نقلا عن
مُدام
الثّلاثاء 10 أكتوبر
1967. في هذا اليوم بُثّت للعالَم صورة بغرض إثبات موت جيفارا، الذي قُتل يوم الأحد
الأخير من هذا التّاريخ في مواجهةٍ مسلّحة بين فصيلتين للجيش البوليفيّ ومجموعة فدائيّين
(غِريلّاز) وقعت في ضّفة نهر ريو غراندي الشّماليّة، بالقرب من قرية نائية في الأدغال
تُدعى هيغوراس، والتي نالت لاحقًا مكافأة الجائزة المُعلنة للقبض على جيفارا. أمّا
صورة الجثّة، فالتُقطت في إسطبلٍ في بلدة صغيرة تُدعى فالي غراندي، حيث وُضعت الجثّة
على حمّالة رُفعت على مِذْوَدٍ إسمنتيّ.
أصبح تشي جيفارا خلال العامين
السّابقين [للعام 1967] أسطوريًّا؛ لأنّ أحدًا لم يستطع الجزم حول مكان تواجده أو تقديم
أدلّة قاطعة بأنْ قد رآه، لكنّ وجودَه كان مُستحضَرًا ومرجوًّا على الدّوام. وفي بادئة
بيانه الأخير 2، الذي أرسله من قاعدة غِريلّا ما في مكان مجهولٍ إلى منظّمة تضامن القارّات
الثّلاثة في هافانا؛ اقتبس تشي عن شاعر القرن التّاسع عشر الثّوريّ خوسيه مارتي قولَه:
«لقد حانَ وقت [إشعال] التّنانير وعلينا ألّا نرى سوى الضّوء»، وبإعلانه هذا الضّوء،
أصبح جيفارا كما لو أنّه خفيٌّ ولكن موجودٌ في كلّ مكان.
هو ميْتٌ الآن. كانت نسبة
احتمالات نجاته من الموت معاكسةً لقوّة أسطورته التي كان لا بدّ لهم أن يسمّروها.
«إذا كان إرنستو تشي جيفارا قد قُتل حقًّا في بوليفيا، وهو ما يبدو مرجّحًا، فإنّ تشي
الأسطورة والرّجل يرقدان الآنَ معًا تحت الثّرى»، عقّبت النّيويورك تايمز على موته.
نحنُ نجهل المُلابَسات التي
قادت إلى موت جيفارا، لكنّ لنا أن نتصوّر عقليّة أولئك الذين وقعت جثّته بين أيديهم.
قاموا أوّلًا بإخفائها، ثمّ أظهَروها علنًا. ثمّ واروها التّراب في مكانٍ مجهول. ثمّ
أخرَجوها من القبر. ثمّ أحرَقوها من بعد أن بَتروا أصابع اليد؛ من أجل إثبات الهُويّة
لاحقًا. ولعلّ هذا يشير إلى شكوكهم حول أنّ من قتلوه لم يكن جيفارا بالفعل، أو لربّما
لم تكن لديهم أيُّ شكوك، لكنّهم ببساطة هابوا الجثّة. أنا أرجّح الاحتمال الأخير.
كانت
الغايةُ وراءَ نشر الصّورة في 10 أكتوبر حسمَ نهاية الأسطورة، ولكنّ وَقْعها قد اختلف
في نفس من رآها من النّاس؛ ما هو المعنى المنشود من وراء هذه الصّورة؟ وما الذي تعنيه
الآن على وجه الضّبط وبجلاء؟ أسمح لنفسي متوخّيًا الحذرَ أن أفسّرها كما أراها من منظوري
الشّخصيّ.
أجدُ
تماثلًا بين هذه الصّورة الفوتوغرافيّة وبين لوحةٍ لرامبرانت عنوانها «درس التّشريح
مع الدّكتور نيكولاس تُولب»، حيث يتّخد الكولونيل البوليفيّ ببزّته العسكريّة النّظيفة
ومنديله الذي يغطّي أنفه موضعَ الدّكتور، أمّا الرّجلان إلى يمين الكولونيل فيحدّقان
إلى الجثّة بانفعال ولكن دون اهتمام شخصيّ، تمامًا كما يحدّق الدّكتوران الأكثَر قربًا
من دكتور تُولب إلى جثّة التّشريح في لوحة رامبرانت. رغم أنّ عدد الرّجال في اللّوحة
يفوقُ عدد الظّاهرين في الصّورة الفوتوغرافيّة، إلّا أنّ هذا لا ينفي وجود أشخاص خارج
مجال الصّورة الملتقَطة في إسطبل فالي غراندي، ويُلاحظ شَبَهٌ أيضًا في موضع الجثّة
مقارنة بالأشخاص المتحلّقين حولها، والسّكون المخيِّم في الصّورة واللّوحة.
على هذا ألّا يفاجئنا، فكلتا
الصّورتين تؤدّيان نفس الوظيفة، أيْ، عَرْضٌ لجثّةٍ يجري فحصها ومعاينتها. بل إنّهما
تحاولان صياغة نموذج عن الموتى: الأولى بُغية تقدّم الطّب، والثّانية كتحذير سياسيّ.
نحن نعلم أنّ آلاف الصّور تُلتَقط للموتى والقتلى، لكنّ هدف التقاطها قلّما يكون قد
مُنهج لتِبيان شيءٍ ما، فنرى أنّ دكتور تُولب يبيّن النّسيج العضليّ لليدِ وما يشرحه
ينطبق على أيّ يدٍ بشريّة، والكولونيل الذي يغطّي أنفه بمنديلٍ يبيّن المصير النّهائيّ
للقائد الفدائيّ «سيّء السّمعة» باعتباره قدرًا حتميًّا، ويقصد فيما يُومئ إليه أن
ينطبقَ على كلّ مقاتلِ غِريلّا (فدائيّ) في هذه القارّة [أمريكا اللّاتينيّة].
استعدتُ
في ذاكرتي صورةً أخرى وهي لوحة المسيح الميت لمانتينيا 3 المتواجدة الآن في صالة العرض
بريرا في ميلانو. يُرى الجسد من نفس الارتفاع، ولكن من جهة باطن القدمين بدلًا من زاوية
جانبيّة للجسد الممتدّ؛ تتماثل وضعيّة اليدين، وتنحني الأصابع بحركة مطابقة. أمّا قطعة
القماش المنسدلة والتي تغطّي القسم السّفليّ من الجسد فمتجعدّةٌ وملقاةٌ على نحو يشبه
ما هو عليه البنطال الأخضر الزّيتيّ، المبتلّ بالدّماء الطّريّة، غير المزرّر الذي
يرتديه جيفارا. الرّأس مرفوع بنفس الزّاوية. الفم فاتر التّعبير على الحالة ذاتها.
لقد أُغمضت عينا المسيح، لأنّنا نرى بجانبه نادبَين اثنين، أمّا عينا جيفارا فمفتوحتان،
لأنْ لا نادبين حولَه: يصطفّ هناك الكولونيل مع منديله
وعُنصر استخبارات أمريكيّ
وعدد من الجنود البوليفيّين وصحافيّون.
مرّة أخرى، إنّ وجه الشّبه
ليس مدعاةً للاستغراب. لا نجد الكثير من الطّرق لعرض الميّت المجرم في كفنه.
مع ذلك، يتجاوز التّشابه
هذه المرّة ما هو إيمائيّ أو وظيفيّ. إنّ المشاعر التي رافقتني عندما باغتتني الصّورة
في الصّفحة الأولى لصحيفة المساء قريبةٌ أشدّ القرب – أقول هذا بافتراضي سلفًا ومستعينًا
بالخيال التّاريخيّ – من ردّة الفعل التي قد تنتاب أيّ مؤمن معاصر عند مصادفته للوحة
مانتينيا. إنّ صلاحيّة الصّورة الفوتوغرافيّة قصيرة الأجل نسبيًّا. عندما أعاين الصّورة
الآن، لا يسعني إلّا أن أشيّد مشاعري المتفكّكة من جديد. جيفارا لم يكن المسيح. إذا
حصل ورأيت لوحة مانتينيا مرّة ثانية في ميلانو، لا بدّ أن يتمثّل لي جسد جيفارا في
اللّوحة. ولكن هذا يعود إلى أنّه في بعض الحالات الاستثنائيّة تُتمّم مأساةُ موت إنسانٍ
معنى حياته بأكملها وتجسّده ببلاغة. أُدْرِكُ تمامًا أنّ هذه هي الحال بخصوص جيفارا،
كما أَدْرَكَ الرّسامون ذلك بخصوص المسيح في الماضي. هذا هو مقدار التّجانس العاطفيّ.
إنّ
الخطأ الذي ارتكبه عدد كبير من المعقّبين على موت جيفارا يكمن في اعتقادهم أنّ شخصه
اقتصر على تمثيل براعةٍ عسكريّة أو استراتيجيّة ثوريّة ما فحسب. لذلك نراهم يتحدّثون
عن إخفاقٍ وهزيمة. لست في ذلك المقام الذي يؤهّلني لتقييم أثر الفقدان الذي قد يُلحقه
موت جيفارا بالحركة الثّوريّة في أمريكا الجنوبيّة. ولكن دون أدنى شكّ، مثّل جيفارا
وسيمثّل ما هو أكبر من تفاصيل خططه؛ لقد مثّل قرارًا، مثّل نتيجةً.
فهم جيفارا أنّ حالة الدّنيا
الرّاهنة لا تطاق؛ فقد تحوّل العالم إلى وضعه هذا مؤخّرًا فقط. إنّ الظّروف التي عاش
في ظلّها ثلثا البشر في السّابق كانت مشابهة تقريبًا لما هي عليه الآن. كان نطاق الاستغلال
والاستعباد بنفس الفداحة الذّي هو عليها الآن. والمعاناة التي تنطوي عليها تلك الظّروف
كانت مستشرية ودارجة بنفس المقدار، والحرمان كما الآن جسيم. لم يكن السّبب وراء حالة
الدّنيا التي لا تُطاق جهلَ مدى الحقيقة الكاملة حول هذه الظّروف – حتّى من قِبَل مَنْ
تكبّدوها. لا تكون الحقائق واضحة على الدّوام في الظّروف التي تُنسب إليها؛ قد تأتي
الحقائق هذه متأخّرة. وُلدت هذه الفكرة مع النّضال وحروب التّحرير الوطنيّة. في ضوء
الحقيقة الوليدة، تغيّر مفهوم الإمبرياليّة. كانت وجهة النّظر حيال مطالبها مختلفة.
طالبت الإمبرياليّة في السّابق الحصول على موادَ خامٍ بثمن زهيد، استغلال العمّال والحيازة
على السّوق العالميّة؛ أمّا اليوم فهي تطالب ببشريّة لا قيمة لها.
تراءى لجيفارا موته المتصوَّر
أثناء صراعه الثّوريّ ضدّ الإمبرياليّة.
«أينما باغتتنا المنيّة،
فلتكن ضيفة مرحّبًا بها، بشرط أن يكون هذا – هتاف معركتنا – قد بلغ أذنًا صاغية ويدًا
أخرى قد تمتدّ لتستخدم أسلحتنا ورجالًا آخرين يكونون على أُهبة الاستعداد لترتيل التّرنيمة
الجنائزيّة برفقة نشيد الرّشّاش المتقطّع وصرخات معارك جديدة نحو حربٍ ونصرٍ».
قدّم له موته المتصوَّر هذا
معيارًا يدرك من خلاله كم كانت حياته ستصبح غير محتملةٍ لو أنّه رضي بوضع العالم الذي
لا يُطاق وقبله على حالته الرّاهنة، وكذلك جعله يدركُ ضرورة تغيير العالم، وبموجب تلك
الرّخصة التي منحها له موته المتصوَّر، استطاع جيفارا أن يحيا بأنفةٍ كما لو كانت من
ضرورات العيش.
إثر
خبر موته، سمعتُ أحدهم يقول «لقد كان رمزًا لما للرّجل 4 الواحد من إمكانيّات»، لماذا
يُعدّ هذا صحيحًا؟ لأنّه أدرك ما لا يُطاق بالنّسبة لأيّ إنسان ، وتصرّف اعتبارًا لذلك.
هذا
المعيار [موته المتصوَّر] الذي وجد جيفارا نفسَه يعيش وفقًا له، أصبح فجأة أمرًا شَغَلَ
العالم وطَمَسَ حياته، فموته المتصوَّر أصبح واقعيًّا، وهذه الواقعيّةُ هي ما تتمحور
حولَه الصّورة الفوتوغرافيّة. لقد تلاشت الإمكانيّات، وحلّ مكانها دمٌ ورائحةُ فورمول
وحشراتٌ وجراحٌ مهملة على جسد لم يُغتسل وبنطاٌل تعمّه الفوضى، كلّها تفاصيل حميمة
لجسد مستسلم في موته، تبدو الآن مُباحةً ومحطّمةً مثل مدينة قُوّضت وسوّيت بالأرض.
لقي جيفارا حتفه بين أعدائه،
ومن المرجّح أن يكونوا قد عاملوه حيًّا بطريقة لا تختلف عن تلك التي عاملوا بها جثّته
بعد موته. في مُنتهاه، لم يجد جيفارا ما يدعمه سوى تلك القرارات والخيارات التي سَلَكَها
في حياته. بهذا تكتمل الدّائرة. سيكون من الصّفاقة السّوقيّة أن ندّعي امتلاكَ أيّ
معرفة حول التّجربة التي اختبرها جيفارا تلك اللّحظة أو لربّما ذلك الأبد، إنّ جسده
المجرّد من الحياة كما تُظهره تلك الصّورة هو التّقرير الوحيد بين أيدينا، ولكنّنا
جميعًا مخوّلون لتتبّع واستنتاجِ منطق الأشياء عند اكتمال الدّائرة، فالحقيقة تنصبُّ
الآن في اتّجاهٍ معاكس، إذْ لم يعد موته المتصوّر معيارًا لضرورة تغيير وضع العالم
غير المحتمل، إنّما يقظًا لحقيقة موته الفعليّ، يجد الآن في حياته معيارًا يعلّل خياراته.
الآن فقط يصبح العالم كما خَبِرَهُ محتملًا بالنّسبة له.
حَدسُ المنطق الأخير هذا
[اكتمال الدّائرة]، هو أحد الأشياء التي تمكّن شخصًا ما أو مجموعةً ما من المحاربة
والنّضال رغم الضّآلة الفاضحة لإمكانيّات النّصر، إنّه أحد أسرار العامل الأخلاقيّ،
الذي تعادل قوّتُه ثلاثةَ أضعاف قوّة السّلاح عندما يقف في مواجهته.
تُظهر
الصّورة لحظةً ما، إنّها اللّحظة التي أصبح فيها جسد جيفارا المُلقى بطريقة مفتعلة،
مجرّد غرضٍ للبرهان، وهنا مكمنُ رعبه، ولكنْ ما الذي يَقصد هذا الغرض [الجثّة] أن يبرهن
عليه؟ رعبٍ كهذا؟ لا. إنّه في لحظةِ الرّعب هذه، يُقصد له أن يُبرهن على هُويّة جيفارا،
وبشكل مزعوم على عبثيّة الثّورة، واستنادًا إلى هذه الغاية بالذّات؛ فإنّ هذه اللّحظة
لا تزال قائمةً ولم تُتَجاوَز بعد، فحياة جيفارا وفكرة الثّورة أو حقيقة الثّورة تَستحضر
فورًا الإجراءات التي سبقت هذه اللّحظة والتي لا تزال مستمرّة حتّى الآن. لربّما نستطيع
أن نفترض نظريًّا أنّ الطّريقة الوحيدة التي كان يمكن أن تتحقّق فيها غاية هؤلاء الذين
رتّبوا لهذه الصّورة وفَوّضوا لالتقاطها، هي الحفاظ بشكل مفتعل على وضع العالم كما
كان عليه تلك اللّحظة، أي، إيقاف الحياة. فقط باستخدام طريقة كهذه، يصبح إنكار المحتوى
الذي قدّمه نموذجُ جيفارا الحيُّ ممكنًا. إنّ الصّورة كما هي عليه إمّا ألّا تعني شيئًا
لأنّ المشاهد لا يمتلك أدنى فكرٍة عمّا تنطوي عليه، وإمّا أن يكون معناها نافيًا أو
مُقيِّدًا 5 لما تحاول أن تبرهن عليه.
لقد
قارنتُ هذه الصّورة بلوحتين، ذلك لأنّ اللّوحاتِ شكّلت قبل اختراع التّصوير الفوتوغرافيّ
الوسيلةَ البصريّةَ الوحيدة لتوثيق كيف رأى الّناس ما رأوه. ولكنّ تأثير الصّورة يختلف
بشدّة عن تأثير اللّوحة؛ فاللّوحة، أو تلك النّاجحة على الأقلّ، تشي بالإجراءات التي
يستحضرها موضوعُها، ولذا يصبح بإمكاننا اعتبارَ اللّوحة مكتملةً بذاتها إلى حدّ ما.
أمّا
فيما يتعلّق بهذه الصّورة الفوتوغرافيّة فإمّا أن نتجاهلها أو نُكمل معناها. إنّ هذه
الصّورة – على غرار ما بمقدور أيّ صورة صامتة أن تفعل – تدعونا لاتّخاذ قرار.
أكتوبر
1967
[2]
دفعتني
صورة فوتوغرافيّة أخرى نُشرت مؤخّرًا في الصّحيفة إلى أن أتابع تأمّل موت «تشي» جيفارا.
حتّى
نهاية القرن الثّامن عشر، كان يُعتبر تصوّر المرء لموته نتيجةً مباشرة مرجّحة ناجمة
عن اختياره لمسلك أفعاله ومعيارًا لولائه بصفته خادمًا. وقد انطبقت هذه الحقيقة على
أيّ كان مهما كانت مكانته الاجتماعيّة أو الامتيازات التي يحظى بها. بينه وبين ما يؤمن
به من معاني، تكمن على الدّوام قوّةٌ ما يربطه بها علاقةٌ واحدة ممكنة وهي علاقة التّبعيّة
أو الاستعباد. نظريًّا، يمكن اعتبار هذه القوّةَ المصيرَ المحتوم؛ وغالبًا ما يتمّ
تجسيد هذا الجبروت من خلال الرّب أو الملك أو السّيّد.
لذلك،
فإنّ الخيارَ الذي يتّخذه المرء (ذاك الخيار الذي تُحتّم نتيجتُه المرتقبة احتماليّةَ
موته) غيرُ تامّ ويثير الاستغراب. إنّه خيارٌ يُمنحُ لقوّة عليا من أجل نيل الاعتراف
[بوجوده]. يستطيع المرء الحكم على الأمور فقط من خلال القضاء: وأخيرًا، إنّه هو نفسه
مَنْ يتعرّض للمحاكمة. وفي مقابل هذه المسؤوليّة المحدودة يحصل على امتيازات، فتتنوّع
الفوائد بين اعتراف السّيّد ببسالته لتشمل كذلك نعيم الفردوس. ومع ذلك، يقيم القرار
الأخير والفائدة المثلى خارج حدود نفسه وحياته. وبالتّالي، فإنّ الموت، وقد يبدو جازمًا
في تعريف النّهاية، هو وسيلةٌ بالنّسبة له [صاحب القرار]، عبرةٌ يخضع لها في سبيل
[ترك] أثرٍ ما؛ فالموت كخُرْم الإبرة الذي يَلِجُهُ كخيط رفيع. هذا ما هو عليه نمط
بطولته.
لقد أحدثت الثّورة الفرنسيّة
تغييرًا في مفهوم البطولة. (فليكن واضحًا أنّني لا أقصد أنواع بسالة بعينها: تكبُّد
الألم أو التّعذيب، والعزم على الهجوم أثناء التعرّض للنّار، وسرعة الحركة وخفّتها
وصنع القرارات على أرض المعركة، والتّلقائيّة في تقديم العون المتبادَل في ظلّ الخطر
– تُحدَّد أنواع البسالة هذه من خلال التّجربة الجسديّة، وربّما لم تطرأ عليها الكثير
من التّغييرات مع مرور الوقت؛ أقصد فحسب ذلك الخيار الذي يسبق جميع أنواع البسالة هذه).
تقود الثّورةُ الفرنسيّةُ الملكَ لمحاكمته وإدانته.
في الخامسة والعشرين من عمره،
يطرح سان جست في خطابه الأوّل في الجمعيّة 6 أنّ المَلَكيّة جريمة، وهذا لأنّ الملك
يستولي على سيادة الشّعب بمفرده. «إنّه لمن المستحيل تولّي السّلطة ببراءة: جليٌّ هو
الجنون الذي ينطوي عليه الأمر. كلّ ملك هو متمرّد وغاصب في آن». 7
صحيح أنّ سان جست يخدم –
بتصوّره الخاصّ – إرادة الشّعب العامّة، ولكنّه اختار القيام بذلك بحريّةٍ لإيمانه
أنّ الشّعب يجسّد الصّواب وأنّ جمهوريّتهم تمثّل النّزاهة.
«هنالك ثلاثة أنواع
من الأعمال الشّائنة لا يمكن للنّزاهة الجمهوريّة أن تقدّم لها التّنازلات: الأوّل
هو الملوك: الثّاني هو خدمة الملوك: والثّالث هو إلقاء الأسلحة بينما لا يزال هناك
في مكان ما سيّدٌ وعبد». 8
ليس شائعًا في أيّامنا هذه
أن يتصوّر المرءُ موتَه بصفته معيارًا يقيس به ولاءه باعتباره خادمًا لسيّد ما. إنّ
موته المتصوّر هو على الأرجح معيارُ توقه للحريّة: دليٌل على الاعتقاد بتحرّره الفرديّ.
بعد مرور عشرين شهرًا على
خطابه الأوّل، يُمضي سان جست اللّيلة السّابقة لإعدامه هو في الكتابة على منضدته. لا
يقوم بأيّ محاولة فعّالة لتخليص نفسه؛ فقد كتب مسبقًا: «تكون الظّروف قاسية فقط أمام
أولئك الذين تقهقروا مبتعدين عن القبر… أحتقر التّراب الذي كوّنني، هذا التّراب الذي
يخاطبكم: يستطيع أيًّا كان أن يطارد هذا التّراب ويقضي عليه. ولكنّني أتحدّى أن ينازعني
أحد على سلب ما منحته لنفسي، حياةً مستقلّة في سماء القرون». 9
«ما منحته لنفسي». يقيم
القرار الأخير الآن في قرارة النّفس ولكنّ هذا ليس كليًّا أو مطلقًا، إذ يبقى هناك
بعض الغموض. لم يعد الله موجودًا؛ ولكنّ الكائن الأسمى لروسو موجودٌ لكي يثير البلبلة
في المسألة بواسطة المجاز. يتيح المجاز للمرء أن يؤمن بمشاركته في المحاكمة التّاريخيّة
لحياته. «حياة مستقلّة في السّماء» هو ما تنطوي عليه المحاكمة التّاريخيّة. هذا بينما
يحوم هناك شبح عهد سابق الوجود.
حتّى عندما يصرّح سان جست
عكس ذلك – في خطابه الأخير والجريء مدافعًا فيه عن روبسبيار وعن نفسه – يظلّ الغموض:
«الشّهرة ضوضاء فارغة. دعونا نصغي بآذاننا إلى القرون التي مضت: لم نعد نسمع شيئًا؛
أولئك الذين سيمرّون من بين جرار رمادنا، 10
في زمن آخر، لن يسمعوا شيئًا بعد الآن. إنّ الخير هو ما يتوجّب علينا السّعي
إليه، مهما كان الثّمن، مفضّلين في ذلك لقب البطل الميت على جبان على قيد الحياة».
11
ولكنْ في الحياة، على عكس
المسرح، لا يحظى البطل الميت بسماع ما يُنادى به. كثيرًا ما تكون منصّة الثّورة السّياسيّة
ذات طابع مسرحيّ ويعود ذلك إلى كونها نموذجيّة يُقتدى بها. يشاهد العالم لكي يتعلّم.
«التفت إلينا المستبدّون
في كلّ مكان لأنّنا كنّا نحاكم أحدهم؛ واليوم – مصحوبين بقدرٍ أسعد – نتباحث حول تحرّر
العالم، وبدورهم، يشاهدنا أناس الأرض فهم حتمًا إرادة الأرض العظمى». 12
مع ذلك، وعلى الرّغم من حقيقة
هذا الأمر، يكمن هناك مغزى، فلسفيٌّ، في طريقة موت سان جست فنجده محصورًا في دوره على
«المنصّة». (وقولي هذا لا ينتقص من بسالته).
منذ
الثّورة الفرنسيّة، عصرِ البرجوازيّة، وبين القلائل الذين يتصوّرون موتهم (لا حظوظهم)
باعتباره نتيجةً طرديّةً نابعة من قراراتهم المبدئيّة، يتلاشى هذا النّوع من الغموض.
تصبح المواجهةُ شاملةً بين
الرّجل الحيّ والعالم كما يلقاه، لا شيء يفلت من [قبضة] هذه المواجهة، فلا يمكن حتّى
لمجرّد مبدأ أن يخرجَ عنها. إنّ الموت المتصوَّر لرجل ما هو معيارٌ لرفضه الإذعانَ
لما يواجهه، وخلف حدود هذا الرّفض، لا شيءَ يوجد.
كتب الأناركيّ الرّوسيّ فويناروفسكي،
الذي قُتل في إلقائه قنبلةً على الأدميرال دوباسوف ما يلي: «دون ارتعاش أيّما عضلة
في وجهي، دون نطق كلمة، عليّ أن أصعد منصّة الإعدام، ولن يكون هذا فعلًا عنيفًا أتّخذه
بحق نفسي، بل سيأتي نتيجةً طبيعيّةً، على نحوٍ مثاليّ، لكلّ ما مررت به خلال حياتي».
13
لقدّ تراءى له موته على منصّة
إعدام – وقد مات العديد من الإرهابيّين الرّوسيّين تمامًا كما وصف – كما لو كانت هذه
هي الميتة الطّبيعيّة لشخصٍ عجوز. ما الذي يجعلهُ قادرًا على تصوّر موته؟ لن تكفينا
التّفسيرات السّيكولوجيّة للإجابة عن هذا السّؤال. ذلك لأنّ فويناروفيسكي وَجَدَ العالَم
في روسيا – والذي يُعتبر شاملًا بما فيه الكفاية ليبدو شبيهًا بالعالم بأسره غيرَ مُحتمل،
لا على المستوى الشّخصيّ كما يراه أيّ منتحِر، ولكن وجده غير محتملٍ في حدّ ذاته. موته
المتوقّع سيأتي نتيجةً طبيعيّة، على نحو مثاليّ لكلّ ما مرّ به خلال حياته في محاولته
لتغيير العالم، لأنّ التّنبؤ بما هو أقلّ من ذلك سيعني أنّه احتملَ ما هو غير محتمل.
في مطلع القرن، هيّأ وضع
الأناركيّين الرّوسيّين (لا نظريّتهم السّياسيّة) للوضع الرّاهن بطرقٍ عدّة. إنّ فرقًا
صغيرًا يكمن في «عالم روسيا» الذي يبدو شبيهًا بالعالم الكلّيّ. لقد كان هناك خارج
حدود روسيا بالمعنى الدّقيق للقول، بديلًا، ولذا، ومن أجل تدمير هذا البديل وجعلِ روسيا
بحدّ ذاتها عالمًا، انجرفَ العديد من الأناركيّين نحو نوع من الوطنيّة الرّوحانيّة.
أمّا اليوم فلا يوجد بديل.
إنّ العالمَ وِحدةٌ منفردة، وقد أصبحَ غيرَ محتملٍ.
ولكن هل سبق وكان محتملًا
أكثر ممّا هو عليه الآن؟ لربما نتساءل، هل مضى وقت كانت فيه المعاناةُ والظّلمُ والاستغلالُ
أقلّ؟ لا توجد مفاضلات كهذه. لا بدّ للمرء أن يدرك أنّ صفة العالم غير المحتملة هي
إلى حدٍّ ما إنجازٌ تاريخيّ. لم يكن العالم غير محتمل حين كان الله لا يزال موجودًا،
وحين كان لا يزال هناك شبحٌ لنظامٍ سابق الوجود، وحين كانت مسالكُ العالم الضّخمة لا
تزال مجهولةً، وحين كان لا يزال هناك من يؤمن بالفرق بين ما هو روحيّ وماديّ (وهنا
لا يزال العديد من النّاس يجدون حججًا على اعتبار العالم محتملًا)، وحين كان لا يزال
هناك من يؤمن بالتّفاوت الطّبيعي لصالح الرّجل.
تُظهر
الصّورة فلّاحةً من جنوب فيتنام في لحظةِ يستجوبها جنديٌّ أمريكيّ. تدفع صُدغَها فوّهةُ
بندقيّة، ومن الخلف تشدّ قبضةُ يدٍ شعرَها، وإثر الضّغط الذي تحدثه فوّهة البندقيّة
يتغضّنُ الجلد النّاعم في وجهها فيبدو كما لو شاخ قبل أوانه.
لطالما رافقت المجازرُ الحروبَ،
ومُورِسَ فيها الاستجواب تحت التّعذيب على مدى قرون من الزّمان، إلّا أنّ المعنى الذي
يمكن العثور عليه – حتّى ولو عَبر صورة فوتوغرافيّة – في حياة هذه المرأة، وفي موتها
المحتمل الآن، يبقى جديدًا.
سيحمل هذا المعنى كلّ ما
هو شخصيّ، وخصوصيّ، ومرئيّ، وقابل للتّخيُّل: شكلَ شعرها المَفروق، وخدَّها المكدوم،
وشَفتها السّفلى المعقودة بعض الشيء، واسْمَها وجميع الدّلالات التي يحرزها نسبةً لمن
يناديها به، وذكرياتِ طفولتها، وشيمةَ بُغضِها للجنديّ الذي يستجوبها، والهِبات التّي
وُلدت معها، وتفاصيلَ جميع مواقف الموت التي نجت منها حتّى الآن، والنّغمةَ التي تنادي
بها اسم كلّ من تحبّ من النّاس، وتشخيصَ أيّ داءٍ قد يصيبها ومسبّباته الاجتماعيّة
والماديّة، و أيّ شيء يعارض عقلها الحاذق، حتّى فوّهة المسدّس المصوّبة نحو صُدغها.
لكنّه أيضًا سيحملُ حقائق كُبرى: لا عنف أشدّ ولا أكثر انتشارًا أو استمرارًا كالذي
ألحقتهُ الإمبرياليّة بباقي دول العالم، فإنّ الحرب على فيتنام تُستخدم لمحو مثال الشّعب
المتّحد والمقاوم لهذا البطش والذي ينادي باستقلاليّته، وحقيقةُ أنّ الفيتناميين يثبتون
أنّ أعظم قوّة إمبرياليّة لا تستطيع قهرهم، دليلٌ على تفوّق الموارد [البشريّة] لشعب
من 32 مليون نسمة، بينما في أيّ مكانٍ آخر، مواردُ ألفيّ مليون شخص 14 (التي لا تشمل
فقط الماديّات والعمل، بل أيّ حياة أخرى) تُهدَر، ويُساء استعمالها.
يُقال إنّ على الاستغلال
أن يزول من هذا العالم، ولكنّه يستشري، ويستمدّ، ويمتدّ، وتطال يدُه الهمجيّةُ الجميع،
ويصبح أشدّ وحشيّةً في دفاعه عن حقّه في الاستغلال.
دعونا نستوضح الأمر: ليست
الحرب على فيتنام ما هو غيرَ محتمل، بل إنَّ فيتنام تؤكّد على وضع العالم الرّاهن غير
المحتمل، وهذا الوضع بصورته هذه يقدّمُ مثالًا للشّعب الذي يمنح الأمل، ولقد أدرك جيفارا
ذلك وسار وفقًا له؛ لا يُعتَبر العالم غير محتمل حتّى تبرزَ إمكانيّة تغييره ويجري
إنكار هذه الإمكانيّة، فالقُوى الاجتماعيّة القادرة على هذا التّغيير – حتّى ولو بشروطٍ
عامّة – مُحددَّة، وقد اختار جيفارا أن يثبت نفسه من خلال هذه القوى، وبفعله هذا لم
يكن قد خضع لما يُعرف بقوانين التّاريخ وأحكامه، بل لطبيعة وجوده التّاريخيّة.
لم يعد موتُه المتصوّر معيارًا
للتّبعيّة والطّاعة، ولا لنهاية حتميّة لتراجيديا بطوليّة، فقد أُغلق خرم إبرة الموت،
ولم يعد هناك ما يمكن أن يَلِجَه، ولا حتّى حُكم تاريخيّ لمستقبلٍ (غير معروف). بعدم
مطالبته بما هو خارق، وبتحرّكه وفقًا لما يدركه من أقصى إمكانيّات وعيه، يصبح موته
المتصوّر معيارًا للتّكافؤ الذي أصبح من الممكن أن يتحقّق الآن بين الذّات والعالم؛
إنّه معيارٌ لالتزام جيفارا الكامل واستقلاليّته التّامّة.
من المنطقيّ افتراضُ أنَّ
رجلًا مثل جيفارا بعد أن كان قد اتّخذ قراره، مرّ بلحظاتٍ أدرك خلالها هذه الحرّيّة،
التي تختلف بجوهرها عن أيّ حرّيّة أخرى.
علينا أن نتذكّر هذا وألّا
ننسى الألم، والتّضحية، والمتاعب الهائلة التي لطالما كانت حاضرة. ففي رسالةٍ أرسلها
لذويه إبّان رحيله عن كوبا، كتَبَ جيفارا: «قوّة إرادتي المتجليّة مع عزيمة الفنّان
في داخلي ستدفعُ بأرجُلي الواهنة وستمْلأ رئتيّ المنهَكتين لكي أمضي قُدُمًا». 18
_______________________
1) يخطّ بِرجر مقاله هذا على مرحلتين، الأولى في أكتوبر 1967 والثّانية في يناير 1968، ويتوقّف في كلا المرحلتين عند التّغيّرات والتّحوّلات المختلفة التي طرأت على صورة الإمبرياليّة.
2) ضمّت منظمّةُ تحالف نضالات الشّعوب الآسيويّة والأفريقيّة دولَ أمريكا اللّاتينيّة لاحقًا؛ صدرت عن المنظّمة مجلّة (Tricontinental) حيث نُشر بيان جيفارا المذكور في أوّل عددٍ لها.
3) أندريا مانتينيا هو رسّام ونقّاش إيطاليّ عاش في القرن الخامس عشر للميلاد.
4) ننوّه هنا أنّ الكلمة التي ظهرت في النّصً الأصليّ هي man.
5) الكلمة في النّصّ الأصليّ هي processes.
6) الجمعيّة الوطنيّة لعام 1789.
7) (Saint-Just, Discours et rapports (Paris,1957، ترجمها كاتب هذه المقالة عن الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة.
8) المصدر السابق
9) المصدر السابق
10) المقصود urn، وهي الجرار التي يُحفظ فيها رماد الموتى.
11) المصدر السابق
12) المصدر السابق
13) أقتبس في رواية الإنسان المتمرّد لألبير كامي، 1963.
14) عدد سكّان العالم في سنة 1968.
15) إرنستو تشي جيفارا، Le Socialisme et l’homme (باريس: ماسبيرو، 1967)، ص 113 (ترجمة الكاتب).
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر
أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية