الاثنين، 30 سبتمبر 2013

مذكرات الفريق سامى عنان عن ثورة 25 يناير




منقول

لم ينتظر كغيره من الزعماء والقادة كثيراً، فلم يمضِ سوى عام فقط، حتى قرر الفريق سامى عنان أن يكتب مذكراته وأن يفرج عنها مبكراً، ربما رأى أن اللحظة التاريخية التى تعيشها البلاد لا تحتمل السكوت، مهما يكن رد فعل ما كتب.
يبدأ من أول شبهة أثيرت حوله: ماذا كان يفعل فى الولايات المتحدة الأمريكية عندما اندلعت ثورة يناير؟ محاولاً أن يقرب القارئ مما دار فى خلده عندما قرر العودة إلى مصر، والأفكار التى عصفت بذهنه بمجرد أن أقلعت طائرته من قاعدة أندروز باتجاه نيويورك.
وفى البدايات يتحدث «عنان» عن إدراكه للمؤامرة التى تتعرض لها مصر عندما شاهد على شاشة قناة «الجزيرة» تنويهاً بخبر عاجل «رئيس الأركان المصرى يقطع زيارته للولايات المتحدة عائداً إلى مصر» فأدرك أن الأمريكان أنفسهم هم من سربوا الخبر فنطق بمثل شعبى «المتغطى بأمريكا عريان».
وعندما رأى شاشات التليفزيون تعرض صوراً لدبابات كُتب عليها: «الحرس الجمهورى» رابضة أمام مبنى «ماسبيرو»، انتابته فكرة رأى أنها ضرورة للخروج بالبلاد من عنق الأزمة إنه «الانقلاب الناعم» الذى يحقق الاستقرار دون سقوط ضحايا.
موقعة الجمل
اللافت فى «المذكرات» هو ثناء «عنان» على قائده الأسبق «حسنى مبارك» وحديثه عن خطابه العاطفى بعد الـ28 من يناير الذى استجابت له جموع الشعب لولا تخطيط قوى داخلية وخارجية معروفة لم تكن ترغب فى الاستقرار من أجل مصالحها.
أتاح لى موقعى كرئيس أركان حرب القوات المسلحة، منذ العام 2005، أن أكون شاهداً على ثورة 25 يناير 2011، وما ترتب عليها من أحداث وتداعيات، وقد شاع بغير سند أو دليل، وفى سياق تداول الأكاذيب والإشاعات كأنها الحقيقة، أن زيارتى للولايات المتحدة الأمريكية، التى بدأت فى الثالث والعشرين من يناير، ذات صلة بالثورة وأحداثها، والحقيقة الثابتة الموثقة على خلاف ذلك تماماً، ذلك أن الزيارة المشار إليها كانت مقررة منذ وقت طويل سابق، وبالتحديد فى شهر أكتوبر 2010. الهدف منها يتعلق بالتنسيق والتعاون العسكرى المصرى الأمريكى، واللجنة المعنية يرأسها من الجانب الأمريكى مساعد وزير الدفاع الأمريكى لشئون الأمن الدولى، ومن الجانب المصرى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية.
اللجنة تعقد سنوياً، ويتم الترتيب لها فى مصر، ويسبقها تنظيم مؤتمرات متعددة لثمانية أشهر تقريباً، وتنشغل بالبحث فى جميع أنواع التعاون مع كل الأفرع والأسلحة، وتهتم بتحديد المطالب وتقييم ما تم إنجازه فى العام السابق.
صدّقت القيادة السياسية فى مصر على الزيارة المحدد لها أكتوبر 2010، وقبل السفر بعشرة أيام تقريباً تحدثت مع السيد المشير محمد حسين طنطاوى، وقلت لسيادته إن الموعد المحدد للسفر يواكب انتخابات مجلس الشعب المصرى، والمعروف أن إجراء العملية الانتخابية يستدعى أعمال تأمين وحماية تتولاها القوات المسلحة، بإشراف رئيس الأركان، وهو ما يتطلب وجودى، وقد تقبل القائد العام وجهة نظرى، وطلب منى الشروع فى اتخاذ إجراءات تأجيل الزيارة، وتولى مهمة تبليغ القيادة السياسية بالأسباب التى ذكرتها، وأبلغ الجانب الأمريكى بالتأجيل فوافق على أن تكون الزيارة فى يناير 2011.
هذه هى الحقيقة الكاملة حول زيارتى للولايات المتحدة قبل أيام من ثورة يناير، ولا مبرر لتقديم تأويلات وأسباب مغايرة لا أصل لها.
صدمة النتائج الانتخابية
فى 7/12/2010 ظهرت نتائج انتخابات مجلس الشعب، التى بدأت فى 28/11، وأسفرت عن اكتساح مرشحى الحزب الوطنى الحاكم، فى مواجهة المعارضة الحزبية والمستقلة، كانت النتائج مستفزة للرأى العام، فالحزب الوطنى لا يحظى بشعبية تبرر مثل هذه النتيجة، وبصمات التلاعب واضحة، على الصعيد الشخصى، وكمواطن مصرى أتابع الشأن السياسى ولا أتدخل فيه، شعرت بقدر كبير من المهانة والاستهتار والاستهانة بعقول المصريين، وكنت صريحاً فى إبداء هذا الرأى، الذى أبلغته للسيد المشير، وكان بدوره يشاركنى فى عدم الرضا. والذى أعرفه جيداً أن المشير طنطاوى قد فاتح الرئيس مبارك فى تخوفه من الآثار السلبية الوخيمة التى قد تترتب على النتائج المعلنة لانتخابات مجلس الشعب، ولم يكن الأمر خافياً -أيضاً- على السيد اللواء عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات، وقد أخبرنى سيادته فى لقاء جمعنا بعد ثورة يناير، بأنه أبلغ الرئيس بما يدور على الساحة السياسية وهما فى رحلة خارجية، فاستدعاه الرئيس الأسبق بعد العودة، وقال له: لا تقلق يا عمر، أحمد عز مرتب كل حاجة!
أعتقد أن الرد نفسه قد تلقاه المشير طنطاوى، فلم يعلق عليه أو يجادل فيه، لأن المؤسسة العسكرية لا شأن لها بتفاصيل العملية السياسية، فهى مؤسسة وطنية فى المقام الأول والأخير، لكن قادتها يقدمون النصيحة لوجه الله والوطن، ولا يتابعون العمل بها.
طوال 14 شهراً حتى صعود «مرسى» كانت الظواهر توضح حالة العداء بين الجيش والإخوان تجلت فى الشعار الذى رددته الجماعة: «يسقط حكم العسكر»
وقد ترددت خلال هذه الفترة مقولات ومزاعم غير صحيحة، حول استياء القيادات الوسطى وصغار الضباط فى الجيش، وأؤكد أن كل ما قيل لا أصل له، فالالتزام كامل لا تشوبه شائبة، والتعامل مع الأحداث السياسية يتم من منطلق أن الضابط، كبيراً كان أم صغيراً، مواطن يتابع ويتأثر بما يدور فى الواقع، لكنه -فى الوقت نفسه- يعرف حدود مهامه جيداً ولا يتجاوزها.
انتهت العملية الانتخابية، وبدأت فى الاستعداد لإتمام الزيارة المؤجلة للولايات المتحدة الأمريكية، فى الموعد البديل، وقبل أيام من سفرى اشتعلت الثورة فى تونس، وتبادلت حواراً مهماً مع المشير طنطاوى، بدأته قائلاً:
- الرئيس التونسى زين العابدين بن على أصدر أوامره لوزير الدفاع بالتعامل العنيف مع المتظاهرين، لكنه رفض.
ورد المشير على الفور:
- التعليمات كانت لرئيس الأركان وليس لوزير الدفاع.
كنت أعرف هذه المعلومة، لكننى حرصت على استخدام تعبير «وزير الدفاع» تأدباً، على اعتبار أنه السلطة الأعلى فى الأنظمة العسكرية الشرقية، التى تتأثر فى هيكلها بالنموذج الروسى، وهو النموذج الذى لا تتبعه التجربة التونسية، حيث يمثل منصب وزير الدفاع تكليفاً سياسياً.
وواصل المشير طنطاوى الحوار، فوجه لى سؤالاً:
- لو حصل هذا الأمر عندنا فى مصر.. ماذا تفعل يا سامى؟
أجبته بلا تردد:
- لن أضرب متظاهراً مصرياً، فدورى هو تأمين المتظاهرين والحفاظ على أرواحهم، حتى لو صدرت لى الأوامر بالضرب لن أفعل، وأنا متأكد أن سيادتكم لا يمكن أن تصدر أمراً بضرب النار.
وبادرنى المشير معلقاً:
- لماذا أنت متأكد؟
فذّكرت سيادته بما حدث عند الاجتياح الفلسطينى فى رفح، وأنه أصدر الأوامر بالمعاملة الإنسانية الراقية دون عنف، وعندما طلبت القيادة السياسية التعامل بعنف عند الاجتياح الثانى، رفضتم سيادتكم وقلتم إن السلاح المصرى لا يمكن أن يتم إشهاره فى وجه فلسطينى، فمن باب أولى ألا يتم توجيهه إلى المصريين.
كان الشعور بالتوجس سائداً عند الكثيرين من قيادات الدولة المصرية، وقد حضرت احتفالات الشرطة بعيدها يوم 23 يناير، لكن أحداً لم يتحدث عن المظاهرات المتوقعة وأسبابها وآثارها، وبدأت رحلتى إلى أمريكا يوم 24 يناير.
رحلة لم تكتمل
أقلعت بى الطائرة ظهر يوم 24 يناير، متأخرة عن موعدها بأربع ساعات، واتجهت من باريس إلى أمريكا لأصلها ظهر يوم 25 يناير، كنت أتابع أخبار الوطن بطبيعة الحال، وتصلنى تقارير منتظمة من السفارة المصرية عن تطورات الأوضاع، كان برنامج الزيارة يسير وفق التخطيط الذى سبق إعداده، لكن تصاعد الأحداث أدى إلى إنهاء الزيارة قبل موعدها.
مساء يوم 27 يناير، كنت فى عشاء عمل بدعوة من الجانب الأمريكى، وتطرق الحوار إلى المظاهرات التى تشهدها مصر، سألنى السفير ألكسندر فرشبو، رئيس اللجنة الأمريكية المناظرة للجنة المصرية:
- هل تتابع المظاهرات فى مصر؟
أجبته:
- أتابعها عبر وسائل الإعلام.
- هل تسمح لى بسؤال؟
- تفضل بكل سرور.
- ماذا يفعل الجيش لو نزل إلى الشارع؟
- ثق أن الجيش لن يفعل ذلك إلا إذا حدث تهديد للمنشآت والأهداف الحيوية، وسيكون هدفه الوحيد هو التأمين.
- ألن تضربوا المتظاهرين؟
- لا بالطبع.
- حتى لو صدرت الأوامر بالضرب.
- أثق أن مثل هذه الأوامر لن تصدر، وحتى إذا صدرت فلن نطلق النار على أبناء وطننا.
ولن أنسى ما حييت التعليق العفوى لألكسندر، ونبرة الإعجاب والتقدير فى صوته:
- إن القوات المسلحة المصرية على قدر عال من المهنية والاحترافية والفروسية.
عدت إلى الفندق بعد العشاء، لأتابع ما تبثه قناة «الجزيرة» القطرية، ذات البراعة المشهودة فى صناعة التوتر، وسارعت بإجراء اتصال تليفونى مع السيد المشير محمد حسين طنطاوى، لأطلب العودة إلى مصر، لكنه رفض، وقال إنه ينبغى استكمال المأمورية التى سافرت من أجلها.
كنت قلقاً لأن مقابلتى مع الأدميرال مولن، موعدها يوم الإثنين، بسبب إجازة السبت والأحد من ناحية، ولوجوده خارج واشنطن من ناحية أخرى، وبدافع من الشعور بالخطر الشديد، ارتديت ملابسى وطلبت من زوجتى أن تستعد للعودة إلى مصر، وعاودت الاتصال بالمشير فلم أجده بالاستراحة أو الوزارة، وعرفت أنه موجود فى قيادة المنطقة المركزية مع اللواء حسن الروينى، وعندما أخبرته بأننى أريد العودة، قال كلمة واحدة:
- ارجع.
وتصاعد شعورى بالخطر.
تدارست مع بعض أعضاء الوفد كيفية الرجوع إلى القاهرة فى أسرع وقت، مع مراعاة أن الطريق من واشنطن إلى نيويورك مغلق لشدة العواصف، واستقر الأمر على العودة برحلة «مصر للطيران» من نيويورك فى الخامسة مساء، للوصول إلى القاهرة ظهر اليوم التالى، طلبت من رئيس مكتب التعاون العسكرى الأمريكى، ومكتبه بالقاهرة، أن يتصل بوزارة الدفاع لتجهيز طائرة تعود بى من واشنطن إلى نيويورك، وأثناء وجودى بالفندق، اتصلت باللواء الروينى قائد المنطقة المركزية للاطمئنان على المشير، فقال لى:
- صدرت الأوامر يا أفندم بنزول القوات المسلحة لمعاونة الشرطة فى تأمين المنشآت والأهداف الحيوية.
طلبت منه أن يتصل برئيس هيئة العمليات، اللواء أركان حرب محمد صابر، فأعطانى تماماً بالموقف، وباتخاذ كل الإجراءات اللازمة، توجهت بعد ذلك إلى قاعدة أندروز، وفوجئت بوجود الجنرال ماتيس، قائد القيادة المركزية الأمريكية، والصديق الشخصى المقرب للرئيس أوباما، لم أتخيل أنه حضر خصيصاً لمقابلتى، لكنه طلب أن نتكلم على انفراد فى مكتب قائد القاعدة. سألنى عن الأوضاع فى مصر بعد نزول الجيش، ثم قال بالحرف الواحد:
- سيادة الفريق.. هل ستطلقون الرصاص على المتظاهرين؟
- لا.
قلتها بلا تردد، فعاد يسأل من جديد:
- حتى لو صدرت لكم الأوامر بذلك؟
فقلت بالثقة نفسها:
- حتى لو صدرت الأوامر.
فشد على يدى، وأثنى على الجيش المصرى وقيادته.
جذور الأزمة
كنت فى طائرة عسكرية، أقلعت من قاعدة أندروز، باتجاه نيويورك، للحاق بطائرة مصر للطيران، مساء الجمعة بتوقيت القاهرة، عندما ألقى الرئيس الأسبق مبارك خطاباً يوم 28 يناير 2011.
قرأت فى شاشة قناة «الجزيرة» تنويهاً بخبر عاجل عن قطع زيارة رئيس الأركان المصرى للولايات المتحدة، وعودته إلى مصر، كان أول ما فكرت فيه وأنا أقرأ الخبر: كيف عرفت «الجزيرة» به؟
لا تفسير عندى إلا أنه تسريب أمريكى مقصود، يأتى فى إطار خطة معدة لتحقيق أهداف بعينها، الحقيقة الراسخة التى أؤمن بها، عن دراسة نظرية وخبرة عملية، أن «المتغطى بالأمريكان عريان».
السياسة مصالح موضوعية بلا عواطف شخصية، وصانع القرار الأمريكى يبحث دائماً عن مصلحة بلاده، ويؤثر التدرج المحسوب فى إعلان المواقف واتخاذ الإجراءات، من يتابع تصريحات الإدارة الأمريكية خلال الأزمة، سيكتشف بلا عناء أنهم يترجمون المثل العامى المصرى الشهير: «مسك العصايا من النص»، فهم يؤيدون الرئيس مبارك فى البداية، ثم يتحفظون قليلاً، ومع تصاعد المظاهرات والاحتجاجات يتغير الموقف.
استمعت لخطاب مبارك يوم 28 يناير، وتوقفت طويلاً أمام قوله: «طلبت من الحكومة تقديم استقالتها اليوم»، التعبير غير موفق فى صياغته، لأنه يوحى بالضعف والتردد وغياب الحسم، وكان من الواجب أن يستخدم مفردات أكثر وضوحاً وقوة، دون نظر إلى أنه لم يكن قد استقر على المرشح البديل لرئاسة الوزارة، القرار الصائب بنسبة 80٪، فى توقيت مناسب، أفضل كثيراً من قرار صائب بنسبة 95٪ فى توقيت غير مناسب، لو كنت مكان مبارك، لاستخدمت تكويناً لغوياً مثل «إقالة حكومة نظيف لفشلها فى إدارة شئون الدولة». ما السر فى الصياغة التى لجأ إليها مبارك؟.. شعرت وأنا أستمع إليه أن الرئيس الأسبق يتعرض لضغوط حتى لا يتخذ قرارات قوية، وأن بعض المحيطين به لا يتعاملون مع الاحتجاجات الشعبية فى ميدان التحرير بالجدية المطلوبة، ويراهنون على أن الأمر سينتهى سريعاً وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. جانب كبير من المشكلة يتعلق بالمعلومات المقدمة للقيادة قبل اتخاذ القرار، فالمعلومات هى السلاح الفتاك الفعال الذى يعين على تحقيق الانتصار، ويؤدى غيابها إلى الهزيمة والمزيد من التأزم، لقد اتسمت إدارة الرئاسة، منذ البدء، بالتخبط وعدم وضوح الرؤية، والمسئولية يتحملها معاونو الرئيس ومستشاروه، فإما أنهم لا يملكون المعلومات الكافية، وهذه كارثة، وإما أنهم يملكونها ولا يحسنون تحليلها بشكل علمى ناضج، وهذه كارثة أفدح.
كان خطاب الرئيس الأسبق، فى 28 يناير، محاولة لاحتواء الموقف، لكن التأخير فى اتخاذ القرار يؤدى عادة إلى تفاقم المشكلة والمزيد من الاحتقان، لو أنهم سألوا الشباب الغاضب فى التحرير عن مطالبهم، وقالوا لهم: ماذا لو قدم لكم الرئيس استجابة لمطلبين، الأول هو إقالة الحكومة، وفى القلب منها وزير الداخلية، والثانى هو وعد رئاسى صريح بأن الفترة الرئاسية الحالية هى الأخيرة، بلا تمديد أو توريث، عندئذ، فيما أتصور سينصرف 99٪ من الشباب، راضين بما حققوه من نجاح، لكن شيئاً من هذا لم يحدث للأسف، الإيقاع البطىء هو المسئول عن التصعيد، فما يرضى الثوار اليوم لن يشبعهم أو يقنعهم غداً، والإجراءات المتأخرة لا ترضى الطموحات، ويتم النظر إليها على اعتبار أنها تنازلات تمهد لتنازلات أخرى.
أعود لأقول إن الرئيس مسئول بحكم منصبه ومسئوليته التاريخية، لكن المسئولية الأكبر يتحملها من يعيقون بتقصيرهم وضوح الرؤية عنده، فتولد قراراته مريضة بسمتين مدمرتين: التأخير فى التوقيت، والعجز عن فهم حركة الشباب وحدودها.
سيناريوهات المستقبل
فى رحلة العودة إلى القاهرة، التى تستغرق ثلاث عشرة ساعة، ومع بداية الانخفاض فى الإضاءة، بدأت فى ترتيب أفكارى وتخيل ما سوف يكون، قبل أن تقلع الطائرة، شاهدت على الشاشات التليفزيونية دبابات مكتوبا عليها «الحرس الجمهورى» أمام مبنى ماسبيرو، وتذكرت خطة تأمين المنشآت التى أقرتها القيادة العامة قبل فترة وجيزة من أحداث يناير، وكانت رؤيتى أن تقتصر مهام الحرس الجمهورى على تأمين المنشآت القريبة من مؤسسة الرئاسة، قائد الحرس الجمهورى يتلقى تعليماته من رئيس الجمهورية، وفى ساعات العودة إلى القاهرة توصلت إلى مجموعة من الترتيبات التى أراها ضرورة وطنية.
أولاً: الخروج من الأزمة يتطلب القيام بانقلاب ناعم يحقق الاستقرار دون سقوط ضحايا أو سفك دماء، ويراعى هذا الانقلاب تنفيذ مطالب الشعب من ناحية والحفاظ على مكانة المنصب الرئاسى، من خلال انتخابات حرة نزيهة من ناحية أخرى.
ثانياً: لا بد أن يتم الانقلاب بكياسة ولباقة، فتتوجه مجموعات من رجال الصاعقة والمظلات والشرطة العسكرية للمرور على القوات فى ميدان التحرير وماسبيرو، ومن هناك أعلن القرارات التى اتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة للحفاظ على وحدة الوطن وتجنب الصراعات وتفجير المشكلات.
ثالثاً: المراهنة على تجاوب الشعب وترحيبه، فقد كانت الناس تنادى بشعار «الجيش والشعب إيد واحدة»، فمن المنطقى أن يرحبوا بفترة انتقالية، تتلوها انتخابات حرة تحقق الإرادة الشعبية.
وصلت مطار القاهرة الساعة 12 ظهراً، يوم السبت الموافق 29 يناير، وتوجهت من المطار إلى مبنى وزارة الدفاع بكوبرى القبة، ارتديت ملابسى العسكرية، وغادرت إلى مبنى القيادة، حيث المشير طنطاوى، طلبت من رئيس العمليات تقريراً بالموقف، وشرحه لى باستفاضة، وأصدرت توجيهات فى وجود المشير، لضمان وجود القوات بأماكنها دون مشاكل أو معوقات.
خرجت مع المشير إلى حديقة مركز القيادة، وطرحت أفكارى عليه، وقلت إن الانقلاب الناعم هو الحل الوحيد، شرحت له الإجراء العملى فى إيجاز: مجلس رئاسى برئاسة المشير، الذى يتولى أيضاً حقيبة وزارة الدفاع، وإعلان مواقيت محددة لإنهاء الأزمة والخروج بالبلاد إلى بر الأمان.
أصغى المشير باهتمام، ثم سألنى:
- حد يعرف الكلام ده غيرك؟
- لا.
- طيب.. بلاش الكلام ده.
التزمت بتوجيهات المشير، وبدأت فى متابعة الأحداث التى تتصاعد بإيقاع سريع، ولا شك أن الأيام الممتدة، حتى 11 فبراير 2011، هى مرحلة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة.
أجواء التوتر والاحتقان تسود مصر كلها، واللجان الشعبية تتشكل بمبادرات شبابية، لمواجهة أعمال السلب والنهب والبلطجة، محطات المترو تتعرض للتحطيم والسرقة، بعد أن انسحبت شرطة النقل والمواصلات من تأمين المحطات، وعصابات منظمة تسطو على بعض قضبان السكك الحديدية، وصفوت الشريف، الأمين العام للحزب الوطنى، يعلن أن أحمد عز أمين التنظيم قد تقدم باستقالته، وعُرضت على هيئة المكتب وتم قبولها، مثل هذه الإجراءات لم تكن ملبية لطموحات الشباب الذى يملأ ميادين مصر، بخاصة أن تحالفاً قوياً من قوى داخلية وخارجية، كان حريصاً على التصعيد، ورافضاً لكل المبادرات والحلول التى تحقق الاستقرار وتحول دون الانهيار.
الشباب الذى خرج يوم 25 يناير لم يكن هو الشباب الذى تصدر المشهد بعد ذلك، وقد أدركت بحكم موقعى أن هناك من يسعى لاستثمار الموقف لتحقيق أهداف ومصالح خاصة، وأنهم استخدموا الشباب المخلص والشعارات الثورية كمبرر لإسقاط الدولة، ولا شك أن الشعب يعرف الآن من هم هؤلاء.
«اللى ميشوفش من الغربال يبقى أعمى» ولن نفهم الماضى القريب إلا على ضوء واقع ما بعد سقوط محمد مرسى، صانعو الفوضى هم هم، والوسائل والأدوات لم تتغير، ولمن ينسى أو يتناسى، أقول إن الهاربين من سجن وادى النطرون، بمساعدة من «حزب الله» و«حماس» سيحاسبهم التاريخ، ولا بد أيضاً أن يحاسبهم الشعب.
أيام الغضب
كان اختيار اللواء عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية، والفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، قراراً موفقاً من مبارك، فكلاهما وطنى مخلص نزيه، ورجل دولة ذو خبرة ودراية ووعى، لكننى أعود لأقول: المشكلة فى توقيت صدور القرار، وهو تأخير لم يترك الأثر المطلوب فى الشارع وميدان التحرير.
كان التكليف الصادر للسيد عمر سليمان بضرورة الحوار مع القوى السياسية المختلفة، وبداية حوار جاد للإصلاح الدستورى والتشريعى، ثم جاء خطاب مبارك فى أول فبراير عاطفياً قوياً مدروساً، كان الخطاب مثالياً فى أسلوبه ومضمونه، واستجابت قطاعات عريضة بشكل إيجابى لما جاء فيه، لكن القوى المتربصة بمصر تحركت سريعاً لإجهاضه، وأثناء وجودى فى غرفة العمليات تلقيت استغاثات كثيرة من الأهالى، تؤكد أن هناك من يمنعون أبناءهم من مغادرة الميدان، لا يستطيع الإخوان المسلمون إنكار ذلك، ومصالحهم كانت توجب عليهم أن يستمر الاشتعال ولا يتراجع.
الجنرال ماتيس قائد القيادة المركزية الأمريكية حضر خصيصاً لمقابلتى وطلب أن نتكلم على انفراد وسألنى: «هل ستطلقون الرصاص على المتظاهرين؟ فأجبته: لا.. حتى لو صدرت الأوامر
صباح الأول من فبراير، اتصلت بعدد من القادة ومساعدى الوزير ومساعدى رئيس الأركان وبعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وطلبت من السيد المشير محمد حسين طنطاوى ألا يشارك فى الاجتماع، حتى أجنبه الحرج، ألقيت فى المجتمعين خطاباً مرتجلاً أستنفر فيه هممهم وأستدعى روح المقاتل، داخل كل قائد منهم، وبعد التشاور والقسم على المصحف بأننا سنظل على قلب رجل واحد، ومع مطالب الشعب، دون استخدام العنف. صغنا البيان الذى ننوى إصداره، وعرضته على المشير فوافق عليه وأرسلناه للإذاعة والتليفزيون، كان البيان بمثابة رسالة طمأنة للشعب والقوى السياسية، وليس أدل على ذلك من تهليل وتصفيق الشباب فى التحرير بعد استماعهم للبيان، فقد أدركوا أن القوات المسلحة تنحاز للشعب بلا تردد أو مساومة.
فى الثامنة من مساء اليوم نفسه، الأول من فبراير، كنت فى مركز العمليات عندما جاء المشير طنطاوى، وخرجت معه، فأخبرنى أن الرئيس مبارك يطلب أن نلتقى به، اندهشت لأن الرئيس يطلب حضورى، فوجود المشير يكفى، ولم تكن دهشتى نابعة من خوف أو قلق، فلله والوطن والتاريخ أشهد أن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك رجل عسكرى محترم وقائد من أبطال حرب أكتوبر، ولا يمكن لمثله أن يفكر بطريقة فيها خسة أو نذالة، فهو لا يحمل أفكاراً تآمرية ولا يضمر الغدر.
كان توترى قبل المقابلة لأسباب أخرى، فقد تخوفت من التفسيرات والتأويلات التى لا بد أنها ستشيع وتنتشر بعد اللقاء مع الرئيس، فإصدار بيان الجيش صباحاً، ومقابلة الرئيس ليلاً، قد يفسر بأنه خدعة من الجيش للشعب، ولذلك طلبت من المشير ألا تتم تغطية اللقاء إعلامياً، حتى لا يشعر الشعب أننا نخدعه، واستجاب المشير لطلبى.
عند وصولنا إلى المقر الرئاسى، استقبلنا قائد الحرس الجمهورى وكبير الياوران، وطلبت منهما عدم تغطية اللقاء أو حتى التقاط صور له، واستدعيت المسئول الإعلامى فى الرئاسة، وكررت الطلب نفسه، بل إننى طلبت ألا يدخل علينا فى الاجتماع عامل البوفيه لتقديم واجب الضيافة، وعند وصول اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق، أكدت عليهما أن يكون الاجتماع بعيداً عن الإعلام، واستجابا.
كانت مائدة الاجتماع تضم المقاعد بأسماء الحضور: الرئيس مبارك، اللواء عمر سليمان، المشير طنطاوى، الفريق أحمد شفيق، رئيس الأركان، وزير الداخلية محمود وجدى، قائد الحرس الجمهورى اللواء نجيب رشوان، مدير مباحث أمن الدولة، اللواء حسن عبدالرحمن، وقد وصل وزير الداخلية ومدير مباحث أمن الدولة متأخرين نتيجة اضطرابات فى الطريق.
بمجرد دخول الرئيس مبارك، خاطب المشير قائلاً:
- انتو كده أعلنتوا موقفكم يا حسين.
- ولم يرد المشير، ووجدت نفسى أتدخل لرفع الحرج، فقلت للرئيس مبارك:
- يا ريس إحنا أعلنا موقفنا عشان عارفين سيادتك ما بتحبش الدم.
ورد الرئيس مبارك على الفور:
- دم إيه يا سامى لا سمح الله.. أنا مش باحب الدم.. ولا عايز دم.
وقلت معلقاً على كلمات الرئيس:
- عشان كده أصدرنا البيان اللى بيأكد على كلامك ده يا ريس.
وأضاف مبارك:
- متنسوش يا جماعة إنكم مسئولين عن الشرعية.
وكرر العبارة مرة أخرى بعد أن أضاف كلمة واحدة:
- مسئولين عن حماية الشرعية.
لم يكن الرئيس منزعجاً من البيان الذى أصدرته القوات المسلحة، ولا شك عندى أنه كان يجهز لخطابه العاطفى ويثق من نتائجه الإيجابية، وكان على ثقة أن بيان الجيش ليس تحريضياً، وأن دافعه وطنى بما يتوافق مع توجهات الرئيس نفسه.
موقعة الجمل، كما تسمى إعلامياً، نقطة تحول حاسمة فى الصراع الذى امتد بين يومى 25 يناير و11 فبراير، وسيكشف التاريخ يوماً عن الحقيقة كاملة، وكل ما أستطيع قوله الآن إن المدبر والمنفذ لا بد أن يكون صاحب مصلحة فى جملة النتائج التى ترتبت على الواقعة، كان الفريق أحمد شفيق يملك الإصرار على النجاح وعبور الأزمة، والرئيس مبارك بعد خطابه استطاع أن يكتسب أرضاً جديدة ويحظى بقدر كبير من التعاطف، فلا مصلحة لأحدهما فى تغيير المسار الإيجابى، فمن الذى يملك المصلحة؟ ومن الذى استفاد فعلياً؟ الإجابة عن هذين السؤالين معروفة، والفاعل -بالتبعية- معروف.
بداية النهاية
فى الثالث من فبراير، اليوم التالى لموقعة الجمل، أصدر النائب العام عبدالمجيد محمود قراراً بمنع سفر أحمد عز، أمين التنظيم السابق فى الحزب الوطنى، ووزير الداخلية المقال حبيب العادلى، ووزيرى السياحة والإسكان، زهير جرانة وأحمد المغربى، فضلاً عن عدد آخر من كبار المسئولين، وفى الأيام التالية صدرت قرارات مماثلة، كان أبرزها استقالة جمال مبارك وصفوت الشريف من هيئة مكتب الحزب الوطنى، وتعيين الدكتور حسام بدراوى أميناً عاماً للحزب، لكن الأزمة فى حقيقة الأمر كانت قد تجاوزت ما يتخيله الكثيرون فى قمة السلطة، وكان لا بد من تفعيل فكرة الحوار غير المشروط مع القوى السياسية المؤثرة، ومنهم جماعة الإخوان المسلمين.
تولى اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس، مسئولية الحوار، مسلحاً بحكمته وخبرته الطويلة، وكان الهدف هو التوافق على تشكيل لجنة لإعداد تعديلات دستورية سريعة، والعمل على إنهاء حالة الطوارئ، والسعى إلى تحرير وسائل الإعلام، وملاحقة المتهمين فى قضايا الفساد.
مبدأ الحوار الوطنى فى ذاته صحيح، ومطلوب، لكننى أعود وأقول مجدداً إن توقيت الحوار لم يكن يساعد على النجاح، فالحوار يتم تحت ضغط عصبى ونفسى نتيجة لما يحدث فى الشارع والاختلاف المفاجئ فى موازين القوى يقلل من فرص التفاهم والتواصل، وقد أثبتت التجرية أن الأحزاب السياسية فى مصر بالغة الضعف والتهافت، ولا تملك قواعد شعبية قادرة على التأثير.
ولعل هذه الوضعية هى ما تبرر ارتماء أغلبية هذه الأحزاب فى أحضان الإخوان، لأن الجماعة هى الأقوى والأكثر تنظيماً.
تصاعدت أعمال العنف بشكل غير مسبوق، وتزايدت الاحتجاجات والمطالب الفئوية، وبذلت القوات المسلحة كل جهد ممكن للحفاظ على الأمن وحماية المنشآت الحيوية، لكن الشرطة انهارت تماماً، وفرض حظر التجول لم يحقق النتائج المرجوة، لأن تطبيقه كان يراعى الأحوال النفسية والمعنوية للمواطن.
فى العاشر من فبراير وجه «مبارك» خطابه الثالث للشعب، وقد انتظر الجميع خطابه هذا للاستماع إلى مبادرة عملية فعالة تنهى حالة الغضب الشعبى، لكنه جاء دون المستوى ومخيباً للآمال، وظهرت فيه بوضوح آثار عمليات المونتاج التى جعلته بعيداً عن الترابط والوضوح، تدخل أكثر من «مقص» قبل عرض الخطاب، وبدا واضحاً أن جماعات المصالح المتعارضة داخل مؤسسة الرئاسة تتصارع، ولا تفكر فى الحد الأدنى من التنسيق لمواجهة الموقف العصيب.
رفض مبارك فى خطابه أن يتنحى، واكتفى بتفويض سلطاته للنائب اللواء عمر سليمان، أشاد بالشباب مؤكداً أنه يعتز بهم، وأكد أنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة، لكنه أيضاً تمسك بالاستمرار فى موقعه حتى نقل السلطة بطريقة آمنة، اتخذ الخطاب فى نهايته منحى عاطفياً وطنياً، بالإشارة إلى رفض الضغوط والإملاءات الخارجية والإصرار على أن مصر أرض المحيا والممات.
النقاط الإيجابية فى الخطاب تبخر تأثيرها فى ظل الإطار العام الذى لا يقدم جديداً، ومن هنا كان رد الفعل سلبياً فى الشارع، وبات الطريق ممهداً للسقوط القريب.
اكتساح الحزب الوطنى انتخابات مجلس الشعب كان مستفزاً.. واللواء عمر سليمان سأل «مبارك» عنها قال: لا تعليق أحمد عز مرتب كل حاجة
فى اليوم التالى، الحادى عشر فى فبراير، أعلن النائب عمر سليمان عن تنحى الرئيس وبدأت مرحلة جديدة فى تاريخ مصر، قدر لى أن أكون مشاركاً فيها وشاهداً عليها.
الجيش والإخوان
السؤال / الاتهام الذى توجهه بعض القوى السياسية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تولى مسئولية إدارة البلاد بعد تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، يمكن صياغته على النحو التالى: هل قام الجيش بتسليم السلطة لجماعة الإخوان المسلمين؟ وهل كان هذا «التواطؤ» نتيجة لصفقة بين قيادات الجيش والجماعة، بحيث يضمن كبار الجنرالات ما يسمى بـ«الخروج الآمن»؟
المثير للدهشة بحق أن هذا الاتهام لم يظهر على السطح إلا بعد وصول الإخوان إلى السيطرة شبه الكاملة على مفاصل الدولة، تشريعياً ورئاسياً، وأن كل المؤشرات السابقة لهذا الاتهام، عبر أربعة عشر شهراً منذ سقوط مبارك إلى صعود مرسى، تنبئ عن حالة من التوتر والعداء بين الجيش والإخوان، تتمثل بشكل واضح فى الشعار الذى رددته الجماعة، واندفع الكثيرون لتكراره بغير وعى: يسقط يسقط حكم العسكر.
تهافت الاتهام لا يعنى إهماله والتعالى على فكرة الإجابة والتوضيح، فالجميع يعـــــرفون أن الجيـــش المصرى لا شأن له بالعمـــــل السياسى والانتمــاء الأيديولوجى والالتحــــاق بالكليات الــــعسكرية تسبقه تحريات دقيقة مكثفـــــة لاستبعاد أصحاب الأهـــواء السيـــاسية، فالبطولة للعقيدة القتالية والانتمــــاء الوطنى الخالص.
قبل سنوات من ثورة 23 يوليو 1952، كان عدد لا يستهان به من ضباط الجيش المصرى ينشغلون بالسياسة، نظرياً وعملياً، فمنهم المتعاطفون مع الوفد، أو المقتربون من اليسار الماركسى، فضلاً عن المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها المرشد الأول حسن البنا، ولم يكن غريباً أن ينتقل بعض الضباط بين هذه الاتجاهات جميعاً، فيبدأ وفدياً ثم ينتقل إلى الإخوان ومنها إلى التنظيمات اليسارية، هذه التحولات الفكرية والسياسية نجدها عند جمال عبدالناصر وخالد محيى الدين وعبدالحكيم عامر وعبدالمنعم عبدالرؤوف، وغيرهم ممن انضموا فى نهاية المطاف إلى تنظيم الضباط الأحرار، وأطاحوا بالنظام الملكى، محتفظين فى أعماقهم بكل أو بعض الولاء للانتماءات القديمة.
بعد نجاح الثورة واستقرار نظامها، كان الحرص على الاستفادة من التجربة، ومنع الضباط من العمل السياسى، فلا مهمة لهم تفوق العمل العسكرى الذى يتولى مهمة مقدسة وهى الدفاع عن الوطن والشعب.
ما أريد التأكيد عليه هو أن الجيش المصرى بكل مستوياته من القيادة العليا إلى أحدث ضابط ملتحق بالخدمة، لا يعملون بالسياسة، ولا صلة تنظيمية أو فكرية تربطهم بجماعة الإخوان، فلا منطق إذن فى القول بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو من هيأ المناخ للإخوان وأعانهم فى الوصول إلى السلطة.
وإذا انتقلنا إلى واقع ما بعد تنحى مبارك، نجد أن المجلس الأعلى قد تولى إدارة شئون البلاد منذ مساء 11 فبراير 2011، وجاءت هذه الإدارة بشكل مفاجئ غير متوقع، وبلا سوابق أو نصوص دستورية تمنح المؤسسة العسكرية هذ الحق.
صورة ارشيفية
لقد اتصل مبارك بالمشير طنطاوى وقال إنه سيكلف المجلس الأعلى بهذه المهمة، ورفض المشير هذا العرض بلا تردد، ظناً منه أن مبارك سيبقى على رأس النظام، لكن الموقف تغير بعد قرار مبارك بالتنحى الكامل.
كان هدفنا الوحيد هو الخروج بمصر من أزمتها والعودة إلى الاستقرار والأمن، والعمل على تنفيذ خارطة الإصلاح على أكمل وجه، والبيان الثانى الذى أصدرناه يؤكد هذا المعنى، وكنت شخصياً من أشرف على إذاعة خطاب اللواء عمر سليمان بشأن تنحى مبارك، فقد سلمته لمدير إدارة الشئون المعنوية، وشددت عليه ألا يذاع إلا بتعليمات منى، وكان الأمر عندى يتعلق بضرورة التأكد من مغادرة الرئيس وأسرته إلى شرم الشيخ.
المسئولية التاريخية التى وقعت على عاتقنا كانت تتطلب إجراءات سريعة منظمة، وإذا كان الرئيس عبدالناصر قد استعان بالسنهورى باشا الفقيه الدستورى العالمى لتقنين الأوضاع القانونية والدستورية بعد ثورة 23 يوليو، فقد بادرنا بتشكيل لجنة عليا لدراسة الوضع واتخاذ الإجراءات اللازمة، وكان التشكيل يضم السيد المستشار ممدوح مرعى وزير العدل، والسيد المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية العليا، واللواء ممدوح شاهين كممثل قانونى عن القوات المسلحة، هل من قامة قانونية تفوق وزير العدل ورئيس المحكمة الدستورية العليا؟! لم نفكر فى الإخوان أو غيرهم، وقررنا أن نلتزم بما يوصى به القانونيون من أهل العلم والتخصص، وهنا يتكرر الاتهام من جديد: لماذا لم نقم بإعداد الدستور أولاً قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية؟!
الانتخابات أولاً أم الدستور أولاً.. قضية يتحدث عنها الكثيرون، والخلل الرئيسى هنا هو إدخال الجيش كطرف فى المعادلة، وإغفال حقيقة أن المشير محمد حسين طنطاوى كان مستعداً لتنفيذ ما تشير به اللجنة القانونية، مع محدد واحد أصر عليه، وهو ألا تزيد الفترة الانتقالية على ثلاثة أشهر، وكان الهدف من تحديد هذه الفترة القصيرة هو الحفاظ على الجيش وتجنب عمله السياسى من ناحية وعودة الحياة إلى إيقاعها التقليدى بما يحقق الاستقرار ودفع عجلة العمل والتنمية من ناحية أخرى.
مخاوف المشير والمجلس الأعلى لا تنبع من فراغ، فللجيش مهامه الوطنية التى تفرض عليه الابتعاد عن العمل السياسى، وأهل العلم والتخصص من القانونيين كان لهم رأيهم المختلف، وخلاصة هذا الرأى أن فترة الشهور الثلاثة لا تكفى لإعداد الدستور والتوافق حوله والاستفتاء عليه، ولا يمكن أن تتسع -فى الوقت نفسه- لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية، إنجاز هذا الملف يحتاج إلى ما يتراوح بين عام ونصف إلى عامين، ولذلك كانت التوصية بانتخابات المؤسسات التشريعية، مجلسى الشعب والشورى، خلال ستة أشهر، ثم الدعوة إلى انتخابات رئاسية، ويتولى هؤلاء المنتخبون شعبياً مهمة إعداد الدستور.
لو أننا فعلنا العكس وأعددنا الدستور أولاً، لقيل إن العسكريين يضعون الدستور وفقاً لمصالحهم، وهو الشعار الذى ظهر بالفعل وردده الكثيرون: لا دستور فى ظل المجلس العسكرى.
النجاح الذى حققه الإخوان، بعد 11 فبراير لا علاقة له بالمجلس العسكرى، فقد كنا نقف على مسافة واحدة من الجميع، فى الإعلان الدستورى الصادر يوم 13 فبراير 2011 أعلن المجلس العسكرى التزامه الواضح الصريح بعدم الاستمرار فى الحكم، وتعهد بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة فى غضون ستة أشهر، أو حتى يتم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ونص الإعلان نفسه على تعطيل مجلسى الشعب والشورى المنتخبين فى عام 2010 وتعليق العمل بدستور 1971.
تشكلت لجنة لتعديل بعض مواد دستور 1971، وجرى استفتاء حر نزيه فى 19 مارس 2011، وافق عليه الشعب بنسبة 77٪.
لمن ينسى أو يتعمد النسيان أطرح مجموعة من الأسئلة معروفة الإجابات:
1- هل يمكن التشكيك فى نزاهة الاستفتاء الذى أمنته القوات المسلحة وضمنت حرية التصويت بلا عوائق؟
2- هل كانت انتخابات مجلسى الشعب والشورى، التى حقق فيها الإخوان المسلمون والسلفيون نجاحاً لافتاً، مشوبة بالتزوير أو التلاعب؟ ألم يكن الشعب هو من اختار ممثليه، دون نظر إلى طبيعة هذا الاختيار؟
3- ألم تكن الأحزاب غير الإسلامية هى التى سعت إلى التحالف مع الإخوان المسلمين وانهالت بالمديح على الجماعة وسلميتها ووسطيتها وإيمانها بالديمقراطية؟
4- ألم ينجح عدد غير قليل من ممثلى الأحزاب المدنية على قائمة التحالف الذى يتزعمه حزب الحرية والعدالة، وهؤلاء هم من انقلبوا على الإخوان وحزبهم فيما بعد، واتهموا المجلس العسكرى بالتحالف مع الإخوان؟
5- هل تدخل المجلس العسكرى فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التى شهد العالم كله بنزاهتها وشفافيتها؟ وهل تدخل المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر فى جولة الإعادة بين مرشح الإخوان محمد مرسى والفريق أحمد شفيق؟
الأسئلة السابقة جميعاً معروفة الإجابات، ولا أحد ينسى موقف الإعلام فى دعم الإخوان والمرشح محمد مرسى فى جولة الإعادة، واكتمال الوعى بدروس التجربة لن يتحقق بمعزل عن الإقرار بأن نجاح الإخوان وتفوقهم مردود إلى قوتهم النسبية من ناحية، وضعف وتهافت الأحزاب المنافسة من ناحية أخرى.
كان المجلس العسكرى حريصاً على التوازن السياسى وخلق كيانات جديدة تثرى الحياة السياسية بعد ثورة 25 يناير، وقد اجتمعت مع مئات من شباب الحركات الثورية، وطالبتهم بتكوين كيانات قوية قادرة على المنافسة، وتعهدت لهم بتقديم كل دعم ممكن لكنهم -للأسف الشديد- لم يتفقوا على الحد الأدنى من المبادئ والأسس، وتحولوا إلى مجموعة من الجزر الصغيرة المتناثرة التى لا تملك تأثيراً أو نفوذاً فى الشارع المصرى.
الأحزاب بلا قواعد جماهيرية، ولا نفوذ لها أو تأثيراً فى الشارع، وأغلب هذه الأحزاب تبدأ نخبوية والزعماء فيها أكثر من الأعضاء، القيادات تنحصر بين مسئولين متقاعدين ورجال أعمال يبحثون عن المصالح أو الشهرة، وتنعكس هذه النشأة بالضرورة على البرامج والمصداقية فى الشارع الذى لا يلمس لهم وجوداً فعالاً، فينصرف عنهم ويتجه إلى الإخوان والسلفيين، ليس لأنهم الأكثر تعبيراً عن حاجاته، بل لأنهم يقتربون منه فى ممارسات الحياة اليومية.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

قصة الحاكم "عحا" أول ملوك مصر الفرعونية.. بين التأريخ العلمي والتفسير الشعبي

العمل في الحفريات الاثرية

* سلامة عبد الحميد

في الرابع من شهر سبتمبر 2013 نشرت ريبيكا موريل المحررة العلمية في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تقريرا حول ما اعتبر كشفا جديدا في تاريخ الحضارة الفرعونية يتعلق بترتيب ملوك الأسرة الأولى التي حكمت مصر الموحدة في الفترة الزمنية التقريبية 4 ألاف عام قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
وكشف التقرير بعضا من تفاصيل بحث علمي لستة من الباحثين المتخصصين أشرف عليهم البروفيسور ميشيل دي من مختبر بحوث الآثار بجامعة أوكسفورد البريطانية، التي تعد أحد أهم جامعات العالم، وموضوع البحث عن اكتشاف تفاصيل حقبة زمنية جديدة في التاريخ المصري القديم تتعلق بترتيب ملوك الأسرة الأولى.
أكد فريق العلماء الذي يترأسه البروفيسور دي باستخدام تحليلات الكربون المشع وبعض النماذج الحسابية الإلكترونية الحديثة أن التحول من دولة الأراضي الزراعية المتفرقة إلى دولة مدنية يحكمها ملك قد تمت بسرعة أكثر مما كان يعتقد سابقا.
لكن الكشف الأهم الذي احتفى به كثيرون من غير المتخصصين في علم المصريات أو الاثار عموما، خاصة في مصر، كان اسم أول ملوك الأسرة الأولى بعد مؤسسها الملك مينا نارمر الشهير بأنه موحد القطرين الشمالي والجنوبي في دولة واحدة تعد أولى دول العالم وفق المتعارف عليه حاليا لما يطلق عليه الدولة.
تحدث علماء جامعة أوكسفورد عن الحاكم الأول في الحضارة المصرية القديمة الذي كان اسمه الملك الفرعون "حور عحا" والذي حكم مصر الموحدة كأول ملك حقيقي يجلس على عرش البلاد عام 3100 قبل الميلاد تقريبا. ليتحول اسم الملك إلى أهم ما في الكشف العلمي على الرغم من أنه ليس الأهم على الإطلاق، وعلى الرغم من أن اسمه معروف مسبقا قبل أكثر من مئة عام.
كان علماء المصريات يكتبون في أوائل القرن العشرين أسماء الملوك الفراعنة دون فصل "حور" عن اسم الملك، إلا أن توالي الكشوفات الأثرية ومعرفة المزيد من أسماء الملوك أكدت أن إضافة "حور" لاسم الملك الفرعون ليست إلا تشريفا له بنسبته إلى إله المصريين القدماء الأبرز "حورس" بما يعني أن ملكنا المقصود كان اسمه "عحا" وليس "حورعحا".
وتعني "عحا" في اللغة المصرية القديمة "المحارب" أو "الصقر المحارب" Fighting Hawk وتختلف النظريات في نسب الملك الفرعون لكن الأكثر شيوعا أنه ابن الملك الفرعون مينا نارمر وزوجته الملكة "نيت حوتيب".
ويشير كثير من علماء المصريات إلى "عحا" باعتباره أول ملوك مصر وأول ملوك الأسرة الأولى بينما قائمة ملوك الأسر التي وجدت في حفريات لاحقة تضعه في المرتبة الثانية بعد الملك "مينا نارمر" الذي يعد والد كل ملوك الأسرة الأولى، وهو أمر يجعل العلماء أيضا يتعاملون مع "عحا" باعتباره الملك الفرعون الأول في الأسرة الأولى وأن المؤسس هو الأب فقط.
ووفقا لتقويم Aegyptiaca للكاهن الفرعوني مانيتون  Manetho، أحد كهنة معبد الإله "رع" والذي كتب في الفترة من (285- 246) قبل الميلاد ويعتد به في معرفة تواريخ ملوك الفراعنة، فإن الملك "عحا" حكم مصر الموحدة مدة تتفاوت بين 62 عاما و64 عاما قام خلالها بتثبيت دعائم الدولة والقضاء على كل أعداءها.

شعار الملك عحا
المثير أنه تم الإحتفاء بالبحث البريطاني الجديد بشكل كبير عالميا من جانب علماء المصريات وعشاق الحضارة الفرعونية، وما أكثرهم، لكن في مصر كان الوضع مختلفا تماما حيث تجاهل كثيرون الكشف العلمي والبحث الأثري وجهد الباحثين، وركزوا على اسم الملك المصري الأول "عحا".
سبب التركيز كان في البداية ساخرا وتهكميا كون الاسم يرمز في الوعي الشعبي المصري إلى لفظة عامية شهيرة تعني الإعتراض أو الرفض هي "أحا" ويرجع كثيرون أصلها إلى الفرعونية ويؤكدون أنها جملة تم توارثها عبر الأجيال وفق الذاكرة السمعية مثل غيرها من الكلمات الفرعونية التي لازال المصريين يستخدمونها ومنها على سبيل المثال "أوبح" بمعنى "إحمل" و"إمبو" بمعنى "إشرب" وغيرها من الكلمات الفرعونية الباقية.
لكن هذا لا يعني أن هناك أيضا روايات رائجة أخرى حول أصل "أحا" وطريقة اشتقاقها بعضها يرجع إلى العصر الفاطمي وبعضها يرجع إلى عصور لاحقة، أشهرها أنه في العصر الفاطمي منع الحاكم المصريين من التلفظ بأي كلمة لها علاقة بكلمة (احتجاج) ومشتقاتها (أحتج، نحتج،...)... فقام المصريون بتحوير كلمة أحتج إلى (أحتا)، ثم بعدها وبمرور الوقت أصبحت (أحا). وعندما ألغي قانون تجريم التلفظ بكلمة (أحتج) ظل المصريين يستخدمون كلمة (أحا) بعد أن أصبحت من مفردات قاموسهم اليومي.
البعض يعتبرها أيضا لفظة عربية مشتقة من اللفظ "أح" الذي يعني في المعاجم التعبير بصوت مسموع عن الغضب أو قسوة المرض أو الرفض أو الإحتجاج.
ويعرف المصريون في أغلبهم استخداما شهيرا للفظة "أحا" في الحياة العامة كهتاف في مسيرات دون خجل ولا مواربة أو اعتبارها لفظة مذمومة أو بذيئة، وإن كانت الواقعة الشهيرة سياسية في المقام الأول بما يعني عدم الإلتفات عادة إلى كون الهتاف بذيئا، الواقعة جرت نهاية عام 1967 وتحديدا بعد هزيمة حرب الأيام الستة التي عرفت إعلاميا باسم "النكسة".
عندها قرر الرئيس جمال عبد الناصر في خطاب شهير أن "يتنحى" عن الحكم باعتبار مسئوليته المباشرة عن الهزيمة الفادحة.. لتخرج مظاهرات ومسيرات في أنحاء مصر تطالبه بالعدول عن قراره كان أحد أبرز هتافاتها "أحا أحا لا تتنحى".
ربما كانت الهتافات مدبرة من جانب النظام الحاكم، وهذا ما ردده كثيرون لاحقا خاصة ممن يكرهون عبد الناصر أو يعتبرونه حاكما مخادعا، لكن لا يشكك كثيرون في أن الهتاف كان من صنع النظام مثل المظاهرات، ومن يدري ربما كان مصنوعا أيضا!.

قطع أثرية محفور عليها اسم وشعار الفرعون عحا
الأهم أن ظهور اسم ملك مصر الأول "عحا" كان سببا في ظهور رواية جديدة لمعنى لفظة الإعتراض الشعبية المصرية الشهيرة، والتي بات معظم المصريون يعتبرونها لفظة بذيئة ولا يقبلون التلفظ بها في المجتمعات المحترمة أو في حضور النساء والأطفال.
الرواية الجديدة حول أصل لفظة "أحا" بات يتناقلها الشباب دون معرفة مصدرها الأصلي أو بالأحرى مؤلفها عبر مواقع التواصل الإجتماعي الإلكترونية بشكل واسع باعتبارها تفسير منطقي مقبول، من وجهة نظرهم التي لا تخلو من سخرية مريرة، لأصل الكلمة الشهيرة التي لم يعد التلفظ بها يخلو من طابع سياسي كما كل شيء في مصر.
النظرية الشائعة مفادها وفقا لما يتداوله الشباب وبعد كثير من التنقيح طبعا لما يقال:
كان المصري القديم قبل معرفته بالدولة كشكل رسمي معترف به للحكم، كان حرا في حياته، يزرع أرضه ويأكل من  ثمار ما يزرعه وليس مطالبا بالإذعان لأي حاكم أو والي أو فرعون أو ملك، وليس مطالبا بدفع الضرائب أو الخدمة الإجبارية كجندي أو العمل قسرا لدى الحاكم في بناء القصور والمقابر وغير ذلك.
كان المصري حرا يعيش مع عائلته في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد ويسير وفق منطق القوة في الأغلب، حتى جاء مينا نارمر ووحد القطرين وبدأت تظهر الدولة الرسمية بحاكمها وأمراءها ووزراءها وقادتها وجندها وجباة الضرائب فيها، إلى غير ذلك من التقسيمات الإدارية للوظائف في الدول.
في عهد مينا نارمر موحد القطرين لم تكن الدولة قد استقرت بعد ولم يكن للحاكم السيطرة الكاملة على البلاد خاصة وأنه كان لازال يعمل على توطيد حكمه ومحاربة مناوئيه وتخليص الدولة الناشئة من أعداءها، بينما في عهد خليفته "عحا"، وكثير من علماء المصريات يعتبرونه ابنه، كانت الدولة أكثر استقرارا وبدأت التقسيمات الإدارية والوظائف والمهام الرسمية وبالتالي القيود على مواطني الدولة.
كان مينا نارمر مشغولا عن الحكم وبهرجة الملك بتثبيت قواعد الدولة ومنع الإنقلاب عليها وعدم تفتتها مجددا بعدما وحد الشمال والجنوب، ومنعه هذا بلا شك من ممارسة أليات الحكم على المواطنين العاديين الذين كانو يخشون سطوة الملك وجنوده الذين لم يكن بالإمكان مخالفتهم كونهم في حالة حرب.
ربما ما وقع على المواطنين في تلك الفترة أشد خطرا وفتكا مما جرى في عهد خليفته، لكن المنطق الشعبي دائما يقول أن الشعوب المسالمة لا تتذمر أبدا في أوقات الحروب، إما خوفا من بطش الحاكم المحارب وإما خوفا من هزيمته والبطش بهم على أيدي عدوه.
بعدما استقرت الدولة في عهد مينا ثم زاد الاستقرار في عهد "عحا" خليفته الذي حارب الليبيين والسودانيين الذين كانو يعادون الدولة الناشئة وانتصر عليهم، بدأ الملك "عحا" يرتب شئون المملكة لتظهر مظالم المواطنين بشكل كبير خاصة المظالم المالية، حيث أن الملك الفرعون بات يمتلك كل الأراضي بمن عليها وما عليها ولم يعد للمواطن العادي ملكية خاصة أو حق الإعتراض حتى على تأميم الفرعون لأملاكه.
يرى أصحاب النظرية من المصريين أن لفظة الإعتراض الشعبية الشهيرة اتخذت من اسم الملك الفرعون "عحا" وسيلة للتعبير عن الغضب بما لا يعرض من يتلفظ بها للعقاب، كان يكفي أن تتلفظ باسم الفرعون أمام الأخرين ليفهمو، وفقا للذائقة الشعبية المتوارثة، أنك معترض أو ممتعض أو غاضب.
وكعادة كل الكلمات التي نقلت من حضارات سابقة في مصر وتواصل استخدامها لاحقا لتؤدي نفس المعنى، فإن تحويرا وتغييرات طفيفة طرأت على الكلمة وانتهت بها إلى ما هي عليه حاليا من "عحا" إلى "أحا".

النظرية الشعبية غير الموثقة أو الموثوقة، والتي ربما يكون فيها الكثير من التجاوز العلمي، وربما الغرض السياسي، لها بعض الشواهد في كتابات علماء التاريخ الفرعوني، وحتى في البحث الأخير الصادر عن علماء جامعة أوكسفورد الذي يؤكد أن المصري القديم عاش في عصر ما قبل الأسرات في مجموعات وقبائل على ضفاف النيل منذ 4000 عام قبل الميلاد، ولكن بعد بضع مئات من الأعوام تحول المجتمع الإقليمي الزراعي القائم في مصر إلى دولة يحكمها ملك واحد.
وقال البروفيسور ميشيل دي لبي بي سي إن الفترة الزمنية التي تحولت فيها مصر من مجتمع قبلي إقليمي زراعي إلى دولة مدنية لها حاكم واحد اكتشف أنها أقصر بحوالي 300 أو 400 سنة عما كان سائدا في السابق، مؤكدا أن هذا شيء مثير للإهتمام لأن هناك دولا مثل دول ما بين النهرين التي كانت تعتمد على الزراعة أيضا وتعيش في مجتمع مماثل للمجتمع المصري القديم استغرق الأمر فيها آلاف السنين قبل أن تقترب من أي مفهوم للدولة.
لم تنته القصة عند هذا الحد، بل برزت الكثير من القصص الأخرى التي تظهر جوانب عدة في حكاية الملك الفرعون "عحا" الذي بات وكأنه اكتشاف جديد لباحثي جامعة أوكسفورد رغم أن اسمه متداول بين علماء المصريات منذ أكثر من مئة عام وصدرت عنه كتب وذكر اسمه في الكثير من الكتب وله أثار باقية في مصر وقطع أثرية في عدد من متاحف العالم.

اسم الملك "عحا" ربما ظهر للعالم للمرة الأولى مع اكتشاف مقبرته في "أبيدوس" عام 1899 لكنه بات ذائع الصيت بعد اكتشاف مقبرة أخرى في "سقارة" عام 1937على يد عالم المصريات البريطاني المعروف البروفيسور والتر إمري Walter Bryan Emery "1902- 1971" الذي كتب في العام التالي للكشف الأثري كتابا عن "حور عحا" باعتباره أول ملوك الأسرة الأولى روى فيه قصة اكتشاف المقبرة وتفاصيلا حول الملك نتجت عن الاكتشاف الذي ضم الكثير من القطع الأثرية الباقية حتى اليوم.

والتر إمري شابا في مصر
وجاء البروفيسور والتر إمري إلى مصر من ليفربول عام 1923 وعمره 21 عاما فقط كمهندس سفن لا علاقة له بالأثار أو الإكتشافات الأثرية قبل أن يتحول إهتمامه بالكامل إلى هذا المجال ويتخصص فيه ليظل مقيما بالكامل في مصر حتى بداية الخمسينيات عندما عين أستاذا لعلم المصريات في جامعة لندن، ليبدأ مرحلة التنقل بين مصر وبريطانيا حتى وفاته بعد أن بات أحد أشهر علماء المصريات المتخصصين في الأسر الأولى وشارك وأدار وأشرف على الكثير من الإكتشافات الأثرية الهامة.
وللعالم البريطاني عدة كتب شهيرة حول الفترة التي عاش فيها الفرعون "عحا" بينها "مصر في العصر العتيق: الأسرتان الأولى والثانية" في 3 أجزاء صدرت بين 1949 و1958 وصدرت ترجمتها العربية الأولى عام 1961 وكتاب "مصر وبلاد النوبة" الصادر عام 1965 وغيرها.

وثيقة نادرة أخرى عبارة عن مقال لعالم الآثار المصري زكي يوسف سعد الذي كان أحد مساعدي والتر إمري عند اكتشاف مقبرة "سقارة" نشر في مجلة "الهلال" المصرية عدد شهر أغسطس عام 1938 بعنوان "کشف أثری خطیر: أول فرعون حوراحا یوحد مصر قبل مینا".
وكتب زكي يوسف سعد في المقال: اشتهر "مينا" بانه أول الملوك القدماء المصريين، ورسخ ذلك في أذهان الجميع إلى أن قلبت الحفريات الحديثة بسقارة هذه الفكرة من أساسها، وظهر أن "نعر مر" المشهور بمينا قد سبقه غيره من الملوك في الأسرة الاولى وأنه لم يكن هو بالذات الذي وحد الوجهين بل وحدهما ملك غيره.
ويكمل المقال: والذي ثبت الأن أن نسبة توحيد الوجهين إلى الملك "نعرمر" وأسبقيته إلى الحكم زعم لا يرتكن إلى براهين وطيدة كالتي رجحت كفة الملك "حور أحا" في هذا الصدد وجعلته بحق أول من حكم مصر وأول من وحد الوجهين.

زنكوغراف لجزء من مقال زكي يوسف سعد في مجلة "الهلال"
وفي إطار الدليل على ما قال كتب زكي يوسف سعد في المقال بعدما تحدث عن كيفية اكتشاف المقبرة والجهد المبذول في اكتشافها: وقد وجدنا كثيرا من الأختام تمثل أشياء لم تعلم لرجال الأثار قبل اليوم، وأغرب ما فيها مناظر لرمز الوجه القبلي يدب على رجلين ويسعى نحو الملك، وأخرى لرمز الوجه البحري بنفس الصورة، وفي ذلك الدليل البارز على علاقة هذا الملك المباشرة بتوحيد الوجهين وعلى أن صاحب هذه المقبرة هو أول ملك ضم الوجهين معا مكونا المملكة المصرية المتحدة التي أصبحت فيما بعد أقوى إمبراطورية في العالم القديم، دانت الملوك لفراعينهم وخضع لسلطانهم جيرانهم أجمعين.
ورغم أن تفاصيلا كثيرة حول كون "عحا" هو من وحد القطرين في مصر وليس "مينا نارمر" تم تفنيدها لاحقا من جانب علماء المصريات إلا أن مقال زكي يوسف سعد يظل وثيقة شاهدة على كشف أثري كبير وتاريخ لم يثبت بعد بالدليل القاطع كل تفاصيله وربما تظهر اكتشافات قادمة عكس كل ما فيه.

المثير للعجب أيضا تداول البعض اسم الملك الفرعون "عحا" وكأنه اكتشاف جديد، ربما لو توقف الأمر عند حد ما كتب عنه في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي أو بقاء اسمه داخل الكتب ومعامل الأبحات ودراسات علماء المصريات فقط، لكان أمر الجهل باسمه مقبولا بعض الشيء، لكن اسم الملك "عحا" تردد قبل سنوات قليلة بشكل واسع بعد اكتشاف مقبرة جديدة تضم ما اعتبر أقدم مومياء مصرية.
وأعلن المجلس الأعلى للأثار المصرية في 23 مارس 2003 عن الكشف الذي كان: العثور على "أقدم مومياء" تؤكد محاولات مبكرة في عمليات التحنيط في الحضارة الفرعونية، وتابوتا من خشب الأرز في مقبرتين شمال سقارة من زمن الأسرة الأولى (3200 قبل الميلاد).
وقال الدكتور زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للأثار في مصر وقتها في الإعلان عن الكشف الجديد إن "المومياء تعود إلى عهد الملك حور عحا أول ملوك الأسرة الأولى".
وأضاف "وجدنا المومياء مثل هيكل عظمي ملفوف بالكتان دفن على شاكلة الجنين في بطن أمه وهذه الطريقة تعتبر من أوائل محاولات التحنيط التي تميزت بها سمات الدفن في عهد الأسرة الأولى".
وأشار حواس إلى أن "العالم البريطاني الراحل والتر إمري كان أول من اكتشف مقابر الأسرة الأولى في منطقة سقارة ما أثار حيرة علماء الأثار لوجود مقبرتين باسم ملك واحد في أبيدوس (سوهاج) وفي سقارة".
وختم قائلا "قبل خمسة أعوام، استطاع العلماء أن يقرروا أن ملوك الأسرة الأولى دفنوا في أبيدوس أما المقابر في سقارة فهي تنسب إلى موظفي الأسرة الأولى".

والتر إمري شابا وعجوزا

كان "عحا" معروفا إذن، واسمه متداول ومنشور في الصحف العادية وليس فقط الدوريات الأثرية أو العلمية، لكن الاسم لم يلفت أبدا نظر كثيرين ولم يتم النظر إليه باعتباره قرينا أو أصلا للفظة الشعبية الدارجة المعبرة عن الغضب والرفض.
ربما يعيدنا هذا مجددا إلى التفسير السياسي، حيث بات إعلان الرفض والتعبير عن الغضب بعد الثورة في مصر، والربيع العربي عموما، أمرا عاديا وبات تفسير كل ما يجري وفقا لنظريات سياسية أو بالأحرى مؤامرات سياسية شائعا ومستساغا عما كانت عليه الأوضاع في السابق وبالتالي فلا غضاضة من إطلاق رواية شعبية جديدة للإعتراض على الحكام أو نظام الحكم باستخدام أحداث تاريخية أو واقعة مستقاة من التاريخ ظهرت على السطح فجأة رغم أنها كانت معروفة سابقة.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية