الأربعاء، 6 يناير 2021

قصة حصار قطر... سبوبة آل كوشنر





لو كنت مراسلا طموحا لأي قناة عربية، جزيرة او عربية، سأستغل مصداقيتها وحيادها الإعلامي بتحقيق مثير،  متأثرا بمسلسل "التاج" Crown على شبكة نتفلكس، حين اظهر تحدي BBC للملكة إليزابيث منذ الستينيات في تغطية حياتها وعائلتها بشكل واقعي وسلبي، رغم أنها قناة عامة تمولها المملكة المتحدة!
سأختار للتحقيق عنوان "سري فقط" وليس "سري للغاية،" ليس لأن الأخير كان برنامجا على قناة الجزيرة بل لأن بطل القصة هنا أصرت أجهزة الأمن والمخابرات الأمريكية على تخفيض مستوى معلومات وأسرار الدولة التي يمكنه الاطلاع عليها من "سري للغاية" إلى "سري" فقط، لأنهم وجدوا الصينيين والخليجيين يتحايلون على جهله بالسياسة وحاجته للمال ليسدد دَينا كبيرا عليه، فخافوا من حاجته وفلتان لسانه واجتماعاته مع الخليجيين دون الإبلاغ عنها. لكن والد زوجته، ضرب بتحذيراتهم عرض الحائط، وأعاد لصهره، كمستشار له هو وزوجته، حق الاطلاع على كل الأسرار بدرجة "سري للغاية."
سيقف المراسل، في بداية التقرير أمام ناطحة سحاب في نيويورك، ارتفاعها واحد وأربعون طابقا، وعمرها واحد وخمسون عاما، ليروي قصة الرجل الذي لعب دورا محوريا في فرض الحصار الجوي والبري والبحري على قطر ومقاطعتها من شقيقاتها الأربع: السعودية والإمارات، ومعهما: البحرين ومصر، في يوم واحد، يتزامن مع الذكرى الخمسين للهزيمة العربية الأليمة: الخامس من يونيو حزيران 2017. 
عنوان المبني بالتحديد، لتسهيل الأمر على المراسل: رقم 666 جادة او الطريق الخامس 5th Avenue ما بين شارعي 52 و 53 بوسط جزيرة مانهاتن في قلب مدينة نيويورك.
هذا المبنى اشتراه، باسم شركات عائلته جارد كوشنر،عام 2007 ليكون رمزا لمكانتهم في عالم العقارات والمقاولات، الشاب جارد، كان قد بدأ يتولى إدارة شركات مقاولات والده الذي قضى عامين في السجن، انتهت في العام السابق (2006) للتهرب الضريبي، وابتزاز زوج اخته (اي عمة جارد) بتصويره فيديو مع داعرة استاجرها الاب تشارلز ليري اخته خيانة زوجها كما خانه بالشهادة عليه للمحققين في تهربه الضريبي. لكن ترمب عفا رئاسيا الشهر الماضي عن الاب.
جارد كان عمره وقتها 26 عاما.. حين اشترى المبنى ليكون جوهرة عقاراتهم.. ولكن في توقيت قاتل، حيث كانت أسعار وسوق العقارات وقتها قد بلغت الذروة، فدفع اغلى سعر لأي عقار في تاريخ نيويورك، وهو مليار وثمانمائة مليون دولار.. وكان مطمئنا لازدياد الأسعار وانه سيجذب الكثير من المستأجرين للمكاتب والشقق الفاخرة، إذ يكفي أن 75 الف قدم مستأجرة مكاتب بالفعل عنده من مؤسسة مصرفية واحدة في المبنى هي Citi-group.
أخذت عائلة كوشنر قرضا عقاريا لتكملة شراء المبنى، وهو قرض بقيمة مليار ومائتي مليون دولار، وجمّعوا ال600 مليون دولار المتبقية من مدخرات واستثمارات وقروض على عقارات أخرى لهم.
كان الشاب وقتها، منتميا كوالده للحزب الديمقراطي، مثلما كان متدينا، ولكن بشكل عصري، لديانة والديه من اليهود الأرثوذكس الذين لايتزوجون إلا من يهود مثلهم. لكن جارد تعرّف وأحب قبل تلك الصفقة بعامين بفتاة اسمها إيفانكا في سنه، لكنها كانت مسيحية بروتستانتية، مثل والديها دونالد و إيفانا ترمب.
 لم يسعد الأب تشارلز كوشنر بخطبة ابنه من إيفانكا في عام الصفقة.. مشترطا منه ليتزوجها ان تصبح يهودية، على الاقل، وهم في امريكا، رغم أن المجلس الرِبّي لليهود الأرثوذكس في اسرائيل لن يعترفوا هناك بالزيجة، طالما أن ام الزوجة (او الزوج) ليست يهودية بالمثل! 
وبالتالي، تأخر الارتباط لعامين أخريين، وانفصلا ثلاثة اشهر، ثم عادت إيفانكا إلى جارد عام 2009 بقبول اعتناق اليهودية، ليتأكد الاب من مدى تمسكها بابنه، وتم الزواج على يد حاخام في نيويورك بعد أن اختبر الفتاة في تعاليم الدين واعتكاف السبت، ومعرفة بعض العِبرية. وعن نفسه، ترك جارد الحزب الديمقراطي ولكن ظل مستقلا حتى 2018 حين تحول على مضض للحزب الجمهوري.
غير ان الأمور المالية لم تأت بما تشتهي عائلة كوشنر مثل الأمور العائلية. فقبل نهاية السنة التي اشتروا فيها العقار الضخم 666 أبلغهم أكبر مستأجر لديهم (Citigroup) بأنه لن يجدد عقده وسيترك المبنى، بينما لم يكونوا قد أجرّوا به سوى الثلث، ولا يكفي حتى النصف لدفع أقساط وفوائد القرض الضخم. وبحلول العام التالي، انهارت سوق العقارات، لدرجة انهم حين حاولوا إعادة جدولة الدين في عام 2010 قيّم المثمّنون المبنى كله بمبلغ 820 مليون دولار، اي أقل من نصف الثمن الذي اشتروه به (1.8 مليار) وأقل من القرض المصرفي المستحق عليهم (1.2 مليار).
اضطر جارد في عام 2011 لبيع حق تأجير 49% من العقار لشركة فورنادو، مقابل 500 مليون دولار لتلافي الانهيار المالي.
في يونيو حزيران 2015, أعلن والد زوجة جارد، اي حَماه دونالد ترمب الترشح عن الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية..  وسرعان ما ظهر مستثمر عربي يعرض على جارد ووالده تشارلز كوشنر، شراء نصيب كبير في مبنى 666. وبالفعل أخذا يتفاوضان للعام التالي، وبمجرد فوز دونالد في نوفمبر 2016، عقد المستثمر العربي اجتماعه الحاسم والأخير في ديسمبر مع جارد، في مبنى حماه ترمب في نيويورك، وعرض ضخ 500 مليون دولار لكن بشرط أن تكون مضمونة برهن ممتلكات اخرى لهم. وهو ما أفشل الصفقة، تاركا عائلة كوشنر حانقين على هذا المستثمر الشاطر، الذي لم يكن سوى HBJ المعروف بالأحرف الاولى لإسمه الثلاثي: حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء ووزير خارجية قطر الأسبق، باعتباره وقتها المسئول عن إدارة استثمارات صندوق قطر السيادي بقيمة 250 مليار دولار.
قبل أسبوع من انتخاب ترمب وفوزه، كان جارد كوشنر قد رتب لقاءا لحماه مع الشاب الامير السعودي محمد بن سلمان، وزير الدفاع وقتها، وتم اللقاء بتكتم في منزل المرشح الجمهوري ترمب. وبعد فوزه باسبوعين، أرسل بن سلمان وفدا إلى الولايات المتحدة لتقييم الوضع والترتيب مع الفريق الانتقالي الجديد. فيما تولى صديقه الجديد جارد كوشنر عقب انتقال ترمب للبيت الأبيض في يناير 2017 منصب كبير مستشاري الرئيس، واضطُر للاستقالة من رئاسة مجلس إدارة شركات كوشنر، وباع بعض أسهمه في مبنى 666 ووضع الجانب الاكبر من امواله في صندوق استثماري "محجوب"، بمعنى انه يُفترض الا يعرف صاحبه كمسئول عند تولي المنصب في اي قطاعات يُستثمر، حتى لا تؤثر على قراراته في الحكومة. لكن والدة جارد هي التي كانت تشرف على الصندوق!
وازدادات اتصالات ومكالمات بن كوشنر مع بن سلمان دون أن يبلغ عنها او مضمونها لمجلس الأمن القومي الامريكي، الأمر الذي أزعج مستشار الامن القومي آنذاك مكماستر، ووزير الخارجية ركس تليرسون، وحذرا من ان أسرار الدولة معرضة للتسريب والخطر.
في فبراير 2017 قررت وكالة المخابرات المركزية مع أجهزة الأمن القومي، تخفيض درجة السرية المسموحة لجارد كوشنر وعدم إطلاعه على المعلومات المصنفة "سري للغاية" بعد ان رصدوا محادثات له وعنه تظهر ان دولا تنوي استخدامه، وأولها اسرائيل والسعودية والصين والمكسيك.
في مارس 2017، شكا نائب ديمقراطي بالكونجرس ان كوشنر تفاوض مع مستثمرين صينيين للاستثمار في مبنى 666 لعائلته بنيويورك.. فتوقفت المفاوضات.
في مارس 2017 كان جارد قد بدأ يبحث بتوصية من صديقه الآخر يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن  بأحقية الامير محمد بن سلمان الذي كان وزير للدفاع، واعتبرته وساطة ابوظبي ومصادر اخرى في واشنطن صقرا ساهم في قطع العلاقات السعودية مع إيران في يونيو 2016 بعد ستة أشهر فقط من توليه منصبه وتولي والده الحكم في البلاد. وبالتالي، نسبوا إلى جارد كوشنر نصيحة حماه ترمب بتفضيل الشاب بن سلمان (31 سنة وقتها) على محمد بن نايف (58 سنة) وزير الداخلية وولي العهد آنذاك. وتمكن جارد من تدبير لقاء آخر لصديقه محمد، حيث كانا يخاطبان بعضهما بالاسم الاول، ولكن بشكل رسمي في البيت الأبيض مع الرئيس ترمب، على مأدبة غداء مستغلا هذا الموعد الشاغر على جدول الرئيس مع مستشارة ألمانيا مركل التي حالت عاصفة ثلجية دون حضورها.    
في ابريل 2017, عاد القطريون للتفاوض على مبنى 666 لإرضاء كوشنر بعد أن ضايقوه في ديسمبر، وادركوا ان حمد بن جاسم أضاع الفرصة السياسية.
  وصل نيويورك وفد على رأسه وزير المالية القطري علي شريف العمادي (خريج جامعة اريزونا) واجتمع مع الأب تشارلز كوشنر، وعرض الاستثمار في المبنى بشروط مالية أيسر وأفضل. لكن كوشنر طلب ضعف ما وافقوا عليه من قبل، وتشدد في مطالبه، وللأسف فكر القطريون مرة اخرى بعقلية مالية وليس سياسية بحتة، ففشلت المفاوضات، وغير مدركين للعلاقات الوثيقة بين بن كوشنر وبن سلمان. وأنكرت شركة كوشنر في البداية حدوث الاجتماع مع القطريين ثم عادوا بعد ذلك يعترفون بحدوثه، وزعم الأب انه اضطر ذوقيا لمقابلة الوزير القطري، لكنه رفض عرضهم الذي كان سيأتي من الصندوق الاستثماري السيادي، مما قد يثير تعارض مصلحة لابنه في منصبه السياسي، ولولا المبادئ لقبض الثمن المعروض على الطاولة وفك ضائقتهم المالية.
الانتقام والتمكين:
 مايو 2017
 رتب جارد كوشنر الزيارة الخارجية الاولى لحماه الرئيس في مايو 2017 لتكون السعودية محطته الأولى في المنطقة، رغم اعتراض وتحفظات وزير خارجيته تلرسون، ورتب مع صديقه محمد بن سلمان، الذي كان يخطط للإطاحة بابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد في الشهر التالي، وتم الحفاوة بدونالد ترمب بشكل ابهره وسلطنه، بما في ذلك تجهيز كرسي غال جدا، أشبه بكرسي العرش، للجلوس عليه!




في عشرين مايو 2017 أكدت مصادر وتحقيقات في الكونجرس أن كوشنر حضر عشاء في الرياض، أنكره لاحقا، أثناء حضور ترمب القمة العربية الإسلامية، مع كل من محمد بن سلمان ( الذي أطاح بعد شهر بالتحديد بابن عمه ولي العهد محمد بن نايف) وبحضور ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الداعم لبن سلمان.
جلسة استماع في الكونجرس سألت وزيرة الخارجية الأمريكي وقتها ركس تلرسون، الذي أطاح به ترمب، عن الاجتماع، فقال إنه علم به لاحقا، وأعرب عن ضيقه لتغييبه، بينما حضره مع كوشنر، كبير مخططي ترمب وقتها ستيف بانون.
هذا الاجتماع، خطط لقرار الحصار وقطع علاقات السعودية والإمارات، الحاضرتيّن، وبالتبعية البحرين ومصر، الغائبتين، وهو ماتم بعد أسبوعين يوم الخامس من يونيو 2017, ثم تلاه الإطاحة بمحمد بن نايف، ليتولى العهد، صديق جارد.
فكيف تصرف وزيرا الخارجية تلرسون ووزير الدفاع ماتيس حين كانا آخر من يعرف؟ وكيف تطور الحصار حتى نهايته؟
بعد أسبوعين من زيارة ترمب للسعودية، كأول بلد يزوره في اول جولة رئاسية، رغم تحفظ وزير خارجيته تلرسون، الذي اعرب لاحقا للكونجرس عن استيائه ايضا من استبعاده من لقاء عشاء حاسم في الرياض يوم 20 مايو بين كوشنر وستيف بانون ومعهما المحمدان بن سلمان وبن زايد، تم تنفيذ الخطة يوم 5 يونيو2017 بتنسيق وقرار جماعي للدول المتحالفة الاربع: السعودية ومعها البحرين، والإمارات ومعها مصر بقطع العلاقات مع قطر وحصارها بريا وبحريا وجويا، لاتهامها بدعم الإرهاب وتمويل التنظيمات والجماعات الإسلامية المتطرفة وتفويض دول المنطقة لعزل إيران.
جاء الخبر مفاجئا لوزير الخارجية والدفاع الامريكيين، لأنهما كانا آخر من يعلم.. ودعا كل منهما الأطراف المعنية إلى التهدئة وضبط النفس. لكن ترمب كتب في اليوم التالي تغريدة تظهر تفهمه وعدم اعتراضه على ما حدث مع قطر، موضحا أن القمة العربية الإسلامية التي حضرها مؤخرا في الرياض كانت واضحة في ضرورة وقف دعم الأيديولوجيا الراديكالية، وهم يلفتون نظر قطر لضرورة الالتزام بذلك.
اعرب تلرسون وكذلك وزير الدفاع ماتيس عن القلق على أي تحركات سعودية ضد قطر، ووضع القوات الامريكية العشرة آلاف في قاعدة العديد بقطر والقيادة الوسطى الأمريكية فيها، وحاولا اسستيعاب الوضع دون جدوى. وهو ما أدركه تلرسون بعد عزله من ترمب حيث ابلغ الكونجرس بعد عامين من الحادث انه بدون إشارة خضراء من امريكا، لم تكن هذه الدول لتجرؤ على مافعلت ضد قطر. وفي مذكراته لاحقا، كتب تلرسون كيف ان كوشنر ونتنياهو قدما أمامه شريطا لترمب لتصريحات محمود عباس، ممنتجة بشكل واضح، لإقناعه بقطع العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وإهانة ابو مازن في لقائه معه، رغم اعتراض تلرسون على هذا التلفيق.. وما يفعله كوشنر. لذا، أدرك مَن أعطى الرسالة لحصار قطر.
يوم 9 يونيو 2017، دون معرفته بعد مَن وراء حصار قطر، أصدر تلرسون بيانا من الخارجية الامريكية، يقول إنه تشاور بشأنه هاتفيا مع الرئيس ترمب،     طالب فيه الوزير بفك الحصار عن قطر، نظرا لدواع انسانية، ونقص مواد الغذاء (باعتبار أن قطر كانت تعتمد في اغلب إمداداتها الغذائية على منفذ سلوى البري مع السعودية) كما أشار الوزير الأمريكي إلى تفريق العائلات "في شهر رمضان الكريم"، ثم أكد على إضرار هذه الإجراءات بالمصالح الامريكية التجارية وكذلك ترتيباتها الأمنية بالمنطقةوتحرك قواتها العسكرية.
المفاجأة، انه بعد ساعة واحدة من بيان وزير خارجيته، كتب الرئيس الامريكي تغريدتين يقول فيهما:
"إن دولة قطر ظلت للأسف هي الممول تاريخيا للإرهاب على أعلى مستوياتها، وفي أعقاب المؤتمر الاخير، تحدث معي العديد من الدول مطالبين بالتصدي لما تفعله قطر..
"وقررت مع وزير الخارجية تلرسون، وجنرالاتنا العظام والعسكريين، ان الوقت قد حان لإنهاء تمويل قطر للأيديولوجيا المتطرفة."
ما أدركه تلرسون لاحقا، وقاله لمقربين منه، ان ما كتبه ترمب نصيا قد وصله من كوشنر، وكتبه وارسله له صديقه يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن، الذي قدمه لكوشنر منذ مايو 2016 المقاول ورجل الأعمال توم باراك الذي أشرف على حفل تنصيب ترمب. ووصف كوشنر ليوسف في رسالة تسربت بعدها لموقع بوليتيكو: "ستُحِب هذا الرجل وهو متفق مع اجندتنا." ويبدو أن القطريين توصلوا أيضا بالقرصنة الالكترونية، قبل الامارات، لرسائل العتيبة المتبادلة مع كوشنر وزادت كثافتها منذ دخول جارد البيت الأبيض مستشارا لشئون الشرق الأوسط.
17 اغسطس 2017: عزل ستيف بانون كبير مخططي ترمب في البيت الابيض، تاركا كوشنر وحده، ومعه زوجته إيفانكا ترمب، لتزداد سيطرته على صنع القرار الرئاسي.
24 اغسطس 2017: تعيد قطر كل علاقاتها الدبلوماسية مع ايران، وتعتمد على أجوائها كمنفذ للطيران القطري المحاصر، وهو ما جعلها تدفع مقابله مائة مليون دولار سنويا.
أواخر اكتوبر 2017: رحلة مفاجئة لجارد كوشنر إلى الرياض بطائرة ركاب عادية، ولم يعلن عن الرحلة الا بعد وصوله، ولم يعلن عن مضمون لقاءاته المغلقة مع صديقه محمد بن سلمان، الذي اصبح ولي العهد منذ تخلص من ابن عمه محمد بن نايف، باعتقاله منزليا، بعد أسبوعين من بدء حصار قطر في يونيو من نفس العام. ولم يبلغ كوشنر وزارة الخارجية عن اتصالاته الخارجية وقتها، كالعادة.
و لكن بعد ايام قليلة:
في الاسبوع الاول من نوفمبر 2017 تخلص بن سلمان من المنافس القوي الآخر له، وكان مرشحا لولاية العهد بعد بن نايف، وهو الأمير متعب ابن الملك عبدالله، فتم تجريده من منصب قيادة الحرس الوطني، وهي قوة التهديد الأخيرة لمنع ولاية بن سلمان. كما تم اعتقال ١١ أميرا ومعهم عشرات من رجال الأعمال السعوديين في فندق رتز كارلتون، بحجة مكافحة الفساد وتجريدهم من الكثير من اموالهم، وتقليص نفوذهم، خصوصا أن أحد ابرز الذين تم التنكيل بهم، كان خصما لعائلتي ترمب وكوشنر:
الوليد بن طلال هو صاحب الاستثمارات التي شملت Citigroup وذكرنا في الجزء الأول أنها كانت أكبر مستأجر في عقار 666 بالشارع الخامس في نيويورك، وفد خرجت منه Citigroup ولم تجدد العقد مع عائلة كوشنر التي اشترت العقار المنحوس، الأمر الذي زاد من ضائقتها المالية..
كما أن الوليد الذي أنقذ ترمب مرتين في عقارات فاشلة اشتراها المقاول دونالد ومنها ترمب بلازا في نيويورك، قد انقلب على ترمب حين اعلن الأخير عام 2015 سعيه الترشح عن الحزب الجمهوري للرئاسة، وجعل من شعارات حملته العنصرية، منع دخول المسلمين الى امريكا. فكتب بن طلال هذه التغريدة، ردا على دعوة ترمب، يقول له فيها:
"انت عار، ليس فقط على الحزب الجمهوري، بل على كل أمريكا.
إنسحب من السباق الرئاسي الامريكي، فأنت لن تفز ابدا."
فرد عليه ترمب بعد ساعات من اليوم نفسه 11 ديسمبر 2015 بتغريدة:
" المسطول الامير الوليد بن طلال يود أن يتحكم في سياسيينا الأمريكيين بأموال باباه (دادي). ولن تتمكن من ذلك حين افوز."
وبالفعل، كانت شماتة عائلة ترمب وكوشنر كبيرة فيما حدث للوليد بن طلال على يد ابن عمه الصغير، بعد أيام من زيارة كوشنر المفاجئة لصديقه في الرياض ولي العهد الجديد.
نوفمبر 2017: قطر تعود لعقارات كوشنر:
مالا يُدرك كله لايُترك جله.. وجد القطريون عقارا لعائلة كوشنر يحتاج تمويلا وقرضا ليس في نيويورك هذه المرة ولكن في شيكاغو، وبالفعل تقدمت شركة Apollo العالمية لقروض العقارات، التي تملك قطر نصيب الأسد في اموالها، بقرض عقاري لمبنى كوشنر هناك بلغت قيمته 184 مليون دولار، وبشروط ميسرة، وسط دهشة المحللين الماليين الذين وجدوا قيمة القرض ثلاثة أضعاف متوسط اغلب قروض شركة ابوللو!
وهو ما اعترض عليه لاحقا، المكتب الحكومي للاخلاقيات حين اعتبر الصفقة تعارضا في المصلحة، كما أثار مع كوشنر مشكلة أخرى هي تلقي عائلته قرضا آخر في ربيع نفس العام من مصرف Citibank بقيمة 325 مليون دولار بعد أيام من حضور مدير البنك مايكل كوريات إلى البيت الأبيض لاجتماع بشأن موضوع مختلف مع جارد كوشنر.




لكن محامي جارد يرد دائما على اتهامات الصحافة بأن مستشار الرئيس وزوجته إيفانكا لم تعد لهما سيطرة على استثماراتهما الخاصة بمجرد توليهما المنصب العام، وتم وضع ثروتهما المقدرة ب 800 مليون دولار في صندوق استثماري "اعمى" لا يعرفون كيف يّستثمر. لكن في الواقع، ام جارد كوشنر تعرفه وتديره لصالح ابنها، الذي رفض الحصول على مرتب من عمله في البيت الأبيض لصالح الوطن.
17 ديسمبر 2017: ارسل عدد من نواب الكونجرس الديمقراطيين خطابا إلى كوشنر يستفسرون عن الدول الأجنبية التي يتصل بها للحصول على استثمارات وقروض العقار 666 في نيويورك، وكذلك طبيعة مباحثاته مع السعوديين في زيارة اكتوبر الخاطفة للرياض. لكنه لم يلتفت إليهم.
كان القطريون قد كثّفوا من وساطاتهم في واشنطن وجماعات الضغط لإثارة الديمقراطيين ضد ممارسات وتحالف كوشنر مع السعوديين والاماراتيين، مستفيدين او نافخين في نار الديمقراطيين المحتجين على القصف السعودي الإماراتي للمدنيين في اليمن.
لكن رسميا، وحتى لايخسروا كوشنر، صرح قطريون لشبكة NBC الأمريكية أن مساعدين للمحقق الأمريكي مولر في ممارسات واتصالات ترمب طلبوا منهم في يناير وفبراير 2018 ان يشهدوا ضده بما لديهم من معلومات.. فرفضوا. 
في فبراير 2018 أكدت واشنطن بوست ان اجهزة الأمن القومي الأمريكية قررت تخفيض درجة السرية المسموحة لكوشنر من "سري للغاية" إلى "سري" فقط، لوجود دلائل على اتصالاته وحديثه بشكل يعرض الأمن القومي للخطر مع اجانب، ومنهم اماراتيون وصينيون. وكانت شركة اربتاج الصينية من بين التي حاولت الاستثمار في عقار عائلة كوشنر بالمثل.
لكن ترمب أعاد لزوج ابنته في مايو من نفس العام درجة السرية القصوى رغم اعتراضات تلك الأجهزة.
13 مارس 2018
ترمب يعزل كرس تلرسون من وزارةالخارجية، وبشكل فج..  ثم يرشح صديقه مدير المخابرات المركزية مايك بومبيو وزيرا للخارجية بعد شهر من فصل تلرسون.
19 مارس 2018
وصول محمد بن سلمان لأول زيارة رسمية للبيت الأبيض وليا للعهد وفي بداية جولة في أمريكا لأسبوعين مع حملة إعلامية ضخمة لتقديمه لامريكا بالشاب الليبرالي المصلح الجديد، المستثمر حتى في تطوير الطاقة البديلة.




أبريل 2018 تميم يعرف طريقه لواشنطن:
بعد ايام من نهاية جولة بن سلمان، جاء أمير قطر تميم بن حمد إلى واشنطن، بعد عملية تمهيد واستعدادات لكسب ود ترمب والدوائر السياسية في أمريكا.
فقد أنفقت قطر في الشهور السابقة بسخاء ملايين الدولارات لفتح الأبواب المغلقة. كان اهمها، التعاقد بالملايين مع أكبر شركة وساطة سياسية في المدينة وقتها وهي شركة Brian Ballard الذي كان أكبر جامع أموال لحملة انتخاب ترمب، وله تأثيره الكبير عليه، وبالتالي، تعاقد الأتراك بالمثل مع Ballard لصد هجوم حملات الشركات التي تعمل مع الإمارات والسعودية.
وهكذا، تم الترتيب لزيارة تميم بعد بن سلمان الذي نُقل ان ترمب حثه آنذاك على حل الأزمة مع قطر. وتم التحجج بأن المشكلة مع الإمارات وبالتالي رتب ترمب للقائين منفصلين، كان يُفترض للأول يوم 27 مارس ان يكون مع بن زايد، لكنه طلب تأجيل اللقاء إلى ما بعد لقاء ترمب مع تميم.. وهو اللقاء الذي عقده ترمب في 10 ابريل مع أمير قطر.
لكن رغم عدم إحراز تقدم في اي مصالحة، بدات قطر تحسن وضعها، فتعاقدت في هذه الزيارة على شراء صواريخ امريكية ب 300 مليون دولار وزار تميم البنتاجون حيث التقى بوزير الدفاع جيمس ماتيس الذي كان متعاطفا منذ بداية الأزمة مع القطريين، مقدرا مساهمتهم ولو الرمزية مع قوات المارينز التي كان ماتيس يقودها في دعم الثوار الذين اطاحوا بالقذافي عام 2011. لكن ماتيس اختلف لاحقا مع ترمب فعزله بالمثل في يناير 2019.
مايو 2018: قطر والعودة للعقار 666 لإصلاح الخطأ:
كشفت الصحافة الاقتصادية ان الاب تشارلز كوشنر قطع شوطا كبيرا في مفاوضات ناجحة للحصول على تمويل سخي جدا لتسديد القرض الضخم المستحق عليه لشراء عقار 666 بالشارع الخامس في نيويورك بقيمة ديون مليار وأربعمائة مليون دولار، كانت مستحقة في العام التالي، فما الصفقة؟
من بين استثمارات صندوق قطر السيادي العديدة في العقارات وشركات التمويل العقاري بامريكا النصيب الثاني في استثمارات شركة بروكفيلد للمتلكات. أما النصيب الأكبر فهو لشركة بروكفيلد لإدارة الاصول. بالتالي، تم استخدام الشركة الأكبر غير المرتبطة مباشرة باستثمار قطري لتعرض عرضا سخيا على الاب كوشنر.. الذي كان ثلث مساحة العقار المنحوس بدون ايجار والباقي المستأجر لا يكفي إلا لدفع نصف المستحقات الشهرية لخدمة الدين عليه. العرض هو دفع نحو مليار ومئة مليون دولار مقابل حق تأجير العقار واستخدامه لمدة 99 سنة، بعدها يعود حق تأجيره مع بقاء ملكيته لآل كوشنر.. هذا العرض السخي ظل على الطاولة في نيويورك، ولم يتم الدفع بعد.
يونيو 2018:
جارد كوشنر يزور قطر ويجتمع ومعه المبعوث الأمريكي جرينبلات مع أمير قطر لبحث تحسين وزيادة التعاون بين البلدين، وسبل دفع عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل.
أغسطس 2018 كوشنر الاب يقبض
تنتهي المفاوضات مع عائلة كوشنر وتدفع شركة بروكفيلد أكثر من مليار دولار عدا ونقدا ومقدما للأب كوشنر مقابل استخدام العقار 666 لتسع وتسعين سنة قادمة.
بالطبع رسميا، آل كوشنر وكذلك قطر ينفيان علاقة الأموال القطرية بشركة بروكفيلد الكبرى التي دَفعت. لكن هذا المبلغ أكبر من قيمة الايجار المتوقعة تجاريا بنحو 300 مليون دولار، فلماذا تخسر شركة بروكفيلد هكذا في العقار المنحوس؟
نوفمبر 2018:
تحصل شركة بروكفيلد على قرض حسن بقيمة 300 مليون دولار من شركة أبوللو للتمويل العقاري. نعم، هي ابوللو نفسها المملوك اغلب أسهمها لقطر، ودفعت من قبل، كما ذكرنا، 184مليون دولار قرضا سخيا لعقار تملكه عائلة كوشنر في شيكاغو.
لم تعد لدى عائلة كوشنر اي مشكلة مالية مع القطريين، وبمجئ بومبيو منذ أبريل 2018 وهو يطلب أيضا من السعوديين مصالحة قطر.
تبقى عقبة رفض الإمارات لذلك. ولكن حدثت عدة تطورات تبعد أجندة ابو ظبي عن الرياض بعض الشئ في رغبة المصالحة:
- الإمارات تركت السعودية في مستنقع اليمن، الذي زاد النقمة عليها.
- أكتوبر 2018 اغتيال جمال خاشقجي والضغط التركي القطري باستخدام الجريمة ضد بن سلمان.
-ثم تزعم بن زايد تحقيق اجندة كوشنر في السلام العربي مع إسرائيل والتطبيع الساخن بدون استرداد او ذكر لأراض فلسطينية، وهو مالم يقدر عليه بن سلمان في حياة والده.
- واخيرا، فوز بايدن بالرئاسة ليجدد الحاجة الماسة لدى السعودية لترتيب أوراقها مع إدارة بايدن المتوعدة لبن سلمان، لتوقف التحريض القطري، وبالتالي، تجددت مساعي الوساطة الكويتية التي لم تكن لتبدأ منذ أبريل الماضي بدون تسوية حسابات قطر مع آل ترمب وآل كوشنر، ولتعود قطر بالنسبة لما تبقى من أيام إدارة ترمب إلى معسكر الصقور ضد ايران، تاركة من لم يحضروا القمة بين خيار التوقيع على المصالحة او تفكك التحالف الذي تعب عليه لسنوات بن زايد، فاضطر ومن معه ان يجاري الخطوة إلى أن يقضي بايدن أمرا غير معروف بعد.


-مصادر:







يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق