كتب سامح عسكر
عام 555 هـ ولد المؤرخ
ابن الأثير صاحب كتاب "الكامل في التاريخ". واسمه "علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري الشيباني" ولقبه "عز الدين". له كتاب آخر مشهور في التراجم اسمه "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، وله
أخ محدث مشهور اسمه "المبارك" وأخ ثاني عالم لغة اسمه "نصر الله".
أي من عائلة لها باع كبير في علوم التاريخ والأدب، ولدوا جميعا في جزيرة ابن عمر في
الموصل شمال العراق، وانتقل ابن الأثير في طلب العلم إلى حلب ودمشق والقدس.
يقول الذهبي "وَقَدِمَ
الشَّامَ رَسُوْلاً، فَحَدَّثَ بِدِمَشْقَ وَبِحَلَبَ". ويقول ابن خلّكان "كَانَ
بَيْتُهُ بِالمَوْصِلِ مَجْمَعَ الفُضَلاَءِ، اجْتَمَعْتُ بِهِ بِحَلَبَ". (سير
أعلام النبلاء 22/355) ويضيف ابن خلّكان "ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من
جماعة". (وفيات الأعيان 3/348)
ومن شهادة ابن خلّكان
والذهبي نفهم أن ابن الأثير عاصر معارك صلاح الدين وعايش أجواءها في الموصل والشام
وفلسطين معاً، فصلاح الدين الأيوبي حكم ما بين عامي 566 : 589 هـ وتوفى الأيوبي وقت
كان ابن الأثير فيها عنده 34 سنة، أي كان رجلاً مدركاً للأحداث والتقلّبات السياسية
في عهده، ويعتبر ابن الأثير أكثر من حدث عن صلاح الدين وروى عنه في كتاب الكامل جزأين
كاملين التاسع والعاشر متضمنا حوالي 250 صفحة من سيرة وتاريخ صلاح الدين الأيوبي وشريكه
نور الدين زنكي، ومن نسبه نفهم أنه كان عراقياً لا تجمعه مصلحة ولا نسب مع بني أيوب،
ولم يكن من فقهاء السلطان والبلاط كي تُجرَح شهادته.
تناول ابن الأثير سيرة
صلاح الدين بموضوعية واحترافية، فهو ورغم نقل معاركه وانتصاراته. نقل أيضا إخفاقاته
وهزائمه، ولم يمدح صلاح الدين للحد الذي تشعر فيه أنه ينافق السلطان كما فعل بعض المؤرخين
في عهده كالمظفر الأيوبي وغيره، بل نقل ابن الأثير أحداث مفصلية لها مدلول تاريخي ككراهية
المصريين لصلاح الدين، وخوف الرجل من غدرهم، وصراع الصديقين نور الدين زنكي وصلاح الدين
وتأهب وترصد كل منهما للآخر.
أشياء صنعت فراغ في سيرة
الأيوبي ودولته، حتى بعد أن ظهرت سيرة صلاح الدين مؤخرا واعتباره بطلا قوميا ظهرت أحداث
أخرى تنفي ذلك وتعزز من هذا الفراغ، لكن بالعودة لسيرة ابن الأثير وكتابه الكامل تتضح
الصورة بشكل كبير، وتنكشف شخصية صلاح الدين بصورتها الأقرب للواقع دون تزييف.
كذلك فالمؤرخ "بهاد
الدين بن شداد" (ت 632 هـ) تابع ابن الأثير في تاريخه، وصدق على كل ما جاء به
الرجل في موسوعته التاريخية الكامل، وإن اختصر بعض أحداثها في كتابه "النوادر
السلطانية والمحاسن اليوسفية". حكى فيه سيرة صلاح الدين معتمداً على رؤية ابن
الأثير، وهو يعزز قيمة هذا الكتاب في ذلك الزمان، ولأن ابن شداد موصليّ أيضا، يعني
على علم بابن الأثير وصلاح الدين معا، وهو متوفي بعد ابن الأثير بعامين، أي شهد أجواء
تلك الحروب والغزوات الأيوبية، وكتابه من السجلات النادرة والمعتمد عليها في تأريخ
هذه الحقبة.
لكن في تقديري كتاب ابن
شداد هو مجرد "صدى صوت" لكتاب ابن الأثير، والسبب ربما أن ابن شداد لم يكن
حافظا ولا مبدعا ولا صاحب خيال. بل فقط مقلداً لابن الأثير. وهي آفة كانت منتشرة في
ذلك العهد حيث لم تقتصر فقط على المؤرخين، بل طالت الفقهاء ورجال الحديث، وكتابه بالعموم
يفتقر للحس الأدبي وتناسق الكلمات، ولو وضعناه بجانب كتاب الكامل لكان مثل حبة الرمل
بجانب الهرم. لذلك لن أعتمد عليه كقرينة، وأكتفي أنه كمؤرخ مشهور في ذلك الزمان صدق
على رواية ابن الأثير، وإن ظهر عنوان كتابه ساذج نوعا ما، لأنه ظن ما كتبه مناقب لصلاح
الدين فسماه بعد النوادر السلطانية "المحاسن اليوسفية" يقصد صلاح الدين لأن
اسمه الحقيقي (يوسف بن أيوب).
سأبدأ بقتل مؤتمن الخلافة،
وهو سوداني في قصر العاضد الفاطمي، على إشاعة أن السوداني ينوي قتل صلاح الدين، فعلم
صلاح الدين ذلك فقرر الانتقام على طريقة المصريين (أتغدى بيه قبل ما يتعشى بيا)، وقام
بقتله فعلا، فتعصب له السودانيون، وجمعوا جيش لحرب صلاح الدين، فما كان من الرجل أن
انتقم منهم وقتل منهم الآلاف آنذاك، فهزمهم حتى أحرق عليهم مدينة المنصورة وقتل أطفالهم
ونسائهم. كما يروي ابن الأثير.
"فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه،
وقتلوه، وأتوه برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة، واستعمل على الجميع
بهاء الدين قراقوش، وهو خصي أبيض، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه،
فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة حمية، ولأنه كان يتعصب لهم، فحشدوا وجمعوا،
فزادت عدتهم على خمسين ألفا، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضا، وقاتلوهم
بين القصرين.
وكثر القتل في الفريقين،
فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم،
فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك، فطلبوا
الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم
شمس الدولة توران شاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم
يبق منهم إلا القليل الشريد". (الكامل في التاريخ لابن الأثير 9/346)
هنا ابن الأثير يصف المعركة
ونتائجها تدل على مذبحة دموية تعرض لها السودانيين، مع العلم أن السودان في عهده لم
يكن يطلق فقط على إقليم أو دولة السودان الحالية، بل ابتداءً من النوبة، أي من هؤلاء
قاطني أسوان وما تحتها.
وفي تاريخ ابن شداد المعروف
بـ"النوادر السلطانية" حكى هذه القصة، قال المصنف "ولما استقر قدم صلاح
الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان فاجتمعت السودان فهم حفاظ القصر
في عدد كثير وكان بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين انهزم فيها
السودان وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأخلاهم قتلاً وتهجيجاً وتهيجاً".
(النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية)
والمقدم بمفهوم ذلك الزمان
يعني "كبير العسكر أو الشرطة". في مقام وزير الداخلية الآن، أي ما قام به
صلاح الدين من قتل مؤتمن الخلافة الفاطمي كان شبه انقلاب عسكري بقتل قائد الجيش لقائد
الشرطة، وإن كان في تعيين سوداني لهذا المنصب الرفيع دلالة على رفعة وعدالة الفاطميين
حيث لم يرى العاضد مانعا من تولية أسود لحمايته، وهم الذين كانوا في زمن الأمويين وعند
العباسيين في بغداد يوصفون بالموالي والعبيد، حتى كانت ثورة الزنوج الشهيرة.
كذلك فصلاح الدين كان
وسواساً لا يثق بالمصريين. ويخاف غدرهم بعلمه أن شعبيته ليست كبيرة، في هذا الوقت نزل
الصليبيين في دمياط فأرسل إليهم جيشا عبر النيل، ولكن لم يدخل المدينة وأرسل إلى نور
الدين يطلب المساعدة، ويحكي ابن الأثير القصة.
" فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها
كل من عنده، وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر، وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه
من المخافة، ويقول: إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سرت إليها خلفني المصريون
في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج من أمامي، فلا
يبقى لنا باقية.
فسير نور الدين العساكر
إليه أرسالا يتلو بعضها بعضا، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية، فنهبها، وأغار
عليها واستباحها، فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل لخلو البلاد من مانع"
(الكامل لابن الأثير 9/350)
لاحظ وصف ابن الأثير
للغارة الهمجية لصلاح الدين بقوله "فنهبها واستباحها" أي بلاد الشام، والمقصد
أن هذه بلاد عربية وإسلامية في الأخير وإن كانت تحت سلطة الصليبيين لكن نهبها واستباحتها
(بتدمير كلي) مخالف لشرائع الإسلام. كذلك لاحظ قلق صلاح الدين من المصريين بقوله "
وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في
أثري" يعني كان يعلم تماماً أنه غير مقبول من شعب مصر.
حتى أن شريكه الثاني
في الجريمة نور الدين زنكي فعل أكثر من ذلك في بلاد الشام، يحكي ابن الأثير "وأرسل
طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة، فأخذهما عنوة، ونهب وخرب، وغنم المسلمون غنائم
كثيرة، وعادوا إليه وهو بعرقة، فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب
ويحرق ويقتل" (المصدر السابق) وقال أيضا "سلك نور الدين وسط بلادهم ينهب
ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظر
حركة الفرنج ليلقاهم" (المصدر السابق).
وبلاد الإسلام عند المؤرخ
ابن الأثير يقصد بها البلاد التي يحكمها بني العباس وبني أيوب والفاطميين الشيعة، أي
أن الشام آنذاك كانت مقسمة قطع كثيرة على نحو ما يجري في سوريا الآن بالضبط، ولتقريب
المشهد فالمعارضة السورية عندما تستبيح قرية أو مدينة مؤيدة للأسد- أو العكس- تفعل
بها نفس ما فعله نور الدين في القرى التي كانت تحت النفوذ الصليبي كطرابلس وأنطاكية.
معلومة: المعارضة في
سوريا الآن شكلت كتائب باسم "نور الدين زنكي" وهي التي ذبحت الطفل الفلسطيني
منذ عدة أشهر، وجرائمها شاعت في البلدان، وكأنهم يحيون جرائم زعيمهم الأكبر بعد موته
ب 900 عام.
وما يعزز وسواس صلاح
الدين وثقته بأن المصريين يكرهونه ما فعله شريكه نور الدين أيضا، حيث أشار عليه قطع
خطبة الخليفة العاضد (الفاطمي) واستبدالها بخطبة الخليفة المستضئ (العباسي) وهذا سياسيا
يعتبر انقلاب عسكري قد يؤدي لردة فعل فاطمية، وقد علم صلاح الدين أن الشعب المصري
(يحب الفاطميين) فخشي الجماهير، وقد حكى ابن الأثير ذلك بقوله: "فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره
بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف
من قيام أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين، وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة
لهم، ويريد بقاءهم خوفا من نور الدين، فإنه كان يخافه أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها
منه، فكان يريد أن يكون العاضد معه، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه،
فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، وألزمه إلزاما
لا فسحة له في مخالفته، وكان على الحقيقة نائب نور الدين، واتفق أن العاضد مرض هذا
الوقت مرضا شديدا، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه، فمنهم من أشار
به ولم يفكر في المصريين، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين"
(الكامل لابن الأثير 9/365)
فلو كان صلاح الدين شجاعا-كما
هو مشاع- ما تردد في طلب شريكه نور الدين، ولو كان واثقا من محبة الناس له لفعل أكثر
من ذلك والجماهير ستحميه من الفاطميين.
وبعد انقلابه على العاضد
استولى على القصر الفاطمي ونهب كل محتوياته من المجوهرات والتحف والنفائس والأشياء
الثمينة، وقد استعمل نائبه قراقوش في ذلك، ولم يفكر صلاح الدين في توزيع هذه الثروة
على المصريين بل أنفقها بسخاء على حاشيته وعلى فقهاء الشافعية ورجال الدين، حيث كان
يريد تعميم المذهب الشافعي في مصر على حساب المذهب الإسماعيلي، حتى الكتب والمخطوطات
النادرة بدلا من استعمالها في المعارف باعها وقبض ثمنها، كان كل همه المال الذي سينفق
به على الجيوش والغزوات التي كان يعشقها ويتقنها في نفس الوقت.
ويروي ابن الأثير كيف
كان ينظر صلاح الدين للخليفة الفاطمي العاضد حيث قال: "ولما اشتد مرض العاضد أرسل
إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على
تخلفه عنه، وكان يصفه كثيرا بالكرم، ولين الجانب، وغلبة الخير على طبعه" (المصدر
السابق) والمعنى أن صلاح الدين كان يحب العاضد ويدين بالولاء له إلى وقت قريب من موت
الخليفة، ولكن لضعفه أمام نور الدين قطع الخطبة وأعلن انقلابه العسكري على الحكم الفاطمي.
علما بأن صلاح الدين
كان لا يأمن جانب نور الدين، واتفق مع أخيه توران شاه باحتلال الصعيد لتأمين مصر من
حملة نور الدين زنكي المتوقعة، والتي كانت ضمن مسلسل توسيع نفوذ نور الدين من الشام
إلى مصر، فخشي صلاح الدين سقوط مصر في يد شريكه السابق، وأرسل أخيه للصعيد، ويحكي ابن
الأثير ذلك بقوله:
"فجهز شمس الدولة (توران شاه) وسار إلى أسوان، ومنها
إلى بلد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم، فحاصرها، وقاتله أهلها، فلم يكن لهم بقتال
العسكر الإسلامي قوة- لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب، فسلموها،
فملكها، وأقام بها، ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله، وقوتهم الذرة،
فلما رأى عدم الحاصل، وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة، تركها وعاد
إلى مصر بما غنم، وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري" (الكامل 9/380)
ولم يكتفِ توران شاه
بذلك بل ذهب لغزو اليمن بأمر من أخيه صلاح الدين بنفس الدافع وهو جمع المال وتحصين
مصر من الجنوب ضد نور الدين، وحكى ابن الأثير مشهد من معركة اليمن قال "فقاتلهم
شمس الدولة (توراه شاه) ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد (بلدة في اليمن) وانهزموا، ووصل
المصريون إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا
البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب" (المصدر السابق)
وهذه الأخبار تفضح (الهدف
من الغزوات) عموما وليست فقط غزوات صلاح الدين، فهم كانوا (أبناء دنيا) يعبدون المال
ويرسلون الجيوش إلى البلاد لجمعه، وما فعله توران شاه في الصعيد واليمن يشبه ما تفعله
داعش الآن، حيث ينزل الدواعش على البلد إذا رأوا فيه خيرا احتلوه ومكثوا فيه، وإذا
رأوا ما رآه توراه شاه من الفقر والحاجة وقشف العيش في الصعيد-مثلا- تركوها، ولكن ليس
بأيديهم فارغة بل بجواري وعبيد واسترقاق محرم شرعا، فهم كانوا طلاب دنيا لا دين، ولاحظ
ما يفعله الدواعش الآن حيث تقع أعينهم أول ما تقع على حقول البترول ليبيعوه ويربحوا
وينفقوا به على حملاتهم العدوانية.
أما أن صلاح الدين شجاع
فهي كذبة ألحقت من البيت الأيوبي وفقهاء بلاطه، بل كان مع شجاعته أحيانا يكون أكثر
جبنا مما نعرفه، ويحكي ابن الأثير قصة قصيرة بين نور الدين وصلاح الدين مؤداها أن صلاح
الدين (جبان) قال:
"في شوال سنة 568 هـ، رحل صلاح الدين من مصر بعساكرها
جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصار الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليه، والاتفاق على
قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره.
وسبب ذلك أن نور الدين
لما أنكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد
مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين، فاستقرت
القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ويسير نور الدين من دمشق، فأيهما سبق صاحبه
يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون وصولهما فيه، فسار صلاح الدين
عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره.
وأما نور الدين فإنه
لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال، وحصل الأزواد وما يحتاج إليه،
وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاح الدين بقربه
خافه هو وجميع أهله، واتفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين، لأنهم
علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلا.
فلما عاد أرسل الفقيه
عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار
مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم،
وأرسل معه من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف، فجاء الرسول إلى نور الدين وأعلمه ذلك
فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يظهر للرسول تأثرا بل قال له: حفظ مصر
أهم عندنا من غيرها. (الكامل لابن الأثير 9/385)
وملخص القصة أن صلاح
الدين حب يعتذر لنور الدين عن شكه السابق فيه، والعكس أيضا، بما يعني أن الأًصدقاء
بالمصري (مخوّنين بعض) فاتفقا على حصار الكرك وتحريرها من الصليبيين، وعند اقتراب صلاح
الدين من المعركة خاف وارتعد، وقرر العودة إلى مصر، ولكي لا تهتز صورته أمام صديقه
تحجج بأن عودته كانت لمرض والده نجم الدين أيوب، وأرسل له الهدايا والتحف المسروقة
من أموال الشعب المصري، ولأن نور الدين كان حريص على ألا يخسر صديقه قرر أن يكون مهذبا
ولا يبدي ما في قلبه من كراهية لصلاح الدين وإحساسه بالغدر والخيانة.
بعد هذا العام بعام واحد
توفى نور الدين زنكي عام 569 وهو يحضر لغزو مصر وتحريرها من صلاح الدين، وجمع العساكر
والجند من أقاربه في الموصل، وكان على وشك الذهاب لمصر ولكن القدر لم يمهله.
وبعد وفاة نور الدين
خلفه ابنه (الملك الصالح) واسمه الحقيقي "إسماعيل". كان صبياً عمره 12 عاما،
فاستغل صلاح الدين صغر سن الملك وذهب لاحتلال حلب وعزل الصبي، وفي كل بلد يدخلها كان
يقول أنه جاء ليخلص أهل البلد من الصليبيين بينما كان هدفه عرش الملك الصالح بالذات،
وبالفعل وصل إلى مدينة حماه ونجح في إقناع أميرها "عز الدين جورديك" أنه
لم يأتِ لنزع عرش الملك الصالح، وعلى ما يبدو أن جورديك كان ساذج ونجحت خدعة صلاح الدين،
وتملك حماه بالفعل، ثم واصل طريقه إلى "حلب" معقل الملك الصالح آنذاك، ولأنهم
كانوا يعرفوا صلاح الدين وغدره بنور الدين من قبل قاتلوه وقامت حرب رواها ابن الأثير
بقوله:
"لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحاصرها ثالث
جمادى الآخرة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح، وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة، وجمع
أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم،
وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى، ولا الخلق،
وقال من هذا كثيرا وبكى فأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال
دونه، والمنع عن بلده، وجدوا في القتال، وفيهم شجاعة، قد ألفوا الحرب واعتادوها، حيث
كان الفرنج بالقرب منهم، فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن، فلا يقدر
على القرب من البلد. (الكامل في التاريخ 9/407)
لاحظ وصف الملك الصالح
لصلاح الدين "بالظالم الجاحد وأنه لا يراقب الله تعالى ولا خلقه" هذه صورة
في منتهى البشاعة ورثها الطفل عن أبيه نور الدين الزنكي، ولكن حسابات السياسة غالبا
تطغى على العواطف، فالأمير الراحل نور الدين كان يترصد لصديقه وزرع كراهية صلاح الدين
في قلب ولده.
على الهامش: كانت أصول
كلا الصديقين نور الدين وصلاح الدين عراقية كردية، ولكن بعد انقلاب صلاح الدين على
العاضد وملكه لليمن والصعيد استقر بمصر كمركز عام للسلطة الأيوبية، وحين قرر اجتياح
الشام لعزل الملك الصالح كان يعلم أنه سيرسل استغاثة إلى أقاربه في العراق، فاستبق
ذلك بحنكة سياسية وأرسل سفرائه إلى العراق بشراء ولاءات قادتهم وأمرائهم خصوصا في الموصل،
وبالفعل أرسل الملك الصالح استغاثة لأقاربه في العراق فانشقوا ما بين مؤيد ومعارض،
وقد أثر ذلك على حملتهم لنجدة ابنهم الملك الصالح، وانتصر صلاح الدين وأعلن خلع الصبي
إسماعيل بن نور الدين زنكي من سلطة الشام مع إبقائه كوالي على حلب فقط، ويكون بذلك
قد ملك كل أراضي الشام عدا البلاد التي بحوزة الصليبيين.
وفي مشهد وفاة الملك
الصالح قرينة على شدة كراهية هذا الملك لصلاح الدين وشعوره بغدره في أي لحظة رغم كل
ما حدث، ويروي ابن الأثير هذا المشهد في سياق درامي: " أحضر الملك الصالح الأمراء، وسائر الأجناد، ووصاهم
بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال
له بعضهم: إن عماد الدين ابن عمك أيضا، وهو زوج أختك، وكان والدك يحبه ويؤثره، وهو
تولى تربيته، وليس له غير سنجار، فلو أعطيته البلد لكان أصلح، وعز الدين له من البلاد
من الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغب عني، ولكن قد علمتم
أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين
يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين
أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده. (الكامل في التاريخ 9/454)
وخلاصة هذا المشهد أن
الملك الصالح كان يرى أن "عز الدين" ابن عمه مودود أقوى من ابن عمه الآخر
"عماد الدين" وأن عز الدين سيحفظ حلب وسائر بلاد العراق التي تحكمها عائلته
من صلاح الدين خصمه اللدود.
لاحظ الأسماء، صلاح الدين،
نور الدين، أسد الدين، عماد الدين، عز الدين، تقي الدين، ناصر الدين، شهاب الدين، قطب
الدين هذه كانت سمة في عصر الدولة الأيوبية، حيث يلحقون أسمائهم بكناية دينية، وهذا
له مدلول نفسي وسياسي وفقهي، حيث الوجاهة الاجتماعية تتطلب ذلك، أي أنه كان نوع من
النفاق والرياء استشرى في أواخر عصر الدولة العباسية إلى أن استفحل وأصبح كظاهرة في
عصر الأيوبيين. وعندما تستشري ظواهر النفاق والرياء في مجتمع فاعلم أنه وصل إلى درجة
من الانحطاط الحضاري والخلقي لم يسبق لها مثيل.
كذلك ظاهرة وهي الإكثار
من تسمية الصحابة وعائلة الرسول، فصلاح الدين كان لديه أخ اسمه "أبو بكر"
وثلاثة أبناء، اثنان منهم أسماء صحابة هم "عثمان وعليّ" والأخير غازي"
الملقب بالظاهر، وتسمية غازي لها مدلول في نفس صلاح الدين باعتباره شخصية عاشقة للغزو
والجهاد. المهم أخذ عليّ لقب الأفضل وملك الشام، بينما عثمان لُقّب بالعزيز وملك مصر،
وظاهرة تسمية الصحابة دالة على أن الأسلمة والمذهبية كانت شائعة في هذا العصر كزماننا
نحن بالضبط، فتجد الآن أسماء عمر وعلي وعثمان ومعاذ وعائشة وحفصة وخديحة..إلخ، والنتيجة
صراعات مذهبية وحروب دينية كثيرة واستفحال خطر الجماعات السرية والإرهابية.
وابن الأثير يحكي حدث
غريب يدل على تشابه عصر صلاح الدين مع عصرنا ذلك من حيث الثقافة المنحطة وشيوع الأهواء
والنزاعات، حيث حكى أن ابن أخ صلاح الدين واسمه "إسماعيل بن سيف الإسلام بن أيوب"
ادعى أنه "خليفة آخر الزمان" وأنه قرشي النسب، وأن أحاديث الخلافة تنطبق
عليه، فدعا الناس لمبايعته ولقّب نفسه بـ"الهادي"، فنصحه عمه أبو بكر بأن
لا يفعل ذلك لأن الناس تعرف نسبهم الصحيح، وأن أصولهم عراقية وليست مكية، ولكن أخذته
العزة بالإثم وسار إلى ما هو عليه حتى انقض عليه الناس وقتلوه.
كان ما فعله إسماعيل
عن عقيدة تشبه عقيدة الدواعش اليوم من ضرورة إحياء الخلافة والشريعة..إلخ، حتى أن أبو
بكر البغدادي فعل نفس الشئ باختراع نسب له من قريش ليتطابق مع أصول المذهب السني القائل
بأن الخليفة من قريش.
نعود إلى السياق، ونقول
إن ما حدث من صلاح الدين مع الملك الصالح وأقاربه وولاته وأمرائه لم يكن بالهين، كانت
حروب قُتِلَ فيها الآلاف من الشوام والعراقيين، أي أنه قتل من المسلمين والعرب أكثر
مما قتل من الصليبين، وما زالت سيرته في هذه البقع سيئة كمجرم حرب، وفي العراق بالذات
لأنه تسبب في حصار وقتل وتشريد الآلاف في الموصل وسنجار، وكان طائفيا يحارب من أجل
المذهب، وهذا ما دفعه لحصار "الأيزيديين" في سنجار، وإلى الآن تعتبره الطائفية
الأيزيدية مجرم حرب قتل من أسلافهم الكثير.
وقد تعرض لمحاولة اغتيال
فاشلة على أيدي ثلاثة من عناصر الحشاشين عام 571 هـ، والسبب حصاره لمدينة أعزاز وجرائمه
في مدينة منبج، وهي مناطق كانت تحسب على الطائفة الإسماعيلية التي ينتمي لها الحشاشون،
أي أن الرجل كان يقتل دون تمييز الأهم لديه كسب المال والأرض، وهي صفة لو أسقطناها
على العصر الحديث لرأينا ما كان يفعله صلاح الدين هو عين ما كان يفعله "هتلر"
في الحرب العالمية الثانية، ومن قبله نابليون بونابرت في القرن 19 وبينهما موسوليني
في ليبيا وشمال أفريقيا.
وبسبب ما فعله الحشاشون
به قرر القضاء عليهم فذهب إلى بلادهم وخربها وأحرقها، ثم حاصر مركزهم الرئيسي في قلعة
مصياف، حتى تشفع بعض الوسطاء فيهم وقرر العودة عنهم، وبأموال أهل العراق والشام التي
سرقها عاد إلى مصر ليبني قلعته في القاهرة والتي ما زالت شواهدها إلى اليوم.
كان كل ما فعله صلاح
الدين أن تساوى في الجريمة مع أعدائه فأصبح واحداً منهم، والتاريخ المزور الآن يحكي
فضائل للرجل كالفيلم الساذج الذي أخرجه الراحل "يوسف شاهين" في الستينات،
حيث روى أنه كان لا يقتل الأسرى ويُحسن إليهم، بينما التاريخ يقول غير ذلك، فقد روى
ابن الأثير "وكان صلاح الدين قد عاد من مصر إلى الشام في شوال من السنة المتقدمة،
وهو نازل بظاهر حمص. فحملت الرءوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمر بقتل الأسرى فقتلوا"
(الكامل في التاريخ 9/435).
ويقول أيضا "ودخل
المسلمون الحصن عنوة وأسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين، وقتل
صلاح الدين كثيرا من أسرى الفرنج" (المصدر السابق)، ولا أدري هل هذه الروايات
غابت عن صناع الفيلم أم كانوا يعلموها وتعمدوا إخفائها ولم يبحثوا لها عن قرائن لإثباتها
أو نفيها.
أما أن الرجل رمز طائفي
نعم هو كذلك، فعند متعصبي السنة بطل لا يشق له غبار، والسبب انقلابه على الدولة الفاطمية
(الشيعية) أكثر من انتصاره على الصليبيين، فالحقد المذهبي حاضر بقوة، رغم أن صلاح الدين-كما
رأينا- مدح الخليفة الفاطمي وكان يراه رجلا صالحا، كذلك فالتعتيم الممارس على شعوب
السنة بخصوص تاريخ الفاطميين اعتقدوا أن هذه الدولة لم تحارب الصليبيين، وتناسوا أن
استدعاء العاضد لأسد الدين شيركوه- عم صلاح الدين- ثم إحضار ابن أخيه معه كأمير من
أمراء الحرب يدل أن العاضد كان يريد توحيد الصفوف ضد الصليبيين، ولأن الخليفة العباسي
لم يرسل له المساعدات الكافية لصد الهجمة الأوروبية.
أخيرا: هذا وجه من الأوجه
المخفية عن شخصية صلاح الدين، وسبقني الكثير في بيان هذه الأشياء بأساليب ومن طرق مختلفة،
ولكني فضلت اليوم عدم الاعتماد على مصادر متعددة خصوصا وأن جذور الفكر الإسلامي بتاريخه
وفقهه مقلدة بشكل كبير، واختياري لشخصية ابن الأثير لها دوافعها المساقة أول المقال،
وتهدف في الأخير للفت الانتباه بأن أعظم مؤرخي القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي
وهو (عز الدين بن الأثير) وكتابه (الكامل في التاريخ) أكبر موسوعة تاريخية كتبت في
هذا العصر يشهدان بأن الصورة التي رسمت في مخيلة العرب والمسلمين السنة عن صلاح الدين
ليست حقيقية، أو غير دقيقة.
وقد كان لانتشار صورة
مزيفة عن صلاح الدين وقعُ سيء في حاضر ومستقبل العرب، إذ اعتقدوا أن التاريخ بالأمس
-مع الصورة الملائكية لصلاح الدين- يمكن أن يتكرر، وأن الأجواء في عهده تصلح كنموذج
لبناء نهضة، وفي تقديري أن التيار الإسلامي-خصوصا الإخوان المسلمين- بنى أفكاره بناءً
على هذا الاعتقاد، حيث وأنني منذ كنت عضوا في الإخوان لم يكن ينقطع تدريس شخصية صلاح
الدين وتقديسها بطريقة مبالغ فيها، حتى نطق بعضهم لفظ "سيدنا صلاح الدين"
وهو مدلول يضع الرجل في منزلة الصحابة المعصومين عند الجهال والعوام والدهماء، فإذا
اصطدموا بمن كانت لهم مظلمة عند الرجل ظنوا أنهم أعداء الله وأعداء النجاح، وهذه آفة
تقديس البشر بشكل عام.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق