الجمعة، 25 ديسمبر 2015

من رسالة فان جوخ الأخيرة





"..كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي. هل هي كذلك في الطبيعة أم أن عيني مريضة؟ ها أنا أعيد رسمها كي أقدح النار الكامنة فيها.
في قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تُظهرها، في حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذي يرشح بؤسا، ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة. للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي:
أيها الوجه المكرر، يا وجه "فان" القبيح، لماذا لا تتجدد؟
أبصق في المرآة وأخرج.
واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون:
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط عليّ، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها.
حسنا الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل إن إصبعي السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتداعب بشرة اللوحة.


أجلس متأملاً :
لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر. آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة. الألوان. وبسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألواني واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر:
كان الوقت غسقا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكي يبلل خط الأفق. آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقراً في جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا" الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلي وهي تتنفس مثل ظبي مذعور.ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.منذ ذلك اليوم، عندما كنت في الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقباً ليلكياً انفتح في صدري ليتدفق البياض.. يا لرعشة الليلكي.
الفكرة تلحّ علي كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق في عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي.
شيئان يحركان روحي: التحديق بالشمس، وفي الموت.أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المُدمّاة .
- ولكن إلى أين؟
- إلى الحلم طبعاً".






يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

عودة رفيق الميدان









كنا شركاء نفس الأفكار ونفس القناعة، وتشاركنا الاعتصام في الميدان مطالبين بإسقاط النظام والعيش والحرية والكرامة والعدالة. 
تعرّضنا معاً للقمع والضرب والمطاردة، كنا نراهن بحياتنا لتحرير بلدنا وأهلنا من الفساد والاستبداد، لم نكن نخشى وقتها الموت؛ سقط أصدقاء ورفاق لنا إلى جوارنا صرعى برصاصات النظام الغادرة. 
ليلة 11 فبراير/شباط 2011، رقصنا سوياً ابتهاجاً بتنحي رأس النظام، رفعنا أصواتنا بهتافات النصر الحالمة بالمستقبل، شاركنا البهجة ملايين المصريين، ربما كان هذا أول يوم يهتف فيه ملايين المصريين ضد مبارك، بعد سنوات طوال من الخوف والقمع. 
يكذب أو يبالغ من يكرر أن ملايين المصريين ثاروا على مبارك، الواقع أن بضع مئات آلاف المصريين فقط ثاروا، كان هناك ملايين الرافضين لحكمه بالطبع، لكنهم كانوا خائفين يترقبون، هؤلاء هم الذين انهالوا على الميادين فور إعلان تنحيه عن الحكم لصالح جيشه الذي كان معولاً في إجباره على التنحي. 
ظلّت أفكارنا متقاربة، ونقاشنا لا يتوقف بعدما تخيلنا أنه إسقاط النظام، وسريعا؛ ربما بحلول مارس/آذار من نفس العام، جمعنا يقين أن ثورتنا لم تكتمل، وأن جيش مبارك قرر أن يوقف مسارها وينتقم من كل من شارك فيها. 
شاركنا سويا، مجددا، في التظاهرات والفعاليات ضد ما كنا نسميه وقتها "حكم العسكر"، وطالبنا بسقوطه مثلما فعلنا مع مبارك، وعشنا في العام اللاحق انتصارات وهزائم، وأصبح يقيننا أن الجيش لن يترك البلد لنا كمدنيين.


















باتت علاقتنا ملتبسة بوصول الإخوان إلى الحكم، انحاز هو للفريق الكاره لهم، رغم أنه انتخب محمد مرسي رفضاً لأحمد شفيق، بينما قاطعت أنا الجولة الثانية من الانتخابات اعتقاداً أنه سيتم تزويرها. 

لم يكد يمر على مرسي في الحكم شهر حتى بدأ يعلن رفضه لحكمه ويطالب بسقوطه، متأثراً بدعوات كان واضحا أنها مفتعلة وممولة ومقصودة ظهرت في الشارع، بينما كنت رغم بعض انتقادي لمرسي وتصرفاته كحاكم، أدعو إلى منح الديمقراطية الوليدة الفرصة وأحذر من عودة "حكم العسكر". 
نشط هو سريعا في الجبهة الرافضة، بينما ظللت على موقفي؛ أثني على الجيد وأنتقد ما لا يعجبني، لكننا حافظنا على الحياد تجاه بعضنا. 
لاحقاً بدأ الدم يسيل في الشوارع، ووجدته ينسى كل قناعاتنا مطلع عام 2011 حول المجرمين والفاسدين والمتآمرين، ويكرّر تلك النغمات النشاز التي يطلقها هؤلاء الذين كنا ثواراً ضدهم.

لم يعد يعتبر العسكر هم العدو، بات العدو بالنسبة له هو المدني المغلوب مثله، كفر بكل ما كنا نردده من شعارات حول ضرورة تخليص البلاد من هيمنة المؤسسة العسكرية، قرر فجأة وربما دون وعي أن ينحاز إلى الطرف القوي على حساب الطرف الضعيف، رغم أن تجربتنا معا أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن القوي لن يتوقف قمعه على فئة أو تيار.

واجهته بكل قناعاتي، وذكرته أنها كانت قناعاته في يوم ما قريب، لكنه كان قد تجاوز حد التفكير وسيطرت عليه الكراهية، وأعماه إعلام الثورة المضادة عن التدبر في ما هو مقدم عليه.
سقط بلدنا في المستنقع العسكري مجدداً، واستغرق صديقي المحكوم بنظرية المؤامرة وفكر الكراهية والتضليل الإعلامي الواسع؛ شهوراً حتى أدرك ما شارك وغيره في إيصال البلاد إليه، بدأ ينتقد شيئا فشيئا، ثم بدأ يعلن أن هذا النظام الذي ساعد على الإتيان به خان كل ما كان متفقا عليه، ثم تحولت صدمته إلى يقين بانقلاب النظام على من شاركوه الانقلاب على النظام المدني المنتخب، وفشله في توفير أبسط حقوق الناس من أمن وطعام.

في النهاية استفاق صديقي، وإن كان لم يعترف حتى الآن بالخطأ الذي وقع فيه، وإن ظل حتى الآن يتهم آخرين بالمسؤولية عما فعله مع آخرين، لكنه بدأ أخيرا يطالب برحيل الجنرال.









يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية