكن إنكار أن كل تلك الأمور كان لها تأثيرات واضحة على حياة كولفين، لكن القتل والدمار الذي عاشته كمراسلة حربية، والقصص المأساوية التي شاهدتها خلال عملها كان لها تأثير أكبر في جنوحها نحو ما يمكن أن نسميه إدمان الخطر.
المشاهد التي تلت اكتشافها فقدان عينها اليسرى في سريلانكا، كانت معبرة عن مدى قسوة حياتها، وقد أتاح المخرج مساحة جيدة لاستعراض تلك الفترة الحرجة في حياتها، والتي كانت تحاول فيها جاهدة استعادة قدرتها على العمل، أو بالأحرى الحياة، رغم بعض لحظات اليأس الواضحة.
خلال نقاش مع مدير تحرير الصحيفة اتهمته بتعمد البقاء في مكتبه الهادئ بينما تواصل هي وزملاؤها التواجد في مناطق الحروب والصراعات، فيما الرجل نفسه في مشهد آخر، كان يرجوها العودة إلى لندن فورا حرصا على سلامتها، فترفض بعناد.
اعتمد الفيلم بالأساس على سيرة ذاتية طويلة نشرتها مجلة "ماي فير" بعد 6 أشهر فقط على مقتل كولفين في 2012، وإن لم تستغرق مساحة رحلتها الأخيرة إلى حمص حيزا واسعا من أحداث الفيلم، إلا أنها كانت كافية لإظهار طبيعة مرحلة الإصرار على البقاء في المنطقة المشتعلة، حتى لو كلفها ذلك حياتها.
يحذرها المقاتلون الذين ترافقهم من الاتصال بالإنترنت عبر الهاتف حتى لا يتم كشف مكان مخبئهم، لكنها كادت ترتكب تلك الغلطة الفادحة حرصا على إرسال أحدث تقاريرها، لولا أن استوقفها في اللحظة الأخيرة مصورها الذي كان حاضرا لحظة وفاتها.
في مشهد آخر يطلب من الجميع مغادرة المخبأ بعد وصول معلومات حول قرب استهداف النظام السوري له، فتخرج مهرولة مع الآخرين، وفي منتصف طريق الهرب تقرر العودة مجددا لأنها ستشعر بخزي كبير إن هربت تاركة خلفها مئات النساء والأطفال الذين يحتاجون إلى جهودها في فضح جرائم النظام، والتي ربما تمنحهم فرصة أطول للبقاء على قيد الحياة.
جسدت روزاموند بايك الدور بصورة استثنائية، فتدربت لشهور على تقمص الشخصية، بل إنها تدربت على الوصول إلى طبقة صوتها الأجش المميزة، وربما ساعدها على ذلك كون كولفين شخصية معروفة يسهل الحصول على لقطات فيديو لها في مناسبات مختلفة بما يمكن الممثل من دراسة تفاصيل الشخصية وانفعالاتها، وحتى حركة اليدين وطريقة المشي وغيرها.
وعلى خلاف كثير من الأفلام الأجنبية التي تتناول أحداثا جرت في المنطقة العربية، استعان المخرج ماثيو هاينمان بممثلين عرب، وظهرت اللهجات المحلية في المشاهد التي تدور في العراق وفي ليبيا وفي سورية، فالممثل العراقي رعد الراوي جسد شخصية العقيد الليبي معمر القذافي، والممثل المصري فادي السيد قام بدور المترجم والمرافق العراقي للبطلة، والأردني وسام طبيلة جسد دور منسق الصحافة الأجنبية في سورية، لكن ثلاثتهم كأمثلة، كانوا يجيدون لهجة الشخصية التي يقدمونها.
كانت ماري كولفين صحافية مميزة بكل المقاييس، وقد قدم الفيلم ذلك بشكل واضح. لكن المخرج لم ينغمس في الاهتمام بشخصية البطلة وحدها متجاهلا الشخصيات الأخرى، إذ ظهر في الفيلم العديد من القصص الإنسانية التي تم تقديمها بما تستحقه من اهتمام، مثل ردود فعل النساء العراقيات حين استخراج الجثث من المقبرة الجماعية، وحكايات النساء السوريات المحاصرات في حمص اللاتي نقلت كولفين قصصهن المأساوية في تقاريرها التي سلطت الضوء على جرائم كان يراد أن لا يسمع بها العالم.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق