الأربعاء، 6 يناير 2021

قصة حصار قطر... سبوبة آل كوشنر





لو كنت مراسلا طموحا لأي قناة عربية، جزيرة او عربية، سأستغل مصداقيتها وحيادها الإعلامي بتحقيق مثير،  متأثرا بمسلسل "التاج" Crown على شبكة نتفلكس، حين اظهر تحدي BBC للملكة إليزابيث منذ الستينيات في تغطية حياتها وعائلتها بشكل واقعي وسلبي، رغم أنها قناة عامة تمولها المملكة المتحدة!
سأختار للتحقيق عنوان "سري فقط" وليس "سري للغاية،" ليس لأن الأخير كان برنامجا على قناة الجزيرة بل لأن بطل القصة هنا أصرت أجهزة الأمن والمخابرات الأمريكية على تخفيض مستوى معلومات وأسرار الدولة التي يمكنه الاطلاع عليها من "سري للغاية" إلى "سري" فقط، لأنهم وجدوا الصينيين والخليجيين يتحايلون على جهله بالسياسة وحاجته للمال ليسدد دَينا كبيرا عليه، فخافوا من حاجته وفلتان لسانه واجتماعاته مع الخليجيين دون الإبلاغ عنها. لكن والد زوجته، ضرب بتحذيراتهم عرض الحائط، وأعاد لصهره، كمستشار له هو وزوجته، حق الاطلاع على كل الأسرار بدرجة "سري للغاية."
سيقف المراسل، في بداية التقرير أمام ناطحة سحاب في نيويورك، ارتفاعها واحد وأربعون طابقا، وعمرها واحد وخمسون عاما، ليروي قصة الرجل الذي لعب دورا محوريا في فرض الحصار الجوي والبري والبحري على قطر ومقاطعتها من شقيقاتها الأربع: السعودية والإمارات، ومعهما: البحرين ومصر، في يوم واحد، يتزامن مع الذكرى الخمسين للهزيمة العربية الأليمة: الخامس من يونيو حزيران 2017. 
عنوان المبني بالتحديد، لتسهيل الأمر على المراسل: رقم 666 جادة او الطريق الخامس 5th Avenue ما بين شارعي 52 و 53 بوسط جزيرة مانهاتن في قلب مدينة نيويورك.
هذا المبنى اشتراه، باسم شركات عائلته جارد كوشنر،عام 2007 ليكون رمزا لمكانتهم في عالم العقارات والمقاولات، الشاب جارد، كان قد بدأ يتولى إدارة شركات مقاولات والده الذي قضى عامين في السجن، انتهت في العام السابق (2006) للتهرب الضريبي، وابتزاز زوج اخته (اي عمة جارد) بتصويره فيديو مع داعرة استاجرها الاب تشارلز ليري اخته خيانة زوجها كما خانه بالشهادة عليه للمحققين في تهربه الضريبي. لكن ترمب عفا رئاسيا الشهر الماضي عن الاب.
جارد كان عمره وقتها 26 عاما.. حين اشترى المبنى ليكون جوهرة عقاراتهم.. ولكن في توقيت قاتل، حيث كانت أسعار وسوق العقارات وقتها قد بلغت الذروة، فدفع اغلى سعر لأي عقار في تاريخ نيويورك، وهو مليار وثمانمائة مليون دولار.. وكان مطمئنا لازدياد الأسعار وانه سيجذب الكثير من المستأجرين للمكاتب والشقق الفاخرة، إذ يكفي أن 75 الف قدم مستأجرة مكاتب بالفعل عنده من مؤسسة مصرفية واحدة في المبنى هي Citi-group.
أخذت عائلة كوشنر قرضا عقاريا لتكملة شراء المبنى، وهو قرض بقيمة مليار ومائتي مليون دولار، وجمّعوا ال600 مليون دولار المتبقية من مدخرات واستثمارات وقروض على عقارات أخرى لهم.
كان الشاب وقتها، منتميا كوالده للحزب الديمقراطي، مثلما كان متدينا، ولكن بشكل عصري، لديانة والديه من اليهود الأرثوذكس الذين لايتزوجون إلا من يهود مثلهم. لكن جارد تعرّف وأحب قبل تلك الصفقة بعامين بفتاة اسمها إيفانكا في سنه، لكنها كانت مسيحية بروتستانتية، مثل والديها دونالد و إيفانا ترمب.
 لم يسعد الأب تشارلز كوشنر بخطبة ابنه من إيفانكا في عام الصفقة.. مشترطا منه ليتزوجها ان تصبح يهودية، على الاقل، وهم في امريكا، رغم أن المجلس الرِبّي لليهود الأرثوذكس في اسرائيل لن يعترفوا هناك بالزيجة، طالما أن ام الزوجة (او الزوج) ليست يهودية بالمثل! 
وبالتالي، تأخر الارتباط لعامين أخريين، وانفصلا ثلاثة اشهر، ثم عادت إيفانكا إلى جارد عام 2009 بقبول اعتناق اليهودية، ليتأكد الاب من مدى تمسكها بابنه، وتم الزواج على يد حاخام في نيويورك بعد أن اختبر الفتاة في تعاليم الدين واعتكاف السبت، ومعرفة بعض العِبرية. وعن نفسه، ترك جارد الحزب الديمقراطي ولكن ظل مستقلا حتى 2018 حين تحول على مضض للحزب الجمهوري.
غير ان الأمور المالية لم تأت بما تشتهي عائلة كوشنر مثل الأمور العائلية. فقبل نهاية السنة التي اشتروا فيها العقار الضخم 666 أبلغهم أكبر مستأجر لديهم (Citigroup) بأنه لن يجدد عقده وسيترك المبنى، بينما لم يكونوا قد أجرّوا به سوى الثلث، ولا يكفي حتى النصف لدفع أقساط وفوائد القرض الضخم. وبحلول العام التالي، انهارت سوق العقارات، لدرجة انهم حين حاولوا إعادة جدولة الدين في عام 2010 قيّم المثمّنون المبنى كله بمبلغ 820 مليون دولار، اي أقل من نصف الثمن الذي اشتروه به (1.8 مليار) وأقل من القرض المصرفي المستحق عليهم (1.2 مليار).
اضطر جارد في عام 2011 لبيع حق تأجير 49% من العقار لشركة فورنادو، مقابل 500 مليون دولار لتلافي الانهيار المالي.
في يونيو حزيران 2015, أعلن والد زوجة جارد، اي حَماه دونالد ترمب الترشح عن الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية..  وسرعان ما ظهر مستثمر عربي يعرض على جارد ووالده تشارلز كوشنر، شراء نصيب كبير في مبنى 666. وبالفعل أخذا يتفاوضان للعام التالي، وبمجرد فوز دونالد في نوفمبر 2016، عقد المستثمر العربي اجتماعه الحاسم والأخير في ديسمبر مع جارد، في مبنى حماه ترمب في نيويورك، وعرض ضخ 500 مليون دولار لكن بشرط أن تكون مضمونة برهن ممتلكات اخرى لهم. وهو ما أفشل الصفقة، تاركا عائلة كوشنر حانقين على هذا المستثمر الشاطر، الذي لم يكن سوى HBJ المعروف بالأحرف الاولى لإسمه الثلاثي: حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء ووزير خارجية قطر الأسبق، باعتباره وقتها المسئول عن إدارة استثمارات صندوق قطر السيادي بقيمة 250 مليار دولار.
قبل أسبوع من انتخاب ترمب وفوزه، كان جارد كوشنر قد رتب لقاءا لحماه مع الشاب الامير السعودي محمد بن سلمان، وزير الدفاع وقتها، وتم اللقاء بتكتم في منزل المرشح الجمهوري ترمب. وبعد فوزه باسبوعين، أرسل بن سلمان وفدا إلى الولايات المتحدة لتقييم الوضع والترتيب مع الفريق الانتقالي الجديد. فيما تولى صديقه الجديد جارد كوشنر عقب انتقال ترمب للبيت الأبيض في يناير 2017 منصب كبير مستشاري الرئيس، واضطُر للاستقالة من رئاسة مجلس إدارة شركات كوشنر، وباع بعض أسهمه في مبنى 666 ووضع الجانب الاكبر من امواله في صندوق استثماري "محجوب"، بمعنى انه يُفترض الا يعرف صاحبه كمسئول عند تولي المنصب في اي قطاعات يُستثمر، حتى لا تؤثر على قراراته في الحكومة. لكن والدة جارد هي التي كانت تشرف على الصندوق!
وازدادات اتصالات ومكالمات بن كوشنر مع بن سلمان دون أن يبلغ عنها او مضمونها لمجلس الأمن القومي الامريكي، الأمر الذي أزعج مستشار الامن القومي آنذاك مكماستر، ووزير الخارجية ركس تليرسون، وحذرا من ان أسرار الدولة معرضة للتسريب والخطر.
في فبراير 2017 قررت وكالة المخابرات المركزية مع أجهزة الأمن القومي، تخفيض درجة السرية المسموحة لجارد كوشنر وعدم إطلاعه على المعلومات المصنفة "سري للغاية" بعد ان رصدوا محادثات له وعنه تظهر ان دولا تنوي استخدامه، وأولها اسرائيل والسعودية والصين والمكسيك.
في مارس 2017، شكا نائب ديمقراطي بالكونجرس ان كوشنر تفاوض مع مستثمرين صينيين للاستثمار في مبنى 666 لعائلته بنيويورك.. فتوقفت المفاوضات.
في مارس 2017 كان جارد قد بدأ يبحث بتوصية من صديقه الآخر يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن  بأحقية الامير محمد بن سلمان الذي كان وزير للدفاع، واعتبرته وساطة ابوظبي ومصادر اخرى في واشنطن صقرا ساهم في قطع العلاقات السعودية مع إيران في يونيو 2016 بعد ستة أشهر فقط من توليه منصبه وتولي والده الحكم في البلاد. وبالتالي، نسبوا إلى جارد كوشنر نصيحة حماه ترمب بتفضيل الشاب بن سلمان (31 سنة وقتها) على محمد بن نايف (58 سنة) وزير الداخلية وولي العهد آنذاك. وتمكن جارد من تدبير لقاء آخر لصديقه محمد، حيث كانا يخاطبان بعضهما بالاسم الاول، ولكن بشكل رسمي في البيت الأبيض مع الرئيس ترمب، على مأدبة غداء مستغلا هذا الموعد الشاغر على جدول الرئيس مع مستشارة ألمانيا مركل التي حالت عاصفة ثلجية دون حضورها.    
في ابريل 2017, عاد القطريون للتفاوض على مبنى 666 لإرضاء كوشنر بعد أن ضايقوه في ديسمبر، وادركوا ان حمد بن جاسم أضاع الفرصة السياسية.
  وصل نيويورك وفد على رأسه وزير المالية القطري علي شريف العمادي (خريج جامعة اريزونا) واجتمع مع الأب تشارلز كوشنر، وعرض الاستثمار في المبنى بشروط مالية أيسر وأفضل. لكن كوشنر طلب ضعف ما وافقوا عليه من قبل، وتشدد في مطالبه، وللأسف فكر القطريون مرة اخرى بعقلية مالية وليس سياسية بحتة، ففشلت المفاوضات، وغير مدركين للعلاقات الوثيقة بين بن كوشنر وبن سلمان. وأنكرت شركة كوشنر في البداية حدوث الاجتماع مع القطريين ثم عادوا بعد ذلك يعترفون بحدوثه، وزعم الأب انه اضطر ذوقيا لمقابلة الوزير القطري، لكنه رفض عرضهم الذي كان سيأتي من الصندوق الاستثماري السيادي، مما قد يثير تعارض مصلحة لابنه في منصبه السياسي، ولولا المبادئ لقبض الثمن المعروض على الطاولة وفك ضائقتهم المالية.
الانتقام والتمكين:
 مايو 2017
 رتب جارد كوشنر الزيارة الخارجية الاولى لحماه الرئيس في مايو 2017 لتكون السعودية محطته الأولى في المنطقة، رغم اعتراض وتحفظات وزير خارجيته تلرسون، ورتب مع صديقه محمد بن سلمان، الذي كان يخطط للإطاحة بابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد في الشهر التالي، وتم الحفاوة بدونالد ترمب بشكل ابهره وسلطنه، بما في ذلك تجهيز كرسي غال جدا، أشبه بكرسي العرش، للجلوس عليه!




في عشرين مايو 2017 أكدت مصادر وتحقيقات في الكونجرس أن كوشنر حضر عشاء في الرياض، أنكره لاحقا، أثناء حضور ترمب القمة العربية الإسلامية، مع كل من محمد بن سلمان ( الذي أطاح بعد شهر بالتحديد بابن عمه ولي العهد محمد بن نايف) وبحضور ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الداعم لبن سلمان.
جلسة استماع في الكونجرس سألت وزيرة الخارجية الأمريكي وقتها ركس تلرسون، الذي أطاح به ترمب، عن الاجتماع، فقال إنه علم به لاحقا، وأعرب عن ضيقه لتغييبه، بينما حضره مع كوشنر، كبير مخططي ترمب وقتها ستيف بانون.
هذا الاجتماع، خطط لقرار الحصار وقطع علاقات السعودية والإمارات، الحاضرتيّن، وبالتبعية البحرين ومصر، الغائبتين، وهو ماتم بعد أسبوعين يوم الخامس من يونيو 2017, ثم تلاه الإطاحة بمحمد بن نايف، ليتولى العهد، صديق جارد.
فكيف تصرف وزيرا الخارجية تلرسون ووزير الدفاع ماتيس حين كانا آخر من يعرف؟ وكيف تطور الحصار حتى نهايته؟
بعد أسبوعين من زيارة ترمب للسعودية، كأول بلد يزوره في اول جولة رئاسية، رغم تحفظ وزير خارجيته تلرسون، الذي اعرب لاحقا للكونجرس عن استيائه ايضا من استبعاده من لقاء عشاء حاسم في الرياض يوم 20 مايو بين كوشنر وستيف بانون ومعهما المحمدان بن سلمان وبن زايد، تم تنفيذ الخطة يوم 5 يونيو2017 بتنسيق وقرار جماعي للدول المتحالفة الاربع: السعودية ومعها البحرين، والإمارات ومعها مصر بقطع العلاقات مع قطر وحصارها بريا وبحريا وجويا، لاتهامها بدعم الإرهاب وتمويل التنظيمات والجماعات الإسلامية المتطرفة وتفويض دول المنطقة لعزل إيران.
جاء الخبر مفاجئا لوزير الخارجية والدفاع الامريكيين، لأنهما كانا آخر من يعلم.. ودعا كل منهما الأطراف المعنية إلى التهدئة وضبط النفس. لكن ترمب كتب في اليوم التالي تغريدة تظهر تفهمه وعدم اعتراضه على ما حدث مع قطر، موضحا أن القمة العربية الإسلامية التي حضرها مؤخرا في الرياض كانت واضحة في ضرورة وقف دعم الأيديولوجيا الراديكالية، وهم يلفتون نظر قطر لضرورة الالتزام بذلك.
اعرب تلرسون وكذلك وزير الدفاع ماتيس عن القلق على أي تحركات سعودية ضد قطر، ووضع القوات الامريكية العشرة آلاف في قاعدة العديد بقطر والقيادة الوسطى الأمريكية فيها، وحاولا اسستيعاب الوضع دون جدوى. وهو ما أدركه تلرسون بعد عزله من ترمب حيث ابلغ الكونجرس بعد عامين من الحادث انه بدون إشارة خضراء من امريكا، لم تكن هذه الدول لتجرؤ على مافعلت ضد قطر. وفي مذكراته لاحقا، كتب تلرسون كيف ان كوشنر ونتنياهو قدما أمامه شريطا لترمب لتصريحات محمود عباس، ممنتجة بشكل واضح، لإقناعه بقطع العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وإهانة ابو مازن في لقائه معه، رغم اعتراض تلرسون على هذا التلفيق.. وما يفعله كوشنر. لذا، أدرك مَن أعطى الرسالة لحصار قطر.
يوم 9 يونيو 2017، دون معرفته بعد مَن وراء حصار قطر، أصدر تلرسون بيانا من الخارجية الامريكية، يقول إنه تشاور بشأنه هاتفيا مع الرئيس ترمب،     طالب فيه الوزير بفك الحصار عن قطر، نظرا لدواع انسانية، ونقص مواد الغذاء (باعتبار أن قطر كانت تعتمد في اغلب إمداداتها الغذائية على منفذ سلوى البري مع السعودية) كما أشار الوزير الأمريكي إلى تفريق العائلات "في شهر رمضان الكريم"، ثم أكد على إضرار هذه الإجراءات بالمصالح الامريكية التجارية وكذلك ترتيباتها الأمنية بالمنطقةوتحرك قواتها العسكرية.
المفاجأة، انه بعد ساعة واحدة من بيان وزير خارجيته، كتب الرئيس الامريكي تغريدتين يقول فيهما:
"إن دولة قطر ظلت للأسف هي الممول تاريخيا للإرهاب على أعلى مستوياتها، وفي أعقاب المؤتمر الاخير، تحدث معي العديد من الدول مطالبين بالتصدي لما تفعله قطر..
"وقررت مع وزير الخارجية تلرسون، وجنرالاتنا العظام والعسكريين، ان الوقت قد حان لإنهاء تمويل قطر للأيديولوجيا المتطرفة."
ما أدركه تلرسون لاحقا، وقاله لمقربين منه، ان ما كتبه ترمب نصيا قد وصله من كوشنر، وكتبه وارسله له صديقه يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن، الذي قدمه لكوشنر منذ مايو 2016 المقاول ورجل الأعمال توم باراك الذي أشرف على حفل تنصيب ترمب. ووصف كوشنر ليوسف في رسالة تسربت بعدها لموقع بوليتيكو: "ستُحِب هذا الرجل وهو متفق مع اجندتنا." ويبدو أن القطريين توصلوا أيضا بالقرصنة الالكترونية، قبل الامارات، لرسائل العتيبة المتبادلة مع كوشنر وزادت كثافتها منذ دخول جارد البيت الأبيض مستشارا لشئون الشرق الأوسط.
17 اغسطس 2017: عزل ستيف بانون كبير مخططي ترمب في البيت الابيض، تاركا كوشنر وحده، ومعه زوجته إيفانكا ترمب، لتزداد سيطرته على صنع القرار الرئاسي.
24 اغسطس 2017: تعيد قطر كل علاقاتها الدبلوماسية مع ايران، وتعتمد على أجوائها كمنفذ للطيران القطري المحاصر، وهو ما جعلها تدفع مقابله مائة مليون دولار سنويا.
أواخر اكتوبر 2017: رحلة مفاجئة لجارد كوشنر إلى الرياض بطائرة ركاب عادية، ولم يعلن عن الرحلة الا بعد وصوله، ولم يعلن عن مضمون لقاءاته المغلقة مع صديقه محمد بن سلمان، الذي اصبح ولي العهد منذ تخلص من ابن عمه محمد بن نايف، باعتقاله منزليا، بعد أسبوعين من بدء حصار قطر في يونيو من نفس العام. ولم يبلغ كوشنر وزارة الخارجية عن اتصالاته الخارجية وقتها، كالعادة.
و لكن بعد ايام قليلة:
في الاسبوع الاول من نوفمبر 2017 تخلص بن سلمان من المنافس القوي الآخر له، وكان مرشحا لولاية العهد بعد بن نايف، وهو الأمير متعب ابن الملك عبدالله، فتم تجريده من منصب قيادة الحرس الوطني، وهي قوة التهديد الأخيرة لمنع ولاية بن سلمان. كما تم اعتقال ١١ أميرا ومعهم عشرات من رجال الأعمال السعوديين في فندق رتز كارلتون، بحجة مكافحة الفساد وتجريدهم من الكثير من اموالهم، وتقليص نفوذهم، خصوصا أن أحد ابرز الذين تم التنكيل بهم، كان خصما لعائلتي ترمب وكوشنر:
الوليد بن طلال هو صاحب الاستثمارات التي شملت Citigroup وذكرنا في الجزء الأول أنها كانت أكبر مستأجر في عقار 666 بالشارع الخامس في نيويورك، وفد خرجت منه Citigroup ولم تجدد العقد مع عائلة كوشنر التي اشترت العقار المنحوس، الأمر الذي زاد من ضائقتها المالية..
كما أن الوليد الذي أنقذ ترمب مرتين في عقارات فاشلة اشتراها المقاول دونالد ومنها ترمب بلازا في نيويورك، قد انقلب على ترمب حين اعلن الأخير عام 2015 سعيه الترشح عن الحزب الجمهوري للرئاسة، وجعل من شعارات حملته العنصرية، منع دخول المسلمين الى امريكا. فكتب بن طلال هذه التغريدة، ردا على دعوة ترمب، يقول له فيها:
"انت عار، ليس فقط على الحزب الجمهوري، بل على كل أمريكا.
إنسحب من السباق الرئاسي الامريكي، فأنت لن تفز ابدا."
فرد عليه ترمب بعد ساعات من اليوم نفسه 11 ديسمبر 2015 بتغريدة:
" المسطول الامير الوليد بن طلال يود أن يتحكم في سياسيينا الأمريكيين بأموال باباه (دادي). ولن تتمكن من ذلك حين افوز."
وبالفعل، كانت شماتة عائلة ترمب وكوشنر كبيرة فيما حدث للوليد بن طلال على يد ابن عمه الصغير، بعد أيام من زيارة كوشنر المفاجئة لصديقه في الرياض ولي العهد الجديد.
نوفمبر 2017: قطر تعود لعقارات كوشنر:
مالا يُدرك كله لايُترك جله.. وجد القطريون عقارا لعائلة كوشنر يحتاج تمويلا وقرضا ليس في نيويورك هذه المرة ولكن في شيكاغو، وبالفعل تقدمت شركة Apollo العالمية لقروض العقارات، التي تملك قطر نصيب الأسد في اموالها، بقرض عقاري لمبنى كوشنر هناك بلغت قيمته 184 مليون دولار، وبشروط ميسرة، وسط دهشة المحللين الماليين الذين وجدوا قيمة القرض ثلاثة أضعاف متوسط اغلب قروض شركة ابوللو!
وهو ما اعترض عليه لاحقا، المكتب الحكومي للاخلاقيات حين اعتبر الصفقة تعارضا في المصلحة، كما أثار مع كوشنر مشكلة أخرى هي تلقي عائلته قرضا آخر في ربيع نفس العام من مصرف Citibank بقيمة 325 مليون دولار بعد أيام من حضور مدير البنك مايكل كوريات إلى البيت الأبيض لاجتماع بشأن موضوع مختلف مع جارد كوشنر.




لكن محامي جارد يرد دائما على اتهامات الصحافة بأن مستشار الرئيس وزوجته إيفانكا لم تعد لهما سيطرة على استثماراتهما الخاصة بمجرد توليهما المنصب العام، وتم وضع ثروتهما المقدرة ب 800 مليون دولار في صندوق استثماري "اعمى" لا يعرفون كيف يّستثمر. لكن في الواقع، ام جارد كوشنر تعرفه وتديره لصالح ابنها، الذي رفض الحصول على مرتب من عمله في البيت الأبيض لصالح الوطن.
17 ديسمبر 2017: ارسل عدد من نواب الكونجرس الديمقراطيين خطابا إلى كوشنر يستفسرون عن الدول الأجنبية التي يتصل بها للحصول على استثمارات وقروض العقار 666 في نيويورك، وكذلك طبيعة مباحثاته مع السعوديين في زيارة اكتوبر الخاطفة للرياض. لكنه لم يلتفت إليهم.
كان القطريون قد كثّفوا من وساطاتهم في واشنطن وجماعات الضغط لإثارة الديمقراطيين ضد ممارسات وتحالف كوشنر مع السعوديين والاماراتيين، مستفيدين او نافخين في نار الديمقراطيين المحتجين على القصف السعودي الإماراتي للمدنيين في اليمن.
لكن رسميا، وحتى لايخسروا كوشنر، صرح قطريون لشبكة NBC الأمريكية أن مساعدين للمحقق الأمريكي مولر في ممارسات واتصالات ترمب طلبوا منهم في يناير وفبراير 2018 ان يشهدوا ضده بما لديهم من معلومات.. فرفضوا. 
في فبراير 2018 أكدت واشنطن بوست ان اجهزة الأمن القومي الأمريكية قررت تخفيض درجة السرية المسموحة لكوشنر من "سري للغاية" إلى "سري" فقط، لوجود دلائل على اتصالاته وحديثه بشكل يعرض الأمن القومي للخطر مع اجانب، ومنهم اماراتيون وصينيون. وكانت شركة اربتاج الصينية من بين التي حاولت الاستثمار في عقار عائلة كوشنر بالمثل.
لكن ترمب أعاد لزوج ابنته في مايو من نفس العام درجة السرية القصوى رغم اعتراضات تلك الأجهزة.
13 مارس 2018
ترمب يعزل كرس تلرسون من وزارةالخارجية، وبشكل فج..  ثم يرشح صديقه مدير المخابرات المركزية مايك بومبيو وزيرا للخارجية بعد شهر من فصل تلرسون.
19 مارس 2018
وصول محمد بن سلمان لأول زيارة رسمية للبيت الأبيض وليا للعهد وفي بداية جولة في أمريكا لأسبوعين مع حملة إعلامية ضخمة لتقديمه لامريكا بالشاب الليبرالي المصلح الجديد، المستثمر حتى في تطوير الطاقة البديلة.




أبريل 2018 تميم يعرف طريقه لواشنطن:
بعد ايام من نهاية جولة بن سلمان، جاء أمير قطر تميم بن حمد إلى واشنطن، بعد عملية تمهيد واستعدادات لكسب ود ترمب والدوائر السياسية في أمريكا.
فقد أنفقت قطر في الشهور السابقة بسخاء ملايين الدولارات لفتح الأبواب المغلقة. كان اهمها، التعاقد بالملايين مع أكبر شركة وساطة سياسية في المدينة وقتها وهي شركة Brian Ballard الذي كان أكبر جامع أموال لحملة انتخاب ترمب، وله تأثيره الكبير عليه، وبالتالي، تعاقد الأتراك بالمثل مع Ballard لصد هجوم حملات الشركات التي تعمل مع الإمارات والسعودية.
وهكذا، تم الترتيب لزيارة تميم بعد بن سلمان الذي نُقل ان ترمب حثه آنذاك على حل الأزمة مع قطر. وتم التحجج بأن المشكلة مع الإمارات وبالتالي رتب ترمب للقائين منفصلين، كان يُفترض للأول يوم 27 مارس ان يكون مع بن زايد، لكنه طلب تأجيل اللقاء إلى ما بعد لقاء ترمب مع تميم.. وهو اللقاء الذي عقده ترمب في 10 ابريل مع أمير قطر.
لكن رغم عدم إحراز تقدم في اي مصالحة، بدات قطر تحسن وضعها، فتعاقدت في هذه الزيارة على شراء صواريخ امريكية ب 300 مليون دولار وزار تميم البنتاجون حيث التقى بوزير الدفاع جيمس ماتيس الذي كان متعاطفا منذ بداية الأزمة مع القطريين، مقدرا مساهمتهم ولو الرمزية مع قوات المارينز التي كان ماتيس يقودها في دعم الثوار الذين اطاحوا بالقذافي عام 2011. لكن ماتيس اختلف لاحقا مع ترمب فعزله بالمثل في يناير 2019.
مايو 2018: قطر والعودة للعقار 666 لإصلاح الخطأ:
كشفت الصحافة الاقتصادية ان الاب تشارلز كوشنر قطع شوطا كبيرا في مفاوضات ناجحة للحصول على تمويل سخي جدا لتسديد القرض الضخم المستحق عليه لشراء عقار 666 بالشارع الخامس في نيويورك بقيمة ديون مليار وأربعمائة مليون دولار، كانت مستحقة في العام التالي، فما الصفقة؟
من بين استثمارات صندوق قطر السيادي العديدة في العقارات وشركات التمويل العقاري بامريكا النصيب الثاني في استثمارات شركة بروكفيلد للمتلكات. أما النصيب الأكبر فهو لشركة بروكفيلد لإدارة الاصول. بالتالي، تم استخدام الشركة الأكبر غير المرتبطة مباشرة باستثمار قطري لتعرض عرضا سخيا على الاب كوشنر.. الذي كان ثلث مساحة العقار المنحوس بدون ايجار والباقي المستأجر لا يكفي إلا لدفع نصف المستحقات الشهرية لخدمة الدين عليه. العرض هو دفع نحو مليار ومئة مليون دولار مقابل حق تأجير العقار واستخدامه لمدة 99 سنة، بعدها يعود حق تأجيره مع بقاء ملكيته لآل كوشنر.. هذا العرض السخي ظل على الطاولة في نيويورك، ولم يتم الدفع بعد.
يونيو 2018:
جارد كوشنر يزور قطر ويجتمع ومعه المبعوث الأمريكي جرينبلات مع أمير قطر لبحث تحسين وزيادة التعاون بين البلدين، وسبل دفع عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل.
أغسطس 2018 كوشنر الاب يقبض
تنتهي المفاوضات مع عائلة كوشنر وتدفع شركة بروكفيلد أكثر من مليار دولار عدا ونقدا ومقدما للأب كوشنر مقابل استخدام العقار 666 لتسع وتسعين سنة قادمة.
بالطبع رسميا، آل كوشنر وكذلك قطر ينفيان علاقة الأموال القطرية بشركة بروكفيلد الكبرى التي دَفعت. لكن هذا المبلغ أكبر من قيمة الايجار المتوقعة تجاريا بنحو 300 مليون دولار، فلماذا تخسر شركة بروكفيلد هكذا في العقار المنحوس؟
نوفمبر 2018:
تحصل شركة بروكفيلد على قرض حسن بقيمة 300 مليون دولار من شركة أبوللو للتمويل العقاري. نعم، هي ابوللو نفسها المملوك اغلب أسهمها لقطر، ودفعت من قبل، كما ذكرنا، 184مليون دولار قرضا سخيا لعقار تملكه عائلة كوشنر في شيكاغو.
لم تعد لدى عائلة كوشنر اي مشكلة مالية مع القطريين، وبمجئ بومبيو منذ أبريل 2018 وهو يطلب أيضا من السعوديين مصالحة قطر.
تبقى عقبة رفض الإمارات لذلك. ولكن حدثت عدة تطورات تبعد أجندة ابو ظبي عن الرياض بعض الشئ في رغبة المصالحة:
- الإمارات تركت السعودية في مستنقع اليمن، الذي زاد النقمة عليها.
- أكتوبر 2018 اغتيال جمال خاشقجي والضغط التركي القطري باستخدام الجريمة ضد بن سلمان.
-ثم تزعم بن زايد تحقيق اجندة كوشنر في السلام العربي مع إسرائيل والتطبيع الساخن بدون استرداد او ذكر لأراض فلسطينية، وهو مالم يقدر عليه بن سلمان في حياة والده.
- واخيرا، فوز بايدن بالرئاسة ليجدد الحاجة الماسة لدى السعودية لترتيب أوراقها مع إدارة بايدن المتوعدة لبن سلمان، لتوقف التحريض القطري، وبالتالي، تجددت مساعي الوساطة الكويتية التي لم تكن لتبدأ منذ أبريل الماضي بدون تسوية حسابات قطر مع آل ترمب وآل كوشنر، ولتعود قطر بالنسبة لما تبقى من أيام إدارة ترمب إلى معسكر الصقور ضد ايران، تاركة من لم يحضروا القمة بين خيار التوقيع على المصالحة او تفكك التحالف الذي تعب عليه لسنوات بن زايد، فاضطر ومن معه ان يجاري الخطوة إلى أن يقضي بايدن أمرا غير معروف بعد.


-مصادر:







يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 5 سبتمبر 2020

وائل قنديل يكتب: من بياع الخواتم لبياع الرافال... محرقة الصور




يا ست فيروز: هذا ليس "راجح"الحقيقي، القادم إلى الضيعة لكي يساهم في صناعة لحظات أفراحها، بتوزيع الخواتم على المحبين.
كما أنه ليس"راجح" الشبح الذي صنعه المختار في مخيلته وقدمه إلى أهل الضيعة، بوصفه الخطر الشرير، والشر الخطير، الذي يهدد سكونهم وأمنهم وسلامتهم، إن لم يحتشدوا خلف المختار مؤيدين ومصفقين وخانعين.
يا ست فيروز: هذا بياع الرافال، لا بياع الخواتم، هذا الشاب الفرنسي تاجر سلاح وتاجر موت وتاجر خراب، لا يفرق كثيرًا عن التاجر الأميركي العجوز الوقح، شريكه في حلب كل الضيع وامتطاء كل المخاتير.
هذا ماكرون وليس راجح يا ريما حتى تفتحين له منزلك وتستقبلينه بكل هذه الحفاوة وكل هذا السرور، وكأنه جاء يوزع الخبز والملح والمحبة، بالقسط، على كل سكان الضيعة، غير ناظر إلى الملة أو اللون أو العرق.
كما أنك لست حنجرة تافهة، نمت وترعرعت في مراعي سعيد عقل، المزروعة كرهًا للعروبة ولفلسطين، المروية بمياه التطبيع الملوثة"بكير" قبل أن يدشنوا الجسور الناقلة لبضائع وخدمات بوتيكات ثقافة السلام.
هذا يا ست ريما، ليس راجح، كما أنه ليس خالك المختار ، حتى تتركين له الفرصة للاستثمار السياسي في فنك وإبداعك وإشراقك داخل وجداننا وسطوعك في ذاتنا حتى صار جزءً من تكويننا..هذا صانع المخاتير المستبدين، والقيم على طغيانهم يحركه ويوجهه ويستعمله كيف يشاء.
هذا شخص ينتمي إلى ذلك المعسكر الذي يتقن فن صفعنا بالصور ، ويعرف كيف يقهرنا ويسحقنا ويهزمنا باللقطات شديدة الانفجار والتدمير في الوعي الأعمق، يجيئ إلى لبنان الكرامة والشعب العنيد، في الأوقات التي يختارها هو، لا يستأذن أهل الضيعة، ولا ينتظر دعوة من مخاتيرها، يذهب ويعود وكأنها ضيعته، يوزع فيها الثروة والسلطة، ذات اليمين وذات الشمال، ويلتقط الصور وهو يدرك أنه يحفر على جلودنا علامات وكلمات تسلطه علينا.
وقع صورة هذا الوغد الشاب وهو يقف في عقر دارك يا فيروز، علينا وعلى مشاعرنا، نحن محبيك وعارفي قيمتك والممتنين لغنائك النقي في الحفاظ على إنسانيتنا وعروبتنا ، يا حنجرتنا، ومئذنة مساجدنا وبرج كنائسنا، لا يقل قسوة وإهانة  عن وقع صورة الحذاء الصهيوني يضعه جندي الاحتلال فوق وجه شيخنا الفلسطيني الجليل المدافع عن أرضه وداره.


أوجعتنا بالقدر ذاته  صورته إذ يحتوي مغنية سعيد عقل على صدره، وكأنه الراعي جاء بالحماية وللجباية ، تمامًا كما أوجعتنا صور أطفال الإمارات يتسربلون بأعلام العدو، أو لقطات فحيح الغرام القذر بين خليفة الإماراتي، ومن قبله محمد سعود السعودي، ونتنياهو الإسرائيلي.
نعم، هي صورة الفرنسي المقاتل من أجل ضمان تفوق المستعمر الصهيوني واستعلائه على الذات العربية، في صحن دار تلك التي ربطت قلوبنا بواسطة خيوط من حرير صوتها المنساب من السماء بقبة الصخرة وساحات الأقصى وأبراج كنيسة المهد وكنائس القدس وفلسطين كلها، ليقول لنا إن العيون التي لمعت بالفرحة وهي تستقبله في بيروت، لم تعد عيونكم، بل هي عيون فرنسا، ويغيظنا باللقطات ولسان حاله يقول: انسوا تلك العيون التي كانت ترحل بكم إلى القدس كل يوم، تدور في أروقة المعابد، وتعانق الكنائس القديمة، و تمسح الحزن عن المساجد..فهذا ليس زمن القدس والمقدسات، بل زمن برج خليفة مضاءً بأعلام الاحتلال، هو زمن صفقات السلاح والنفط ونخاسة المواقف السياسية.
تأمرنا اللقطات الخادشة للكرامة الوطنية بأن نكون مثل محمد البرادعي، ننسى الماضي، ونتسول مكانًا في مستقبل يهندسه ويرسم حدوده المحتل..نتنازل عن الرواية الحقيقية لما جرى، ونبتدئ سردية جديدة للمسألة، لا يكون فيها الاستعمار استعمارًا، ولا يبقى العدو عدوًا ولا الحق حقًا، ولا قدسية لشئ أو لدم أو لتراب، ثم نجلس نرتشف كأسين من المؤانسة الحارة مع إيهود بارك، الذي قتل من العرب ما لم يصل إليه صهيوني قبله ولا بعده.

تلك هي صور واقعنا، كما يريدونه لنا، ويسعون إلى تثبيته، مطلوب منا أن ننحني أمامها ونسلم بأن هذا حالنا الراهن وفي المستقبل، وعلينا أن نرضخ، وصوت المستعمر القديم/الجديد يجلدنا بصوت عفيفي مطر وهو يصور  في ظلمة الزنزانة واحدة من"احتفاليات المومياء المتوحشة" ويقول:
 أرضك مفترق تتسع به أرض الأغيار،
وتعبره أمم وجيوش،
للأقوى وعبيد الأقوى ميراثٌ أنت لمن يرثون،
على كتفيك تكسرت الامواج تواريخ مجاعات
وطغاه منكسرين ومزهوين
بتدليس «الابهة البيزنطية.»



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 1 أغسطس 2020

عبد الحكيم حيدر يكتب: بلال فضل واللعب بذيلين




لن أقول إن بلال فضل (بنكاته) مع أحمد آدم، وترقيص حواجبه مع خروف الممثل هاني رمزي في برنامجه، مع فردة كاوتش (إبراهيم عيسى) التي كتب عليها (الاستبن) في الأستديو، مع استعانته بمجموعة من السواطير والشواكيش، مع حليفهم باسم يوسف، لن أقول إنهم كانوا الفرشة الناعمة لإزاحة محمد مرسي المنتخب الشرعي، ولكن المسألة كانت أكبر من ذلك بكثير.
هناك من حشد بالملايين وشركات السياحة (العاطلة عن العمل) في منتجعاتها السياحية، بعدما أملوا عليهم أن مرسي وأعوانه سيكونون أسّ البلاء عليكم، وساويرس اشترى نصف المجموعات الثورية والأدبية والفكرية والتنظيرية والصحافية، من مراكزها ومقاهيها ومنتدياتها بفلوسه وجوائزه وعملائه، وموّل حزبين على الأقل، وجعلهم في صفوف المعارضة، وحوّل ثائرات أسياخ وثائرين، لا يشق لهم غبار، في يوم وليلة، إلى مهاجمات ومهاجمين على مرسي ليل نهار (ريم ماجد وخالد تليمة وأحمد دومة وأماني الخياط)، من أسند إليه عملاً بالقطعة، أو من تم تعيينه، وهذه عينة بسيطة لقناة واحدة، حتى إن صديق بلال الحميم في دستوره الأول، حمدي عبدالرحيم، كان له نصيب، وآخرون يصعب حصرهم تنقلوا من طقس إلى آخر، من دون كلل أو ملل، وهذه جهود رجل أعمال واحد..
لم ننتقل إلى باقي رجال الأعمال وقنواتهم، أو القنوات العربية الصديقة، ولا إلى القضاء الشامخ، ولا إلى ثلاثة وزراء من وزراء الداخلية (منصور العيسوي ومحمد إبراهيم وأحمد جمال الدين) كانت أياديهم مع كل أيادي ثوار 6 إبريل مع الاشتراكيين الثوريين، مع كل نوادي المجتمع المدني، مع أولاد عبد الناصر وأحفاده مع التجمع مع "الحزب الوطني" مع "الوفد" مع عمرو موسى وحمدين صباحي، مع نكات بلال فضل مع زغاريد يسرا وفيفي عبده وليلى علوي مع كوادر الحزب الوطني مع (تسلم الأيادي) ونقابة المحامين (العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم)، كلهم معا في حزمة واحدة (ودع الأجهزة الأمنية على جنب)..
وعلى الرغم من ذلك نقول إن الوحيد من هذه الشبيبة، وتعدّى الأربعين بقليل، وفضّل المنفى هرباً، خوفاً على دماغه وموهبته، وهو موهوب حقاً، هو بلال فضل.
وإن كنا نقول إن الموهبة تكفي صاحبها أن يلعب سياسة بذيل واحد، فما بال بلال، اليوم، يحاول بعدما دفع الثمن، على الأقل غربة، أن يلعبها بذيلين؟
في مقاله (تجريم عبد الفتاح السيسي) يقول عن السيسي إنه (يستغل خطايا وجرائم الإخوان)، فأي جريمة يا سيد بلال؟ إلا إنْ كانت جريمة الاتحادية التي استُشهد فيها تسعة من شباب الإخوان في ليلة (النستون يا معفنين) التي كتبت فيها زبدة ضحكاتك ونكاتك؟
أما عن "سيئ الذكر"، كما تقول عنه الآن محمد مرسي (من قتل مئات المتظاهرين)، فهات لي قائمة بهذه المئات، يا أخي، لكي نقارنها بمذابح السيسي التي كانت هينة ورقيقة جداً إلى درجة أنك تساوي بين الاثنين بسهولة مرنة.

يا بلال سترجع، لا تخف أبداً على (خالتك فرنسا) وبرامجك، وما حققته على الشاشة الصغيرة والكبيرة، فالنظام يسامح أبناءه، وأنت، يا أخي، موهوب، وتستطيع أن تلعب بذيل واحد في مساحة صغيرة جدا، فلا تكلف نفسك عناء اللعب بذيلين.
لا تخف، ستعود، قريباً، بكامل ذنوبك، والسلطة التي لم تتغير، تسامح الأبناء الضاحكين، لأنها لا تأخذهم على محمل الجد (ومحمود السعدني الذي يعد قدوتك عاد وصهلل ثانية، وأنت من تلاميذه أو محبيه).
الباب موارب دائماً يا بلال، وأنت سيد العارفين.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 14 يوليو 2020

أروى صالح.. "المبتسرون" في زمن التحرش والهزيمة





عن العربي الجديد

كلّما تفجّر نقاش التحرش في المجتمع الثقافي المصري، أتذكّر الكاتبة أروى صالح (1951 - 1997)، وكتابها "المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية" (1996)، وفيه سردت حكاية جيلها الذي صنعته، أو بالأحرى دمّرته هزيمة عام 1967، والتي يُطلق عليها "النكسة".
كانت أروى أحد الموهوبين في جيلها الذي يّوصف بأنه جيل الحركة الطلابية في السبعينيات، و"المبتسرون" شهادة مهمّة على هذا الجيل وعلى الوسط الثقافي، واليسار، والنخبة، وأظن أنه لا زال صالحاً للاستدلال في الوقت الحالي، خصوصاّ أن هذا الجيل لا زال يحتل حيزاً كبيراً في ما يمكن أن نسميه "النخبة الثقافية" في مصر، سواء في الانتاج الأدبي، أو المواقف، أو الفضائح.
في "المبتسرون"، فصلٌ مهم بعنوان "المثقف عاشقاً"، وفي العنوان رمزية تشير إلى ما أسمته أروى صالح "النضال على السرير"، وهي تفضح فيه أساليب مثقفين كبار في الإيقاع بضحاياهن من خلال الوعود والكلام المعسول، ويؤكّد عدد من أصدقائها الذين اطلعوا على نسخة الكتاب الأولى قبل النشر، أنه كان يضمّ أسماء شخصيات معروفة، بعضهم رحلوا وآخرون كانوا أحياء وقتها، وسردُ لوقائع تعرّضت إليها أروى شخصياً، لكن تمّ حذفها قبل النشر حتى لا يتعرض الكتاب إلى المنع، أو لا يتمّ مهاجمته بدعوى أنه يشوّه الأشخاص.
وهي تقول في هذا الفصل الكاشف: "لا شيء يعدل تهافت البرجوازية على الجنس قدر عجزها عن الاستمتاع به"، وتقول: "إن المثقف في علاقته بالمرأة يسلك كبرجوازي كبير، أيّ كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة".
قدّمت شهادة مهمة على اليسار والوسط الثقافي في مصر السبعينيات
أطلقت أروى صالح سهاماّ كثيرة على المثقفين، وانتقدتهم بصراحةِ أحد أفراد المعبد الذي قرّر أن يفضح ممارسات الجميع، فكتبت: "يكفي أن تكون كاتباً، أو أن يتمّ تعميدك بهذه الصفة، لتحظى بمكانة مرموقة تُصبح قيمة بذاتها تمارس إرهاباً على الآخرين الذين لا يحق لهم أن يحكموا على ما تكتب، بل عليهم أن يشتغلوا مفسرين له، ودعاة متحمسين ملزمين بالدفاع عنه، ذلك أن الكتابة تنتمي لصفوة الصفوة المبدعين الذين يُحددون الاتجاه، والعقول التي توجه المنفذين".
وكتب الشاعر المصري عبد المنعم رمضان في مقال عنها: "كانت الأقوال المتناثرة عن أروى تتضارب، وترسم لها أكثر من صورة، صورة نضالها، وصورة ثقافتها، وصورة أزواجها، ثم صورة كبيرة لخصوماتها وانتحاراتها الفاشلة؛ كانت قمراً على قمر عند البعض، وطيناً تحت طين عند آخرين، طهارة كاملة عند البعض، ودنساً كاملاً عند آخرين".
ألقت أروى بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997، لتموت منتحرة بعد عدّة محاولات فاشلة للانتحار، وقد كتبت بنفسها في كتابها الذي يجمع بين الفصحى والعامية المصرية: "أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت بيبقى جزء لا يتجزأ من الحياة".
الصورة
اجتهد كثيرون لتفسير، أو تبرير أسباب انتحار صالح، والأرجح أن عدم قدرتها على مسايرة الواقع كان سبباً مباشراً لانهزامها في مواجهته، وقرارها بالمغادرة، ومن أصدق ما كتب في التفسير ما قالته هي نفسها: "رابطتي الأكثر حقيقية بالواقع، تبقى الإيمان الصلب بأجمل ما أنتجه البشر وهم يحاولون اكتشاف حلمهم وصنعه نقياً، ناصعاً، ومبرّأ من وساخة هؤلاء البشر أنفسهم. والذين كنت عاجزة في العلاقة المباشرة معهم عن تفسير لغزهم، فضلاً عن التعامل معهم، فاقدة أبسط روابط الثقة بهم، وكأن الواقع مصرّ على السخرية من إيماني الحصين في قلاعه الخاصة، الحقيقية جداً رغم كل شئ، والتي كنت أجري لأحتمي بأحضانها من قساوته كلما تعضني".
وكتبت ضمن ما يمكن اعتباره من الأسباب: "في ذلك العالم الوهميّ تنبت أرض لكل أنواع العجائب، وفيها يمكن أن يستحيل الأقزام فحولاً، وأن تولد المآسي الوضيعة من مهازل رخيصة، وأن تُستغل التضحيات النبيلة في إرضاء نزوات مريضة، وأن تنشأ صداقات حميمة، بل وعلاقات حب، بين أناس لا يجدون سبيلاً حقيقياً واحداً للتعرف على بعضهم البعض، وأن تكتسب أية خزعبلات لخيال مهووس قوة اليقين، وأن تصنع الأحداث الهامة صدفاً بعضها طريف، والبعض الآخر بذيء. كل ذلك كان ممكناً وأكثر ما دام يحدث في واقع مصطنع خارج كل واقع، ومن ثم فهو أكثر تشوهاً من أي واقع".
وقد وصفتها الكاتبة والناقدة المصرية أمينة النقاش، قائلة: "كانت أروى فتاة دقيقة الحجم، رقيقة الملامح، وسيمة الروح، ذات وجه طفولي وصوت خفيض، لكنه مفعم بالحماس الذي يبدو وكأنه ثقة بالنفس. تمتلك حيوية عقلية ساهمت ثقافتها المتنوعة وذكاؤها اللماح في شحذها وتجددها، وأمدتها بحضور آخاذ، مما جعلها دوماً نجمة السهرات بلا منازع".
ألقت بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997
لكن فساد الوسط الثقافي لم يكن السبب الوحيد لما وصلت إليه أروى، فللهزيمة أثر واضح في حياتها، وحياة كلّ جيلها، وربما لا زالت آثار الهزيمة ماثلة في العقل الثقافي الجمعي المصري والعربي حتى الآن.
تقول أروى في "المبتسرون": "عندما تحوّل زمن عبد الناصر إلى ماض ضاعت معالمه، تُهنا! ولم نجد ما نتوكأ عليه في المتاهة سوى الحنين. تعرّي وعينا التاريخي وهو يُواجه حاضراً لا يسير وفق نبؤاته الثورية، فأخذنا نولول مع النادبين على زمن الانهيار"، وتضيف: "اليوم أصبح مُبرر وجود القضية، أي قضية، هو تأكيد ذواتنا التي تمددت كثيراً في الفراغ"، وقد تنبأت بأنه "سينتهى الحال بجموع الناصريين واليساريين على حجر إسرائيل".
وفي محاولة لتحليل ما جرى، تسرد صالح: "الهزيمة رشقت الأسئلة بلا رحمة في قلب هذا الحلم، حينها بدونا كشعب يُحاول بعد طول نسيان أن يستعيد قدرته على التفكير، وتركه النظام الذي انكسرت هيبته الغشوم بالهزيمة، يلهو بهذه اللعبة الخطرة إلى حين، واندفع المثقفون، كل الفئات المتعلمة، يُعيدون فتح كل الملفات المحرّمة، وتجرّأ المبدعون على مناورة الرقيب، يقولون كلاماً خطيراً تماماً بقدر ما كانت تستقبله تربة متعطشة تبحث عن طرق جديدة تسلكها، عن إلهام لشعب لم يكن قد استولى عليه اليأس بعد. لهذا كان زمن الهزيمة هو الأكثر حيوية على كل مستوى يمكن تخيله في كل تاريخ نظام ثورة يوليو، حيوية لم يعرفها الشعب لا قبلها ولا بعد النصر، وفي هذا الزمن بالذات اندلعت الحركة الطلابية".
وتواصل: "إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الأصنام من كل نوع: ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن (الكل باطل) احتياج لا ينتهي عندهم".
ولم تتجاهل أروى رصد ما جرى لجيلها بعد الهزيمة، فقالت: "البحث عن الأمان- المادي والمعنوي أيضاً- انتهي بالبعض من البرجوازيين الصغار من المناضلين السابقين إلى نهايات لم يحلم بها مثقفو الستينيات، فالعمل في المقاولات مثلاً، بل والانتقال إلى أحزاب فاشستية سافرة لكنها تتضمن صعوداً سريعاً وقبولاً اجتماعياً، ناهيك عن المؤسسات الصحفية الخليجية التي امتصت كل من له ظل موهبة في عمل ثقافي، والذي كان أثره الوحيد الحقيقي هو تحويلهم إلى باعة ثقافة على المقاس البترولي".
كانت الصدمة ماثلة في كلّ ما كتبته صالح، ومنه: "لقد تهاوت الحدود التي كانت واضحة حتى الأمس بين الحقيقة والزور، والخصوم والحلفاء، وأيضاً بين الصواب والخطأ"، لكنها في الوقت ذاته لا تنكر الخطأ أو تدعي الذكاء، كيف ذلك "وقد استحق المغفلون أن يمتطيهم الأفاقون".
في أعقاب انكسار حلم تحقّق مطالب ثورة 25 يناير، تذكّرت ما كتبته أروى صالح في "المبتسرون" عن جيلها، جيل النكسة، لأنه يمكن أن ينطبق بشكل ما على جيلي أيضاً، أو على الغالبية فيه، ومنه: "خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة والإذعان لقوة الأمر الواقع، أو حتى أعلن الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار في طريق الندامة، واعتزال الحياة، والمرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة".
وتضيف: "دهمتنا نحن أيضاً حجلة الانتقال من زمن إلى زمن. كنا نظنه زمننا، وأننا سنغيره، ولكن لم نتبين مواقع أقدامنا بما فيه الكفاية، فقد اتضح مرة أخرى أن زمن قادة الشعب الحقيقيين لم يحن بعد"، لكن دائماً "الأبطال لا يظهرون في غيبة الملاحم".


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 10 يونيو 2020

النقد الفني... مهنة مستباحة


نشرت أولا في مجلة الكويت

يصر معظم كتاب السينما العرب في الداخل والخارج، حين نسألهم نحن المحررين عن الأفلام التي شاهدناها معهم أو الظواهر التي نرصدها من دونهم، على أن نُسبقَ أسماءهم بلقب الناقد، وبعضهم يحرص أن يكون لقبه متبوعا بلفظة «الكبير» رغم أن الكثير منهم لا يستحق أكثر من لقب «الناقم».

بات النقد السينمائي والنقد الفني عموماً مباحا متاحا لكل من شاهد فيلما سينمائيا ووجد من ينشر له في زاوية أو عمود وما أكثر من ينشرون حاليا في ظل الهجمة الإلكترونية القائمة التي انتهت بنا إلى نقاد لا نعرفهم إلا عبر مدوناتهم أو صفحات الفيس بوك دون أن يخبرنا أحدهم بصلاحياته للحديث.
شخصيا حاول البعض أن يصفوني بالناقد رغم حرصي الدائم على رفض اللقب الوثير الذي يستعذبه كثيرون من زملاء المهنة وبات معروفا عني جملة مأثورة يتناقلها عني الأصدقاء نصها «الله يحرق النقاد» وسببها كفري التام بالنقاد العرب الذين لا يملك معظمهم أيا من أساسيات النقد التي تؤهلهم أصلا للكتابة ناهيك عن التحليل والنقد.
كيف أتقبل أن زميلا أو صديقا في نهاية العقد الثاني من عمره بات ناقدا محترفا وكيف يمكنني قبول تحول صحفي فشل في ممارسة المهنة إلى ناقد باعتباره النقد أسهل كثيرا من الصحافة فهو لا يحتاج في رأي أشباه النقاد إلا مشاهدة الأفلام ثم جلسة هادئة وكوب شاي لزوم تدبيج مطولة لا يمكن لعاقل أن يكملها لعدم ترابط معانيها حول عمل فني لا يعرف الكاتب عنه إلا ما شاهده على الشاشة كما لا يعرف عن السينما إلا عدة أفلام شاهدها وعدداً أكبر من المقالات التي كتبها غيره.
عشت كثيرا في جدل عميق مع زملاء وأصدقاء حول أحقية فلان أو علان في إطلاق لقب الناقد عليه وكنت دائما أحاول البحث عن سند لمن يصنف نفسه ناقدا دون وجه حق، كم فيلما شاهد في حياته؟ وهل درس النقد الفني؟ بمعنى أنه يعرف النظريات الفنية والاتجاهات النقدية وكم من الكتب والدراسات النقدية قرأ في حياته طالت أو قصرت وبأي لغات؟.
وهل يدرك مدعي النقد الفروق بين الأجيال السينمائية وتغير التقنيات في الصناعة من جيل لآخر وكم مهرجانا حضر؟ وكم ندوة ناقش فيها صناع السينما؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي أعتقد أن الناقد لابد أن يكون لديه منها حصيلة واسعة من الأجوبة قبل أن نطلق عليه لقب «ناقد».
الجدل كان ينتهي دائماً بأني ناقم على النقاد أو أنني لا أعترف بالنقد كمهنة رغم أن هذا غير حقيقي على الإطلاق لأني أقرأ لنقاد كبار كثيرين وأحرص على قراءتهم حتى أتعلم وأفهم بينهم مصريون وعرب وأجانب كونت منهم قائمة أضيف إليها كل فترة اسما جديدا وأحذف أيضا كل فترة أسماء تسقط من وجهة نظري في هاوية المصالح أو تعمد إلى بيع قلمها وهؤلاء باتت كثرتهم أمرا محزنا حقا.
تبقى الأزمة في تعدد المنابر الإعلامية التي تريد كتابات لملء فراغات وتسويد صفحات دون النظر إلى قيمة ما يكتب أو مستوى ما يقدم فيه من تعليقات وملاحظات وعلاقته بالنقد وكونه ينتمي إلى الانطباعات أم إلى الانتقادات التي لا تكون عادة مبنية على نظريات أو أسس نقدية.
وبينما نعرف في العالم العربي معاهد متخصصة للنقد الفني وجمعيات للنقاد تتفاوت في قوتها وعدد أعضائها من بلد لأخر إلا أننا لا نمتلك تعريفا محددا للناقد الفني إجمالا قبل أن نتحول إلى تصنيف النقاد في المجالات المختلفة حيث إننا نعرف نقاد السينما بشكل واسع بينما لا نعرف تقريبا نقادا للتليفزيون وينحصر عدد نقاد الموسيقى والغناء في فئة محدودة جدا تجعل الأمر مختلطا بين تلك المجالات المتباينة.
حالة الخلط تلك ألقت بنا في هوة سحيقة من التضارب النقدي فالناقد السينمائي مثلا يكتب في التليفزيون والموسيقى والمسرح وربما في الفنون التشكيلية وهو أمر لم يعرفه أي بلد في العالم حيث ظل التصنيف محددا ومتباينا بين كل مجال وكان لكل مجال جمعية خاصة أو تصنيف داخل جمعية عامة إلا لدى العرب فكل يكتب ما يشاء وقتما يشاء.
بعيدا عن التصنيفات الواضحة التي لا يمكن إغفال دورها والنقاد الذين يظهرون يوميا دون رقيب أو حسيب فإننا نعيش فوضى نقدية حتى على مستوى النقاد المعتمدين أو المفروضين علينا قسرا دون أن نختارهم أو حتى نتمكن من إبداء آرائنا فيما يكتبون، فبينما الناقد غير الصحفي إلا أن رؤساء الصفحات الفنية في كل الصحف العربية باتوا نقادا رغما عن القراء لأن لديهم القدرة على اقتطاع أجزاء من تلك الصفحات التي يشرفون عليها لأقلامهم على حساب الخبر والحوار والتقرير.
المهم أن هؤلاء الزملاء ترقى بعضهم لمنصب الإشراف على الصفحات بحكم السن أو الأقدمية وأحيانا الصدفة أو حتى المجاملة لا يجيد بعضهم الكتابة أصلا ولا يعرف الفارق بين المقال والعمود والرؤية النقدية وتحليل العمل الفني ورغم ذلك فإننا مجبرون على قراءة ما يسطرون مهما كان غثا والسكوت على أفكارهم غير المنطقية أو المرفوضة أحيانا مهما كانت براقة.
لكن هؤلاء الزملاء الأعزاء أفضل كثيرا من نقاد محترفين باعوا القلم لمن يكتب وعطلوا ضمائرهم مقابل حفنة من المال أو مشاركة في مهرجان أو الإشراف على مسابقة في احتفالية حتى أن بعضهم يعمل لدى شركات الإنتاج بمقابل مادي محدد سواء لرسم الخطط الإنتاجية أو اختيار النصوص الجديدة أو حتى يحصلون على مقابل مالي دون عمل لمجرد تحييد أقلامهم كونهم يمتلكون مساحات في صحف ومجلات يمكنهم فيها التقريع أو الهجوم على الأعمال الفنية دون سند نقدي.
ورغم أن الكثير من القراء يتجاهلون تماما المقالات النقدية بعكس المتخصصين الذين تلفت نظرهم المقالات قبل الأخبار والتقارير بما يعني أن الناقد يكتب لحفنة من القراء وأن ما يكتبه لا تأثير له على العامة ممن يسعى خلفهم المنتجون بحثا عن الإيرادات ونسب المشاهدة إلا أن قلم الناقد مازال له نفس التأثير النفسي في عقل المنتج الذي لا يهمه أن يقدم عملا جيدا بقدر ما يهمه أن يشتري أقلام النقاد حتى لا يهاجمون عمله.
بقي أن نشير إلى اختفاء المطبوعات النقدية المتخصصة في العالم العربي واحدة تلو الأخرى بما يؤكد عدم الإقبال عليها من القراء بينما تصر الصحف على وجود مقالات نقدية في صفحاتها الفنية يبقى بعضها أحيانا لمجرد ملء المساحة بينما كانت الصحف فيما مضى تباع باسم الكاتب أو الناقد وحده.
وتسبب اختفاء المطبوعات النقدية المتخصصة وزيادة عدد النقاد «عاطلا وباطلا» إلى تحول بعضهم إلى التدوين، فعرفنا أخيرا نقاد المدونات الذين لا نعرف لهم نشاطا نقديا إلا عبر مدوناتهم الإلكترونية التي تحولت في أوقات كثيرة إلى شتائم متبادلة بينهم لتصفية خلافات شخصية أو الخلاف على أموال يتلقونها من جهات يتصارعون عليها أو لمجرد محاولة كل منهم إثبات أنه الأجدر وأن الآخرين مجرد هواة مقارنة به.
رفضنا طويلاً ومازلنا نرفض أن يتحول النقد إلى مهنة من لا مهنة له.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 17 مايو 2020

نحن ضحايا كورونا




 يتجاهل كثيرون الحقائق المعلنة حول فيروس كورونا، ويسهل على المتابع رصد أوجه مختلفة لهذا السلوك، فالبعض ينساقون خلف الدعاية الحكومية التي تروج الأكاذيب، أو تزيف الحقيقة؛ لا يمكن قصر هذا على بلد محد، أو على منطقة جغرافية، فجميع الحكومات تمتهن الكذب.
 يلجأ أخرون إلى خداع أنفسهم بأن الفيروس ليس خطيرا، أو أنه مؤامرة يقف خلفها عدو مزعوم يتهمه بكل مشكلاته، وتبعات فشله، أو فشل حكامه.
بداية، يجب أن ندرك أن الإصابات ليست مشكلة ⁧‫فيروس كورونا‬⁩ الأهم؛ هي مشكلة كبيرة بالطبع، إذ ربما سيصاب غالبية البشر بالفيروس، لكن القسم الأكبر من المصابين يتعافون، حتى قبل التوصل إلى علاج أو لقاح للفيروس، وغالبية المصابين لا تظهر عليهم أعراض خطيرة، أو لا تظهر عليهم أعراض على الإطلاق.
وهناك صنف ثالث من البشر قرروا الاستسلام للواقع، رغم أن التداعيات على الأغلب، ستكون أكثر خطورة من نتائج انتشار الفيروس المباشرة.
  أبرز تداعيات كورونا حاليا، هي عدد الوفيات. الأعداد المعلنة للوفيات حول العالم غير دقيقة، لكنها تظل كبيرة.
هناك آلاف الوفيات الأخرى من بين المصابين لكنها غير مسجلة لأسباب مختلفة، بعض الدول تخفي الأرقام الحقيقية، ودول أخرى تتجاهل انتشار الفيروس، وبالتالي عدد الوفيات، وكثير من الدول ليست لديها القدرة على اكتشاف المرض، ولا يمكنها الوصول إلى الضحايا، فضلا عن حصرهم والكشف عنهم.
في ‏13 مارس/ آذار، كان عدد الوفيات المسجلة عالميا 5000 وفاة، وفي ‏الأول من أبريل/نيسان قفز الرقم إلى 50 ألف وفاة، ثم في ‏9 أبريل، بات عدد الوفيات 100 ألف، وتضاعف الرقم في ‏24 أبريل، ثم بلغ 300 ألف في ‏13 مايو/أيار.
  هناك أيضا آلاف الوفيات من غير المصابين، وبعضهم ماتوا بسبب عدم الإسراع إلى إنقاذهم، أو عدم قدرتهم على مراجعة المستشفيات، أو عدم توفر الدواء، سواء بسبب الضغط الشديد على القطاع الصحي، أو إجراءات العزل المفروضة.
‫ربما نكتشف بعد انقشاع الأزمة وفاة عشرات الآلاف من البشر لأسباب أخرى، مثل الجوع، أو العطش، أو البرد، أو ارتفاع درجة الحرارة، وخصوصا في البلاد الفقيرة، وفي مجتمعات النازحين واللاجئين المنتشرة حول العالم.‬
لاشك أن هناك أخرين قتلتهم الضغوط النفسية التي تعرضوا لها بسبب انتشار كورونا، بعضهم فقد مصدر رزقه، وأخريم لم يتمكنوا من تحمل الرعب المنتشر عالميا، وتلك أيضا من التداعيات التي لا يمكن حصر ضحاياها حاليا.‬
  خطر كورونا لازال كامنا، ونحن جميعا ضحايا محتملون، وسيحتاج العالم إلى سنوات للتعافي، كما ستتغير كثير من الأمور



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 31 مارس 2020

مخطط "طائفة الـ1%" لإستعباد البشر... فيروس كورونا مثالا





ديفيد آيك (David Vaughan Icke) هو كاتب إنجليزي ومتحدث معروف، يوصف بأنه أحد أباء فضح مخطط السيطرة على العالم، والتي يتهم بسببها بأنه مروج لنظرية المؤامرة، خصوصا من الرأسمالية العالمية، والتي استغلت اتهامه لليهود بمحاولة فرض هيمنتهم على النظام الاقتصادي العالمي في التشكيك في أراءه وترويج أنه عنصري.
في هذا الفيديو عن انتشار فيروس كورونا، يرى آيك أن الأزمة مصنوعة، أو على أقل تقدير، يتم استغلالها في المخطط المعد مسبقا،  من خلال من يطلق عليهم اسم (طائفة الـ1%) لفرض نظام استبدادي على جميع البشر باستخدام التكنولوجيا، وهو يحلل وفق وجهة نظره تلك كثير من الموضوعات الرائجة عبر الإنترنت، معتبرا أنها جميعا معدة بهدف جعل البشر يشعرون بالرعب، وبالتالي يقبلون بقرارات (طائفة الـ1%) التي ترغب في استعبادهم.


يمكنك أيضا تحميل نسخة كاملة باللغة العربية من كتابه الشهير السر الأكبر

شاهد أيضا:






يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الخميس، 16 يناير 2020

تنمر طالبة الجامعة الخاصة





 حين كنا صغاراً، كان الأهل يشجعوننا للتميز في دراستنا حتى نتمكن من الالتحاق بكلية جيدة في جامعة مهمة، على اعتبار أنه السبيل إلى مستقبل أفضل، ولا شك في أن كل الآباء والأمهات يحلمون أن يعيش أبناؤهم ظروفاً أفضل من واقعهم. رغم تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن حرص الأهل على نيل أبنائهم تعليماً متميزاً ما زال قائماً، وفي ظل تدني مستوى وجودة التعليم في المدارس والجامعات الحكومية، زاد انتشار التعليم الخاص، إذ تدفع العائلات المال مقابل أن يلتحق الأبناء بكليات أفضل، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن التعليم الخاص أفضل. قبل أيام، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، تدوينة لطالبة جامعية جاء فيها ما يمكن اعتباره واقعة تنمر مكتملة الأركان، إذ إنها اعتبرت نفسها أفضل من عشرات الآلاف من أقرانها لأنها تدرس في جامعة خاصة، معتبرة أن طلاب الجامعات الحكومية هم من "طبقات الشعب الجاهل المتخلف"، على حد قولها. خلطت الفتاة في تدوينتها بين التنمر الذي هو ادعاء الأفضلية بأسلوب يشمل تحقير الآخرين، وبين النرجسية التي هي شعور داخلي بالأفضلية، ما يشي بجهل ليس مستغرباً على غالبية المنخرطين في التعليم المصري الذي بات خارج مؤشرات جودة التعليم العالمية من فرط السوء، ولا فارق في هذا بين الحكومي والخاص. أثارت التدوينة سجالات طويلة عبر مواقع التواصل، وقوبل تنمر طالبة الجامعة الخاصة بتنمر من طلاب في جامعات أجنبية، فضلاً عن استنكار آلاف من طلاب الجامعات الحكومية الذين ردد بعضهم أن الجامعات الخاصة ليست إلا وسيلة لمنح أبناء الأثرياء شهادات لا يستحقونها. لاحقاً، استضاف أحد البرامج التلفزيونية الطالبة لاستعراض رأيها، فقالت إنها فوجئت بردّات فعل وشتائم لم تخطر ببالها عندما كتبت التدوينة القصيرة. ولما سألها مقدم البرنامج عن اسم الجامعة التي ترتادها، كانت المفاجأة الأكبر، فجامعتها الخاصة ليست من بين الأفضل في مصر، ويحجم كثيرون عن ارتيادها كون مستواها العلمي لا يختلف عن الجامعات الحكومية، فضلاً عن أن الإقبال على خريجيها في سوق العمل ليس كبيراً. زادت حدة الانتقادات للفتاة حين كشفت عن اسم جامعتها، ووجه آخرون سهام النقد إلى الجامعة وخريجيها، في حين ظل النقاش هامشياً حول أسباب تدني التعليم في مصر، وأهمية العمل على استعادته مكانته السابقة، ودور الطلاب في الدفع باتجاه رفع مستوى المدارس والجامعات، الحكومية والخاصة على حد سواء. وكان من المثير للأسى لجوء بعضهم إلى تحقير حرص الأهل على تعليم أبنائهم استناداً إلى نجاح أفراد غير متعلمين.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 20 ديسمبر 2019

عن الزوجة المصرية


 في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول، انتحرت سيدة في العقد الرابع من عمرها في محافظة المنوفية بدلتا نيل مصر، عبر تناول عقار قاتل، وكان السبب المعلن هو إصابتها بصدمة عقب علمها بأن زوجها المغترب تزوج من سيدة أخرى.
 جلست أفكر وقتها، كيف تقرر سيدة عاقلة الانتحار لأن زوجها تزوج عليها؟ لماذا لم تطالب بالطلاق الذي بات القانون يتيحه لها في حال رفضت أن تصبح زوجة ثانية؟ وما الفائدة من قتل نفسها؟ تذكرت أيضا وقائع سابقة قامت فيها زوجات بقتل الزوج انتقاما، ثم خطر ببالي أن لديها أطفالاً، وبدأ عقلي في استعراض التداعيات الاجتماعية والنفسية التي سيعيشونها بعد انتحار أمهم؟ وموقفهم من أبيهم؟ وهل سيعتبرونه متهماً، أم يلتمسون له العذر في الزواج من غير أمهم. قبل بضعة أيام طالبت السفارة المصرية في الدوحة، عبر صفحتها الرسمية في موقع "فيسبوك"، اثنين من أفراد الجالية المصرية المقيمين في قطر، بالحضور إلى مقرها لاستلام وثائق زواج، وهو إجراء طبيعي ومتكرر. لكن غير الطبيعي في الواقعة كان نشر صفحة السفارة الرسمية لأسماء الزوجتين وجنسيتيهما، والتي كشفت أنهما يحملان جنسية إحدى البلاد الآسيوية. كان يمكن أن تمر الواقعة دون اهتمام يذكر باعتبارها شأناً يهم اثنين من المغتربين، لكن التدوينة التي جرى حذفها لاحقاً، شهدت اهتماماً واسعاً، إذ بلغ عدد التعليقات عليها نحو ألفي تعليق، وهو أمر غير متكرر في أي تدوينة على صفحة السفارة التي تخدم نحو 200 ألف مصري في قطر. عدد كبير من التعليقات استنكر قيام السفارة بنشر معلومات شخصية لمواطنين عبر صفحتها الرسمية، وطالبها البعض باعتماد صيغة تواصل بديلة، وربما كان هذا سبب حذف التدوينة عقب ما أحدثته من صخب، كما اعتبر بعض المعلقين ما فعلته السفارة فضيحة للشخصين، على اعتبار أنها كشفت أمر زواجهما في حين يمكن أن يكون أحدهما، أو كلاهما، متزوجاً في بلده، ولا تعلم زوجته عن زواجه الجديد. واعتمدت بعض التعليقات هذه الفرضية، وقام أصحابها، بعضهم ساخراً والبعض بجدية، بتحريض الزوجتين المصريتين على معاقبة الرجلين، وغالبية هؤلاء بطبيعة الحال كن من السيدات، في حين لجأ كثير من الرجال إلى صيغ الرثاء للزوجين، مذكرين بوقائع قتل زوجات مصريات لأزواجهن لنفس السبب. ولم يغب عن التعليقات عدد من الألفاظ العنصرية، وأشكال من التمييز ضد الزوجتين الآسيويتين، كما اتهمهما البعض بخطف الرجلين من عائلتيهما. وبرز جدال واسع بين المعلقين الذين عدّد بعضهم مزايا الزوجة المصرية المخلصة المتفانية، ليتهمها آخرون بأنها كسول ونكدية.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 24 نوفمبر 2019

عن شباب العائلة



عندما تفرض عليك الظروف الابتعاد عن العائلة لفترات طويلة، فإنك تكتشف بعد فترة عدم قدرتك على فهم تصرفات أفراد من عائلتك، وتفسير هذا قد يكون مرده إلى تغير طريقة تفكيرك، أو تغير طريقة تفكير، أو أعمار أفراد العائلة، وعادة كلاهما معاً. لن يكون هذا غريباً في حال كنت تناقش مشكلة شخص آخر، أو تقرأ تجربته الشخصية، لكن عندما يكون الأمر خاصاً بك، وبعائلتك، فلا شك أن تفسيراتك للأمر ستكون مختلفة، وربما تفشل في فهم المشاعر المتباينة التي ستنتابك، والتي قد تشمل الحيرة أو الحزن وربما الغضب. أتواصل عبر مجموعة مغلقة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مع نحو عشرين شخصاً من عائلتي، وأفراد المجموعة العائلية من الجنسين، تتباين أعمارهم واهتماماتهم وثقافتهم، فمنهم من يدرس بالمرحلة الابتدائية، ومراهقون ومراهقات، وشباب وشابات، وأولياء أمورهم من أشقائي وأبناء عمومتي. تأسست المجموعة في الأصل لتبادل الأخبار الشخصية، والصور، والمعلومات عن العائلة، وهي مكان لتبادل التهاني في المناسبات، والمحافظة على الروابط العائلية، خصوصاً بالنسبة للجيل الأصغر الذي لا يملك نفس الأجواء الحميمية التي كان يتمتع بها الجيل الأكبر لأسباب بينها انشغال الكبار الذي لا يسمح لهم بأن يقابلوا بعضهم كثيراً، والمسافات التي تفصل بين أفراد العائلة بعد أن بات لكل منهم عائلته الخاصة، فضلاً عن مواقع التواصل التي باتت سبباً لقلة اللقاءات المباشرة. الأفراد الأصغر سناً في المجموعة هم الأكثر تفاعلاً، وهم أيضا الأكثر انفتاحاً، وصراحة، في حين يحجم آباؤهم وأمهاتهم عن الإسهاب في كتابة آرائهم أو أفكارهم خشية أن يتصيدهم أبناؤهم، كما أن التواصل الإلكتروني لا يغريهم كثيراً. ينصب اهتمام الكبار في الأغلب على محاولات تصويب أفكار الصغار، وأحياناً تهديدهم، وفي أحيان أخرى تقريعهم، وهي ممارسات أحرص على التصدي لها، وتحريض الجيل الأصغر على مقاومتها، ومطالبة الأهل بعدم استخدامها مع الأبناء. ينزعج الكبار دوماً من أسلوبي، لكن هذا لا يجعلني أحجم عن الدفاع عن حقوق الصغار، وحريتهم في التعبير. لطالما كانت طريقة تفكيري مختلفة عن أشقائي وأبناء عمومتي، ولطالما كانت علاقتي بمواقع التواصل والتقنية متطورة عنهم؛ ربما لأسباب تتعلق بطبيعة عملي، وأسفاري المتكررة، وتواصلي مع أشخاص من جنسيات وخلفيات حضارية وثقافية متباينة. لكن الأبرز في التجربة العائلية هو ما أتعلمه يومياً من هؤلاء الأطفال والشباب، من الجنسين، والذين أتيح لهم ما لم يتح للجيل الأكبر من تطور تقني يصبغ طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية