الخميس، 27 ديسمبر 2018

انتفاضات عربية



كلّما انتفض أفراد من أيّ شعب عربي طلباً للحقوق والحريات والعيش الكريم التي تتجاهلها حكوماتهم الديكتاتورية الفاشلة الفاسدة المستبدة، ظهر من يتّهمهم بالخيانة في بلادهم، وفي بلاد أخرى تخشى أن تصلها عدوى الاحتجاجات الاجتماعية. الشعوب العربية مقهورة وحقوقها ضائعة أو منقوصة. حتى هؤلاء الذين يروّجون أنّهم يتمتعون بالعيش الرغيد، فإنّ أحداً منهم لا يملك رفع صوته لانتقاد الحكومة أو الحاكم، مهما فعل؛ وهو يكتفي بالتمتع بالمال لكنّه لا يعرف المعنى الحقيقي للحرية، وكثيراً ما يزعم هؤلاء أنّ العيش في أمان أهمّ من الحرية. الحكومات في العالم العربي، شرقاً وغرباً، مستبّدة أو تدعم الاستبداد، ولو زعم بعضها العكس، تمارس التطبيع مع إسرائيل علناً وسراً، ثمّ تروّج أنّها تدعم حقّ الشعب الفلسطيني في التحرّر. تأتمر بأوامر ترامب أو بوتين، ثم تدّعي أنّها تحكم دولاً ذات سيادة. يكره أغلب حكام العرب ثورات الربيع العربي لأنّ مطالبها كانت مشاركة الشعب في الثروة والقرار، بينما كثير منهم يفعل ما يشاء وقتما يشاء من دون حساب، ولا تعرف الشعوب العربية الديمقراطية، ما يجعل أوضاعها مزرية. يرفض البعض حكم العسكريّين بعد أن ثبت فشله حول العالم، بينما ما زال البعض عربياً يتمسّك به، والأوضاع في مصر وفي الجزائر وفي السودان وفي موريتانيا تشهد بالفشل. بشار الأسد ليس عسكرياً، لكنّه أيضاً ليس رئيساً ديمقراطياً لسورية، وإنّما ورث الحكم من والده الجنرال. عمر البشير جاء به الإخوان في انقلاب عسكري إلى سدّة الحكم في السودان، ظناً بأنّه سيترك السلطة لاحقاً، لكنه لم يفعل. وسبقه في ذلك جمال عبد الناصر في مصر، الذي أطاح بالرئيس محمد نجيب حين فكر في تسليم السلطة إلى المدنيين ليعود الجيش إلى ممارسة مهامه في حماية الحدود. لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن المؤامرة على بلاد العرب واضحة، إذ إنّ هناك من قرّر تدمير كلّ بلاد العرب الكبرى الغنية، أو تحويل شعوبها إلى فقراء، أو إغراقهم في الجهل. هذا هو الوضع حالياً في حواضر عربية كبرى مثل العراق وسورية واليمن والسودان والجزائر، وسبق ذلك فلسطين. من يدمّر البلدان العربية ليس عربياً، هو المستعمر القديم نفسه، وحكّام العرب متواطئون معه. مصر والسعودية على وجه الخصوص. في أيّ كارثة عربية، يتجاهل حكام العرب الضحايا لأنّهم عادة متورّطون أو مسؤولون أو مقصّرون. قارن ذلك بتوافدهم على باريس للمشاركة في مسيرة ضدّ الإرهاب. في تظاهرات السودان، يتجاهل الإعلام العربي الأحداث، وكذا يفعل الإعلام الغربي. قارن ذلك بالتغطية الواسعة لتظاهرات السترات الصفراء في فرنسا.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

ذكريات ضائعة


جلس صديقي القادم من مصر، يحكي عن توجهه مؤخرا إلى أحد المقاهي التي كنا نرتادها سويا على ضفة نهر النيل في الجيزة، وكيف أنه لم يجد المقهى الذي تم إزالة جميع معالمه، وأنه اضطر إلى التوجه لمقهى ثان في نفس المنطقة لم تكن تعجبنا جلسته أو مشروباته، أو يدللنا العاملون فيه.
قال صديقي إنه كان منزعجا من تغير طبيعة المنطقة المحيطة بسبب ظهور بناء ضخم أحال هدوءها السابق إلى ضجيج وزحام متواصل، لكن كل هذا كان هينا مقارنة بغضبه من زوال المكان الذي كانت تقصده مجموعتنا لسنوات، وأن ذكريات المقهى الكثيرة مرت أمامه كشريط فيديو حين اكتشف إزالته.
كنت أتابع حديثه منزعجا أيضا، لكن انزعاجي كان أقل حدة منه لأسباب مختلفة.
ورد ذكر المقهى الذي كان يحكي عنه قبل فترة قصيرة في حديث جمعني بأصدقاء أخرين حول مناطق التجمع في القاهرة، ووقتها كنت منزعجا جدا، ليس لأنه تمت إزالته، إذ لم أكن أعلم وقتها، وإنما كان مصدر انزعاجي أنني لم أستطع تذكر اسمه.
لاشك أن فترات الغربة تجعلنا ننسى كثير من التفاصيل التي كانت سابقا هامة في حياتنا، وهي إن كانت تفاصيل صغيرة، ونسيانها ليس أمرا ذا شان، لكنها تؤكد أن عقولنا تقوم بطريقة غير محسوسة بتفريغ تفاصيل ومعلومات قديمة لتحل محلها أخرى عن أماكن وذكريات لازلنا على علاقة مباشرة بها.
ذكرتني تلك الواقعة بما كتبه على "تويتر" في شهور غربتي الأولى قبل نحو خمس سنوات، أحد رفاق الثورة السابقين الذي أغضبه رفضي تأييدهم للانقلاب العسكري، فاعتبر أنني انقلبت على "الشلة"، وإنني خسرتهم كأصدقاء.
بعد نحو ثلاث سنوات مما كتبه الصديق السابق عني، عرفت أنه اضطر إلى مغادرة مصر خوفا من اعتقاله بعدما بات يقول إن ما جرى في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، هو "انقلاب عسكري"، بعد أن كان يسميه "الثورة الثانية"، وقال لي صديق مشترك إنه طلب منه إبلاغي بإعتذاره.
أتابع طيلة السنوات الماضية آراء كثير من رفاق الثورة السابقين الذين شاركوا في دعم حركة "تمرد"، وشاركوا في تظاهرات الثلاثين من يونيو، رغم وضوح أنها كانت مصنوعة للإجهاز على كل مكتسبات ثورة يناير.
بعضهم اكتشف بعد فوات الأوان، أنه تم استخدامه في الانقلاب على الثورة التي كان مؤمنا بها، وأخرين لازالت تأخذهم العزة بالإثم ويرفضون الاعتراف بالجريمة التي ارتكبوها في حق تلك الثورة.

لازلت غير قادر على التسامح مع المعترفين بالخطأ، خصوصا الأصدقاء السابقين منهم، ولا أفهم أسباب عدم إزالة عقلي لمواقفهم الكريهة تلك من ذاكرتي مثلما حدث مع أمور أخرى لا تزعجني بنفس القدر.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

"كفرناحوم"... أربعة أطفال يعيشون المأساة نفسها





عن: العربي الجديد
قدمت المخرجة اللبنانية نادين لبكي في أحدث أفلامها "كفرناحوم" الخليط الإنساني نفسه الذي عرفته أفلامها السابقة، والذي كان سبباً في تهافت مهرجانات دولية على أفلامها، ولا شك في أن ذلك كان سبباً مباشراً في حصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي الدولي، ثم حصوله قبل أيام على جائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان "أجيال" السينمائي في الدوحة.

كنت حريصا على مشاهدة الفيلم بعدما تابعت على مدار أكثر من شهرين حالة من الجدل التي أثارها داخل لبنان على خلفية سياسية، أو بالأحرى طائفية، وما يهمني في الفيلم، هو موضوعه الإنساني، وأسلوب تقديم هذا الموضوع، فضلاً عن العناصر الفنية الأساسية من تمثيل وتصوير وموسيقى وإيقاع وغيرها.
بعد العرض الوحيد للفيلم الذي حضره، في دار السينما في قطر، عددٌ كبير نسبياً من الأشخاص، كانت آثار الدموع واضحة في أعين كثير من الجمهور، ومعظمهم سوريون ولبنانيون، بسبب المشاهد المأساوية التي ضمها الفيلم، حتى أن البعض اعتبر تلك المشاهد مقصودة لاستدرار التعاطف، وهذا لا يعيب الفيلم، بل على العكس هو أحد أسباب نجاحه.
الطفل "زين" هو محور الفيلم الأساسي، ومن خلال قصته المروعة انتقلت نادين لبكي لاستعراض عدد من المآسي الأخرى التي لا تقل فداحة عن مأساة الطفل الذي ينتمي إلى فئة "مكتومي القيد"، وهم أشخاص لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وبالتالي لا يمكنهم ولوج المدارس أو الحصول على العلاج، وغير ذلك من الخدمات الحكومية.
يعيش زين وأشقاؤه الخمسة مع والديهم في الحي الفقير على هامش الحياة، لكن الطفل الذكي يحاول التحايل على كل الظروف ليوفر لنفسه ولإخوته بعضاً من الكرامة في ظل تقاعس والديه عن ذلك، ربما لأن قسوة الظروف أكبر من قدرتهما على التحمل، وفق محاولتهما للتبرير في أحد حوارات الفيلم.
يرفض الطفل زواج شقيقته (11 سنة)، ويحاول إقناع أبويه بعدم تزويجها، لكنه يفشل لأنهما اتخذا قرارهما بمنح الطفلة لابن صاحب المنزل مقابل البقاء في المنزل الضيق الذي يؤوي العائلة. عندها يقرر "زين" مغادرة المنزل غاضباً، لتبدأ سلسلة أخرى من المصاعب المتشابكة مع قصص آخرين.
كانت نادين لبكي جريئة في طرح قضية هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة، والذين لا تلتفت إليهم الحكومات، لكنها كانت مغامرة بطرح قضية الخادمات الإثيوبيات الشائكة في المجتمع اللبناني؛ فالفتاة الإثيوبية "راحيل" قررت الاستغناء عن أوراقها الثبوتية حتى لا تفقد طفلها الذي أنجبته من علاقة غير شرعية، ولجأت إلى أحد المزورين ليمنحها أوراقاً تخولها البقاء في لبنان بصحبة ابنها، في حين حاول المزور- طويلاً- إقناعها ببيع ابنها له.
انخرط "زين" في حياة "راحيل" وابنها، ربما بسبب تقارب الظروف، ثم حاجته إلى من يؤويه، وحاجتها إلى من يرعى ابنها خلال فترة عملها، لكن فترة الهدوء انتهت سريعاً باعتقالها بتهمة عدم امتلاكها رخصة تخولها العمل، ما دفع الطفل زين بعد محاولات مضنية لرعاية ابن راحيل إلى التخلي عن الطفل للمزور.
خلال فترة الهدوء، برزت قصة ثالثة للطفلة السورية اللاجئة التي تبيع المناديل أو الزهور وغيرها لمن يقودون السيارات لتجمع المال الذي يمكنها من تحقيق حلمها بالهجرة إلى السويد، ورغم أن تلك القصة لم تأخذ حيزاً واسعاً في الفيلم، إلا أن تعبيرها الطفولي عن أحلامها يعبر عن جيل من الأطفال الضائعين، فكل آمالها في الهجرة تتمثل بحسب قولها في منزل خاص بها يمكنها أن تغلق بابه بنفسها، ويتاح لها فيه أن تسمح لمن تشاء أن يدخل وتمنع من تشاء من الدخول.
لم تكتفِ نادين لبكي بتلك المآسي الثلاث، إذ قذفت في وجوه جمهورها المأساة الرابعة التي مهدت لها في بداية الفيلم، فالطفلة "سحر"، شقيقة زين، التي زوّجها أهلها قسراً، ماتت على أبواب المستشفى الذي رفض استقبالها حين كانت تعاني من النزيف بسبب الحمل في سن مبكرة، وكان سبب رفض علاجها عدم امتلاكها أوراقاً ثبوتية.
يؤكد الفيلم أن الفقر هو أصل الشرور، وأحد أهم أسباب الكثير من الجرائم، فالطفل يسرق ويروج المخدرات، ثم يحاول قتل الشاب الذي يعتبره مسؤولاً عن وفاة أخته، قبل أن يقرر مقاضاة والديه اللذين يعتبرهما سبباً مباشراً في المأساة التي يعيشها هو وإخوته.


كان يفترض بالفيلم أن يهتم أكثر بقصة "سحر" التي كانت سبباً مباشراً في تطور الأحداث، بداية من هروب بطله، ثم دخوله السجن، إلى تحول قصته إلى قضية إعلامية، لكنها رغم ذلك ظهرت مهمشة، فشاهدنا والدها يجبرها على الذهاب إلى منزل زوجها، ثم انقطعت أخبارها، قبل أن نعرف لاحقا أنها ماتت على أبواب المستشفى.
يمكن أيضاً ملاحظة الافتعال الواضح في جعل زين نجماً إعلامياً من خلال المكالمة الهاتفية من داخل السجن بأحد البرامج التلفزيونية، وهذه الواقعة من الصعب تصورها في الواقع، والتي كان يمكن إيجاد بديل درامي لها، لكن يبقى لصناع السينما حق اختيار طريقة الطرح التي تناسبهم، حتى إن لم تعجبنا.
تشابك القصص المأساوية للأطفال الأربعة، "زين" وشقيقته "سحر"، وصديقته اللاجئة السورية وابن راحيل الرضيع، يجعل فيلم "كفر ناحوم" يستحق الاهتمام، رغم بعض مواضع الوهن، إذ قدمت نادين لبكي المشكلة الإنسانية في إطار سينمائي جيد، ووفق إيقاع درامي يجذب الانتباه، ولا يخلو من موسيقى معبرة، وتقنيات تصوير محترفة.
لكن أداء الأبطال الأطفال، يظل أكثر الأمور تميزاً، وعندما تعرف أن هؤلاء الأطفال لم يسبق لأي منهم التمثيل، فإنك عندها تدرك المجهود الكبير الذي بذلته لبكي في تدريبهم وإدارتهم للوصول إلى هذا المستوى المتميز الذي يقارن بأداء مميز للممثلين المحترفين المشاركين في الفيلم.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

أكذوبة تعدي الإسلام على حقوق النساء لتبرير #المساواة_في_الميراث


مظاهرات المطالبة بالمساواة في الميراث في تونس


كلما فتح موضوع بين الرجل والمرأة يظهر الجهل العظيم في تبريره. وكأن المقصود هو التهجم على ثوابت الدين الإسلامي وليس الحصول على مزيد من الحقوق للنساء.

مع احترامي للهوانم الفيمنست. لازم تناقشوا القضية من غير تعصب للجنس. ومن غير مزايدات الحقوق المهدرة، والتي باتت كأنها سيف مسلط على رقاب المجتمعات بحجة أن العالم ذكوري.


الأصل أن في المواريث أكثر من 30 حالة ترث فيها النساء مع الرجال. فيها 4 حالات فقط يرث الرجل (مثل حظ الأنثيين)، وفق نص الأية التي يستخدمها المبررين والمغالطين دون إحاطة بالقضية.

مثلا: لو امرأة ماتت عن زوج وبنت. يأخذ الزوج الربع، وترث البنت- الأنثى- النصف، فيكون نصيبها ضعف نصيب الرجل.
مثلا: لو مات رجل عن أولاد ذكور وإناث وأم وأب؛ ترث الأم مثل نصيب الأب.


والحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجلِ (مثل حظ الأنثيين)، أربعة فقط:
إذا وجدت البنت مع الابن وإِن تعددوا.
إذا وجدت الأخت لأب مع الْأخ لأب وإن تعددوا.
إذا وجدت الأخت الشقِيقة مع الأخ الشَقيق وإن تعددوا.
إذا وجدت بنت الابن مع ابن الابن وإن تعددوا.


المشكلة أعمق من ذاك دائما. فلو أن شخصا قرر منح ثروته كلها لأحد الورثة (ذكر أو أنثى) لن يستطيع البقية فعل شيء، ولا قيمة للقوانين لأن الشخص له حرية التصرف في ماله.

قانون المساواة في الميراث مجرد هيصة فارغة. وهو لا يعيد الحقوق كما يزعم من يروجون له. الحقوق تعود فقط بالاهتمام بالتعليم والوعي والأهم القضاء على الفقر.

كثير من الأصدقاء في يكررون أن بلدهم يسبق بقية بلدان العرب في الحريات والمساواة. ربما لديهم بعض الحق. لكن الواقع أنه لا فارق كبير بين تونس وبقية بلدان العرب في مستويات الفقر والجهل والبطالة والظلم. وكل هذا مسؤولية الحكام. وعلى الشعوب الضغط على حكامهم للحصول على الحقوق. ربما في تونس يستطيع الشعب فعل ذلك أكثر من بقية البلدان.

الخلاصة: تكرار أن النساء مظلومات أو محرومات بسبب قواعد الميراث في الإسلام هو محض كذب صريح في موضوع تم قتله بحثا لقرون، إذ إن هناك أكثر من 10 حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل. وحالات ترث فيها المرأة مثل نصيب الرجل. وحالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها نظيرها من الرجال.

كل هذا فى مقابل أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 19 نوفمبر 2018

بن سلمان في مذكرات محمد عبده


عرفت بلاد العرب مظاهر ترويج متماثلة لحكام جدد بشرنا المروجون لهم كذبا، بأنهم سيغيرون وجه الحياة إلى الأفضل، وسينقلون البلاد والعباد من عقود طويلة من الاستبداد والفساد إلى المستقبل، ثم لم نلبث أن اكتشفنا أن الحاكم الجديد ليس إلا نسخة أسوأ من سابقيه. تكرر هذا مع بشار الأسد في سورية، ولم يكتمل مع جمال مبارك في مصر، لكنه ينطبق حاليا بالكلية على ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، والذي وصفه فريق الترويج بأنه سيجدد وجه البلاد المتأخرة في مناح عدة عن كثير مما يعرفه العالم، خصوصا في مجالات الحقوق والحريات. لكن، وعلى غرار بشار الأسد، فإن الأمير الشاب الذي لا يمتلك من مقومات الحكم إلا كونه ابن الملك، أوقع البلاد في مشكلات ضخمة لم تشهدها في تاريخها القصير، رغم أنه لم يحكم رسميا بعد. ذكرتني أفعال بن سلمان بمقال ورد في مذكرات الإمام محمد عبده (1849- 1905)، رداً على إعلان الخديوي عباس حلمي الثاني الاحتفال بمرور مائة عام على حكم أسرته لمصر. كتب الإمام: "كانت البلاد تنتظر أن يشرق نور مدنية يضيء لأهلها طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم، أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم بصير فيضم العناصر الحية بعضها إلى بعض، ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة منها. فما الذي صنعه؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأساً يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه". وأضاف: "أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى. حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي لتصير البلاد جميعها إقطاعاً واحداً له، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة". وسأل محمد عبده: "هل فكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأياً في الحكومة؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟". ولم ينس التعريج على شيوخ السلطان، فقال عن خضوعهم للحاكم: "وقصارى أمره في الدين أنه كان يستميل بعض العلماء بالخُلَعْ، أو إجلاسهم على الموائد؛ لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه". ولا يمكننا في هذا المقام تجاهل المصير الذي انتهى إليه الخديوي عباس، إذ عزله الاحتلال الإنكليزي من الحكم في 19 ديسمبر 1914، ليكون آخر خديوي لمصر والسودان. فهل سيكون هذا نفس مصير محمد بن سلمان؟



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأربعاء، 14 نوفمبر 2018

حرب ماري كولفين الشخصية... فيلم إنساني عن حروب دموية




يكشف فيلم "حرب شخصية" (A Private War) عن جوانب مختلفة في حياة الصحافية الأميركية الراحلة ماري كولفين، ليست بالضرورة جوانب خفية، وإنما تفاصيل ووقائع لا يعرفها القارئ العادي لتقاريرها المتميزة من المناطق المشتعلة حول العالم في صحيفة "صنداي تايمز" اللندنية.


يستعرض الفيلم الذي يعرض حاليا، بحرفية فنية ملحوظة مدى قسوة تكرار معاينة أو العيش في مناطق العنف والقتل على حياة البشر، وكيف أن من جربوا الأمر مرة، أو مرات، تتغير حياتهم بالكلية، وأحيانا دون أن يشعروا هم أنفسهم بحجم هذا التغير.

روت ماري كولفين بأسلوبها المتميز تفاصيل مروعة عن وقائع عدة حروب، وكانت أول من كشف عن المقابر الجماعية لضحايا نظام صدام حسين في العراق، وأجرت حوارات مع قادة "نمور التاميل" المعارضة في سريلانكا خلال فترة احتدام الصراع، وهناك فقدت عينها اليسرى بعد انفجار قذيفة بالقرب منها خلال محاولتها التنقل بصحبة المقاتلين.
 لاحقا، انتقلت مع تفجر ثورات الربيع العربي إلى الشرق الأوسط، وكانت موجودة في ميدان التحرير يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، والمعروف إعلاميا باسم "جمعة الغضب"، ولاحقا كانت في ليبيا خلال تفجر الثورة ضد نظام حكم العقيد معمر القذافي، وأجرت حوارا صريحا مع القذافي شخصيا، وقالت لاحقا إنه كان يغازلها بشكل فج، وكانت شاهدا على مقتله على أيدي الثوار في أكتوبر/تشرين الأول 2011.





انتقلت بعدها إلى سورية، وعاشت مع مقاتلي الجيش الحر، ونقلت تفاصيل الجرائم والمجازر هناك، وكانت ضمن أصوات إعلامية قليلة تنقل الأحداث من على الأرض، وهناك لقيت حتفها في حمص في فبراير/شباط 2011 بعد استهداف المخبأ الذي كانت فيه مع آخرين.
استغل الفيلم تلك الجولات الصحافية في المناطق الساخنة لتسليط الضوء على شخصية كولفين، التي قامت بدورها الممثلة روزاموند بايك، والتغيرات التي طرأت على حياتها وطريقة تفكيرها. فالصحافية الأميركية المقيمة لسنوات في لندن تحولت مهنتها الخطرة إلى نوع من العشق المرضي، فهي لا ترتاح إلا بعد الوصول إلى أبعد مدى ممكن على جبهات القتال، ولا تعترف بالخطر مهما اقترب، وتستخدم كل ما تعرفه من مهارات، وكل ما تمتلكه من خبرات للوصول إلى التفاصيل والمعلومات التي تبني عليها تقاريرها إلى صحيفتها.





يحفل الفيلم بأصوات الرصاص والانفجارات والمطاردات، ومحاولات النجاة من الموت، لكن مخرجه ماثيو هاينمان ضمنه مزيجا من العلاقات الإنسانية المتشابكة والمتقاطعة التي تخبر الكثير عن شخصية البطلة المعقدة، فعلاقتها الغامضة بأبيها وغياب أمها عن حياتها لفترات طويلة كانت أحد أسباب شخصيتها الغريبة عن محيطها، ثم علاقتها المتوترة بزوجها صاحب العلاقات النسائية التي يبررها بانشغالها الدائم في عملها.
لا يمكن إنكار أن كل تلك الأمور كان لها تأثيرات واضحة على حياة كولفين، لكن القتل والدمار الذي عاشته كمراسلة حربية، والقصص المأساوية التي شاهدتها خلال عملها كان لها تأثير أكبر في جنوحها نحو ما يمكن أن نسميه إدمان الخطر.
المشاهد التي تلت اكتشافها فقدان عينها اليسرى في سريلانكا، كانت معبرة عن مدى قسوة حياتها، وقد أتاح المخرج مساحة جيدة لاستعراض تلك الفترة الحرجة في حياتها، والتي كانت تحاول فيها جاهدة استعادة قدرتها على العمل، أو بالأحرى الحياة، رغم بعض لحظات اليأس الواضحة.

خلال نقاش مع مدير تحرير الصحيفة اتهمته بتعمد البقاء في مكتبه الهادئ بينما تواصل هي وزملاؤها التواجد في مناطق الحروب والصراعات، فيما الرجل نفسه في مشهد آخر، كان يرجوها العودة إلى لندن فورا حرصا على سلامتها، فترفض بعناد.

اعتمد الفيلم بالأساس على سيرة ذاتية طويلة نشرتها مجلة "ماي فير" بعد 6 أشهر فقط على مقتل كولفين في 2012، وإن لم تستغرق مساحة رحلتها الأخيرة إلى حمص حيزا واسعا من أحداث الفيلم، إلا أنها كانت كافية لإظهار طبيعة مرحلة الإصرار على البقاء في المنطقة المشتعلة، حتى لو كلفها ذلك حياتها.

يحذرها المقاتلون الذين ترافقهم من الاتصال بالإنترنت عبر الهاتف حتى لا يتم كشف مكان مخبئهم، لكنها كادت ترتكب تلك الغلطة الفادحة حرصا على إرسال أحدث تقاريرها، لولا أن استوقفها في اللحظة الأخيرة مصورها الذي كان حاضرا لحظة وفاتها.

في مشهد آخر يطلب من الجميع مغادرة المخبأ بعد وصول معلومات حول قرب استهداف النظام السوري له، فتخرج مهرولة مع الآخرين، وفي منتصف طريق الهرب تقرر العودة مجددا لأنها ستشعر بخزي كبير إن هربت تاركة خلفها مئات النساء والأطفال الذين يحتاجون إلى جهودها في فضح جرائم النظام، والتي ربما تمنحهم فرصة أطول للبقاء على قيد الحياة.

جسدت روزاموند بايك الدور بصورة استثنائية، فتدربت لشهور على تقمص الشخصية، بل إنها تدربت على الوصول إلى طبقة صوتها الأجش المميزة، وربما ساعدها على ذلك كون كولفين شخصية معروفة يسهل الحصول على لقطات فيديو لها في مناسبات مختلفة بما يمكن الممثل من دراسة تفاصيل الشخصية وانفعالاتها، وحتى حركة اليدين وطريقة المشي وغيرها.

وعلى خلاف كثير من الأفلام الأجنبية التي تتناول أحداثا جرت في المنطقة العربية، استعان المخرج ماثيو هاينمان بممثلين عرب، وظهرت اللهجات المحلية في المشاهد التي تدور في العراق وفي ليبيا وفي سورية، فالممثل العراقي رعد الراوي جسد شخصية العقيد الليبي معمر القذافي، والممثل المصري فادي السيد قام بدور المترجم والمرافق العراقي للبطلة، والأردني وسام طبيلة جسد دور منسق الصحافة الأجنبية في سورية، لكن ثلاثتهم كأمثلة، كانوا يجيدون لهجة الشخصية التي يقدمونها.



كانت ماري كولفين صحافية مميزة بكل المقاييس، وقد قدم الفيلم ذلك بشكل واضح. لكن المخرج لم ينغمس في الاهتمام بشخصية البطلة وحدها متجاهلا الشخصيات الأخرى، إذ ظهر في الفيلم العديد من القصص الإنسانية التي تم تقديمها بما تستحقه من اهتمام، مثل ردود فعل النساء العراقيات حين استخراج الجثث من المقبرة الجماعية، وحكايات النساء السوريات المحاصرات في حمص اللاتي نقلت كولفين قصصهن المأساوية في تقاريرها التي سلطت الضوء على جرائم كان يراد أن لا يسمع بها العالم.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 10 نوفمبر 2018

نقاب وبكيني

في أواخر 2012، جمعني نقاش جاد بصديقة سابقة حول أسباب رفضها لبقاء الرئيس المنتخب الذي كان يحاول حكم مصر وقتها محمد مرسي، كنت متفقا مع ضرورة معارضته، لكني لم أكن حينها أفهم مبررات الكراهية، خصوصا وأننا كنا بعد الثورة  نحاول التخلص من ميراث طويل من الضغائن المتبادلة الذي زرعه في المجتمع النظام السابق.
تجادلنا حول المشكلات، فلم تستطع أن تقنعني بأي تبرير، لا سياسيا ولا اقتصاديا، إذ كانت كل مبرراتها تمييزية.
كانت ترى نفسها أكثر حداثة من أفراد الجماعة التي ينتمي إليها مرسي، وأن مظهر وملابس زوجته، وزوجات وأبناء مساعديه لا تشبه مظهرها ولا ملابسها، وبينما هي تحب لحية بعض الرجال، إلا أنها تكره تلك "اللحية الإخوانية" كما أسمتها.
واجهتها بما في انتقاداتها من استعلاء وعنصرية، ففاجئتني بمبرر جديد صاعق؛ قالت: هؤلاء سيمنعونني وغيري من ارتداء (البكيني)، فهل ترضى أنت بهذا! ألا تحب أن تشاهدني بالبكيني؟.
عندها توقفت عن النقاش تماما، إذ كنت مقتنعا وقتها، أن غضبها نابع من كراهية مفرطة لمحاولات دمج الملتزمون، أو المتزمتون دينيا في المجتمع، لكني اكتشفت لاحقا علاقتها بأجهزة أمنية كانت مسؤولة عن تدبير الانقلاب على الثورة بزعم التخلص من حكم الإخوان، واستعادة الجيش السيطرة على الحكم في البلاد.
تذكرت هذا النقاش مؤخرا مع عودة تفجر الحديث حول حظر ارتداء النقاب في مصر، وسعي نائبة مجهولة مع نائب محسوب على الأجهزة الأمنية إلى استصدار قانون بحظر ارتداءه من البرلمان، بزعم أنه إخفاء وجه المرأة يمثل مخاطر أمنية على المجتمع.
الحديث نفسه تكرر سابقا عبر شخصيات يجمعها الولاء للنظام والنقمة الواضحة على كل معارضيه، وخصوصا من يصطلح على تسميتهم "تيار الإسلام السياسي".
قبل أكثر من عامين، نقلت صحيفة "تليغراف" عن مسؤول كبير في الشرطة البريطانية أن نقاشا رسميا جرى حول السماح للشرطيات بارتداء "البرقع"، وإن لم يتم إقراره، علما أن الشرطيات المسلمات يسمح لهن بارتداء غطاء الرأس "الحجاب" منذ سنوات.
الأصل أن ملابس النساء ملك لهن، وتحكمها قراراتهن النابعة عن حريتهن الشخصية، فضلا عن بعض القيود المجتمعية والدينية، فإن كنت ترفض محاولات إلزام من يقررن كشف أجزاء من جسدهن بتغطيتها، فعليك رفض محاولات إلزام الأخريات اللائي قررن تغطية مساحات أكبر من أجسادهن بتعريتها.
بعض من يدعون الحداثة في بلاد العرب يصرون على أن التعري حق أصيل للنساء، وهؤلاء أنفسهم يعتبرون الحجاب تخلفا، متجاهلين الحق في الاختيار وفق قواعد المساواة التي يبشرون بها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

عربي ممنوع من الدخول


تختلف الأنظمة العربية لأسباب غير منطقية على الأغلب، وأحياناً بسبب الغيرة أو الحسد، فتتأثر على الفور حياة شعوبها التي تربطها علاقات نسب ومصاهرة. أوّل الإجراءات التعسفية عادة يتمثل في منع تنقل الأشخاص بين الدول بحجة الحفاظ على الأمن القومي. تكرر الأمر كثيراً حتى بات يمكن اعتباره جزءاً من اليوميات العربية، ويمكنك أن تسمع من أجيال مختلفة قصصاً عجيبة، بعضها كوميدي، عما يجري خلال فترات الخلاف، غزو العراق للكويت، أو التدخل السوري في لبنان كمثالين، وبعض الأزمات ما زالت قائمة مثل حصار قطر، أو التدخل العسكري السعودي الإماراتي في اليمن. تداعيات الخلافات السياسية دائماً كارثية على الأفراد، خصوصاً الأسر التي تتشتت بسبب منع بعض أفرادها من التجمع على خلفية منعهم من دخول أحد البلدان، أو رفض منحهم تأشيرات دخول. السنوات الأخيرة شهدت تطورات عدة في أزمات تنقل الأفراد، فوصلنا إلى المنع من أداء شعائر الحج والعمرة بسبب الجنسية، أو الإقامة في بلدان على خلاف مع السعودية، أو للمعترضين على قرارات حكام المملكة التي تكرر الزعم بأنها تسير على درب الحداثة. في موسم الحج الماضي انتشرت تفاصيل كثيرة حول منح السعودية تأشيرات مجانية بالمئات لمليشيات طائفية في العراق، ولقائد حزب مسيحي في لبنان، في حين واصلت منع المواطنين والمقيمين في قطر للعام الثاني على التوالي، وضيقت على جميع المعارضين لسياساتها، وخصوصاً اليمنيين والسوريين. حالياً، يواجه من يحملون وثائق السفر الفلسطينية أشكالاً متباينة من المنع من دخول السعودية لأداء مناسك العمرة، وفي حين يؤكد لاجئون فلسطينيون في لبنان والأردن وغيرهما من بلدان اللجوء، أنّهم ممنوعون، أو غير قادرين على الحصول على تأشيرة دخول، تواصل السلطات السعودية الصمت أو التجاهل. ليس المنع قاصراً على السعودية، فقبل أيام، قامت السلطات في مصر بترحيل الممثل الفلسطيني علي سليمان، من مطار الغردقة الذي وصله للمشاركة عضواً في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة السينمائي، كما رفضت منح تأشيرة دخول للمخرج الفلسطيني زياد بكري، رغم أنّ فيلمه مشارك في المهرجان نفسه، ورفضت منح تأشيرة دخول للمخرجة السورية سؤدد كنعان، وكذا بطلة فيلمها المشارك في المهرجان "يوم أضعت ظلي"، السورية سوسن أرشيد. الواقع أنّ فرض تأشيرات دخول بين الدول العربية أمر يجب إنهاؤه فوراً، وربما لو أنّ جامعة الدول العربية مؤسسة حقيقية لكان ذلك أولى مهامها. في المقابل، تتبارى الأنظمة العربية في السماح لغير العرب بدخول أراضيها من دون قيود.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 16 سبتمبر 2018

وقيعة منى المذبوح



أبديت تعاطفي مع اللبنانية منى المذبوح عند اعتقالها في مصر، على خلفية مقطع فيديو طويل لها، ورد فيه إهانات عدة لكل المصريين بحجة أنها تعرضت للتحرش. لم يكن تعاطفي معها لأنها بريئة، فما قالته في الفيديو من ألفاظ مسيئة لا يمكن تجاهله، وإنما كان تركيزي منصبا على تحويل الموضوع التافه إلى خلاف بين الشعبين بعد الانتشار المقصود لمقطع الفيديو الذي كان يمكن أن يمر بلا ضجة، لولا أن قرر أحدهم، على الأغلب في السلطة المصرية، تحويله إلى قضية وطنية، والذي يفسره التركيز الواسع من الإعلام الموالي للنظام عليه. أخطأت منى المذبوح، لا شك في هذا، وكان اعتذارها كافيا لإغلاق الموضوع، لكن تصوير هذا الخطأ الفردي باعتباره خطيئة كان مدبرا، واعتقالها والحكم بسجنها لعدة سنوات أمر مستهجن، كما أن تهجم بعض المصريين على كل النساء اللبنانيات بسببها تجاوز لا يمكن قبوله. لكن أبرز ما لفتني عند تفجر القضية كان المحاولات الجادة لتسييسها، في مصر وفي لبنان على حد سواء، فالحكومة المصرية، ووسائل الإعلام التابعة لها، قررت الانتقام لكرامة المصريين المهدرة على يد السائحة اللبنانية، متجاهلة كل الانتهاكات التي يتعرض لها المواطن المصري يوميا بسبب فشلها في شتى المجالات. والأشقاء اللبنانيين قرروا استغلال القضية للهجوم على حكومتهم لتصريف الأعمال بحجة أنها لم تتصد للدفاع عن المواطنة المعتقلة في القاهرة، ولما تدخلت تلك الحكومة أخيرا، تحولت فجأة الاتهامات الساخنة إلى بيانات متكررة لشكر الحكومة على القيام بدورها، متجاهلة كل فشلها الواضح الذي يعاني بسببه كل لبناني. فور وصولها إلى لبنان فجر الجمعة الماضي، قالت منى المذبوح للصحافيين: "ما قمت به لم يكن بإرادتي بل بسبب تعرضي لعدة مواقف غير لطيفة". استوقفتني تلك الجملة طويلا، إذ لم أفهم تحديدا ما الذي تعنيه، فهل سجلت مقطع الفيديو وهي غائبة عن الوعي؟ هل كانت تحت تأثير مخدر أو كحول؟ المؤكد أنه لا يحق لكل من يتعرض لمواقف "غير لطيفة" في بلد توجيه الإهانات إلى كامل الشعب، لا في مصر ولا في لبنان. لا أشكك في وجود جريمة التحرش في مصر، وفي لبنان كذلك، ولو صح أن المذبوح تعرضت للتحرش، فلا يمكن الإساءة إلى كل المصريين. إن كان بعض المصريين متحرشين، فلا يعني ذلك بالضرورة أن كلهم كذلك. وإن كانت المذبوح بذيئة اللسان، فلا يعني ذلك بالضرورة أن كل اللبنانيات كذلك. الطبيعي ألا يستدرجنا الغضب إلى الخطأ، وعلينا أن نتعلم من تلك الواقعة ضرورة عدم السماح للحكومات باستغلالنا في مخططاتها للتعمية على تكرار فشلها.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 10 سبتمبر 2018

إسلاميون أم مسلمون؟


لا أحد يعرف على وجه التحديد أسباب الانحدار الذي يتفشى في المجتمعات العربية، وإن كان هناك مؤشرات تؤكد مسؤولية الاستبداد والفساد والتسلط، فضلا عن تدني مستوى التعليم الذي ينتج أجيالا محدودة الوعي، أو ذات وعي مشوه. قبل أيام تفجر بيني وبين أصدقاء نقاش طويل حول من يطلق عليهم في بلادنا وصف "الإسلاميون"، وكان النقاش حادا وفيه تجاوزات تؤكد تردي الوعي العربي. كان رأيي أن وصف "الإسلاميون" أشمل من صفة "المسلمون"، وأن حصر إطلاقه على جماعات مثل الإخوان المسلمين أو السلفيين خطأ شائع مقصود. لكن هذا لم يعجب من أناقشهم، وهم ينتمون إلى خلفيات ثقافية وأيدلوجية متباينة، وقد أوضحت رأيي مؤكدا أن الإسلامي هو من يعيش في مجتمع غالبيته من المسلمين، وقد يكون غير مسلم، وأن هذا يؤثر على أفكاره وتصرفاته، ويتحكم في انحيازاته، متأثرا بالتقاليد والأعراف والقوانين، وحتى خرافات المجتمع الذي يعيش فيه. ومن أسف أن غالبية من يعيشون في المجتمعات الإسلامية علاقتهم بالحريات والديمقراطية والمساواة محدودة، وهي علاقة متغيرة بتغير الحكام، أو بتغير المفاهيم الرائجة حول القضايا المطروحة، وفي أحيان كثيرة تفرض عليهم من الخارج مفاهيم مخالفة لكل ما اعتادوا عليه، فيستجيبون لها دون تبصر وفق مزاعم التنوير أو التطوير. هؤلاء أنفسهم، لديهم مئات التابوهات التي يجب تفكيكها قبل محاولة التجانس مع العصر، ولديهم آلاف الأفكار البالية التي عليهم تجاوزها ليفهمهم الأخرين، كما ينبغي عليهم العمل على معلومات وشروحات خاصة بعشرات من مبادئهم ورموزهم التي يستخدمونها يوميا، لأن المجتمع يجهلها، أو معلوماته المتاحة عنها مغلوطة، وهذا بديل أساسي للتباكي على عدم فهم العالم للنظريات المؤسسة لأفكارهم. الواقع أن التباكي لا يعيد الحقوق، ولا يحقق مستقبلا. فالاحتلال الإسرائيلي لازال بعد عقود، يستغل الهولوكوست لابتزاز العالم، لكنهم في الوقت ذاته يعملون ليل نهار على امتلاك مصادر القوة، وألمانيا التي انهارت ودمرت تماما بعد هزيمة أدولف هتلر على أيدي الحلفاء، لم تركن إلى التاريخ والبكاء، وإنما عملت بكل جهد حتى باتت اليوم قوة لا يستهان بها، كما أن الإمبراطورية اليابانية التي فجعتها القنبلة النووية نهضت مجددا في زمن قياسي. طرح خلال النقاش أيضا أن هؤلاء الذين أسميهم "الإسلاميون" غير مؤهلين لملاحقة التطور العالمي، وهو زعم كاذب بالكلية، ولاشك أن المليارات تنفق لترويجه، حتى صدقه البعض، فتفوق الإسلاميين علميا وثقافيا وعسكريا استمر قرونا، وتكرار ذلك ممكن لو أنهم استفاقوا.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 2 سبتمبر 2018

المساواة في التحرش



يتجدد الحديث حول جريمة التحرش كل فترة مع تكرار اعلان اتهام أشخاص بهذا الجرم، عربيا أو عالميا، ورغم أن التحرش جريمة قديمة، إلا أن التطور الكبير لوسائل التواصل بات سببا مباشرا في زيادة انتشاره، لكنه في الوقت ذاته ساهم في زيادة نطاق الحديث عن مخاطره وكذا ضرورة تشديد عقوباته. المثير أن البعض لازال يجادل في تعريف التحرش، وفي مدى خطورته، ويختلف كثيرون حول الفرق بين التحرش اللفظي والتحرش المادي، في حين أن أحدهما على الأغلب يؤدي إلى الأخر، أو يكون له نفس التأثير النفسي على الضحية. بين المسلمات الرائجة أن المجتمع العربي ذكوري الطابع، والواقع أن العالم كله متهم بذلك، بينما يفاقم الأمور عربيا تلك الطبيعة الأبوية الشائعة في كل بلدانه، شرقا وغربا، والتي تتعامل مع الرجل باعتباره مسؤولا عن كل شيء، وتتعامل مع المرأة باعتبارها تابعا، أو تضعها في مرتبة متأخرة عن الرجال. وفي حين تعرف كثير من المجتمعات العربية، خصوصا الريفية والبدوية، مكانة لائقة لا يمكن تجاهلها للنساء، إلا أن ذلك لا يمنع، ولم يمنع يوما، إقرار النسوة أنفسهن بأهمية إبراز السمة الذكورية للمجتمعات التي يعشن فيها، حتى أنك تستطيع ملاحظة ذلك ببساطة في المقولات الشائعة، وفي الأمثال الشعبية، وحتى في الأغاني الرائجة. في السنوات الأخيرة، أصبح الحديث عن المساواة بين الجنسين أحد أهم الظواهر العربية، وتفرد لها وسائل الإعلام مساحات نقاش، وتكرر الحكومات الزعم بانها تطبق المساواة، وانطلق البعض من ذلك إلى طرح قضايا جدلية، مثل المساواة في الميراث، أو تجنيد الفتيات. لكن أحدا لا يتحدث أبدا عن المساواة بين الجنسين في جريمة التحرش. المتداول أن الرجال فقط يتحرشون بالنساء، وأنهم وحوش طليقة تطارد فرائسها من الإناث في كل مكان، بينما الواقع يؤكد أن النساء أيضا يتحرشن بالرجال، وإن كان على نطاق أقل. لكن لا يمكن بحال التفريق بين ارتكاب أي من الجنسين للجريمة وفقا لمبدأ المساواة. ربما يكمن الفارق في أن غالبية النساء يرفعن الصوت بالشكوى من تحرش الرجال، ويعتبرنها جريمة ضد أنوثتهن، وهي كذلك. ولاشك أن بعضهن يشتكين من التحرش دون أن يتحرش بهن أحد لإظهار أنهن مرغوبات، أو لدفع الرجال من حولهن للاهتمام بهن. في حين أن غالبية الرجال الذين يتعرضون للتحرش من النساء يتفاخرون بالأمر، ويعتبرونه دليلا على فحولتهم، ونادرا ما يشكو رجل من تحرش امرأة خشية سخرية رفاقه، وإن فعل فإنه يسميه توددا، ولاشك أن بعضهم يدعي زورا أن إحداهن تحرشت به، أو يختلق قصصا حول تقرب النساء منه.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 26 أغسطس 2018

النموذج العربي


يظن كثيرون أن الحكومات العربية هي الأسوأ على كوكب الأرض، وربما كان لديهم بعض الحق، لكن حكوماتنا تتشابه في كثير من الأمور مع غالبية حكومات العالم، فجميع الحكومات تتسم بأشكال متباينة من الفساد والتضليل والكذب. أول مبادئ علم الصحافة، حسب خلاصة خبرة الصحافي الاستقصائي وأستاذ علم الصحافة الأميركي، أي إف ستون: "الحكومات تكذب. كل الحكومات تكذب". الفارق أن العديد من الدول أقرت مبدأ تداول السلطة الذي يجعل الحكومة تفكر ألف مرة قبل أن تكذب على شعبها أو تنهب ثرواته، خوفا من يوم حساب، وإن تأخر. لازال مبدأ تداول السلطة مرفوضا في غالبية بلادنا، حتى أن الدول العربية القليلة التي عرفت تداولا شكليا للسلطة لم تتمكن بعد من إقراره كمبدأ، لكني لا أشك أن هذا الوضع سيتغير رغما عن الجميع. كانت لملوك أوروبا سلطات شبه إلهية قبل أقل من مائتي سنة. كان الملك يكرر أنه يحكم باسم الرب، ولا يعارضه رجال الدين. مثلما هو حال عدد من منافقي بعض الحكام العرب. حاليا كل ملوك أوروبا يملكون ولا يحكمون، والوضع مماثل في عدد كبير من ممالك أسيا. كان للكنيسة في أوروبا قبل بضعة قرون سطوة كبيرة على المجتمع، وقامت حروب بين الدول لمجرد اختلاف الكنائس. الكنائس الأوربية حاليا ليس لها نفس القوة، ولا السطوة الروحية القديمة. السيطرة على قرار الفاتيكان مثلا، كان سببا في صراعات دموية بين الدول الأوربية، إلى أن تم إقرار الفاتيكان دولة مستقلة لا تخضع لأي دولة، وإن كانت هناك ضغوط دائمة. يوما ما ستتغير بلادنا أيضا، والتغيير أصبح سريعا بحكم العصر، فما كان يستغرق في الماضي مائة سنة قد لا يستغرق حاليا عشر سنوات، وقد لا يستغرق في المستقبل سنة واحدة. يرى صديقي الهولندي أن غالبية مشاكلنا يمكن تجاوزها بسهولة لو أننا نرغب في تجاوزها. أجادله كثيرا، وأعترض على مقترحاته التي لا تناسب الواقع العربي، لكنه يواصل التأكيد على أن المشكلات العربية سببها العرب أنفسهم. لا يفهم صديقي الباحث الهولندي لماذا تتحكم السعودية وحدها في مكة والمدينة، ولا كيف يوافق أكثر من مليار مسلم في عشرات من دول العالم أن تسمح دولة واحدة لمن تشاء أو تمنع من تشاء من زيارة الأماكن المقدسة، والحل في رأيه هو تطبيق النموذج الفاتيكاني. أخبره أن هناك محاولات لطرح قضية "تدويل الحرمين"، لكنها لا تلقى دعما من أغلب الدول الإسلامية، فيكرر: قلت لك أنكم سبب مشاكلكم، قبل أن ينتقل إلى قضية أخرى شائكة قائلا: لو بدأت قضية التدويل فإنها لن تتوقف عند مكة والمدينة، وإنما ستمتد أيضا إلى وضع القدس.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 19 أغسطس 2018

أصل الداء العربي


اعتبر عدد كبير من العرب على مواقع التواصل، وصول بضعة من المهاجرين العرب، أو المسلمين، إلى مراكز صنع القرار في عدد من دول العالم، أمر يستحق عقد الأفراح وأنه بداية لليال الملاح، دون أن يكون لذلك أية مؤشرات. المنطق يقول إن الأهم من اختيار منتمين إلى بلادنا أو ثقافتنا في برلمانات غربية، أن يكون لهؤلاء دور حقيقي أو مؤثر في تغيير مواقف تلك البلاد التي باتوا يحملون جنسيتها من بلادنا التي كانوا، أو آباءهم، يحملون يوما جنسيتها. أما مجرد حصولهم على المناصب فهو محض خبر عادي. طالبت بعض الأصدقاء بضرورة تأجيل الاحتفال إلى حين حصول ما يستحق، فإن اتخذ أحدهم أو إحداهن، موقفا يستحق الاحتفال، فلنحتفل ونرقص ونغني، أما أن نحتفل "قبل الهنا بسنة"، فهذا أمر مؤسف، خصوصا وأن تجاربنا في هذا السياق لا تبشر بخير. لكن أصدقائي أصروا على أنها فرصة فرح علينا اقتناصها. تعالوا نستعرض بعض الوقائع: الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أصول أوربية، جده ألماني، لكن ها هو يستعدي أوروبا كلها، بفرض رسوم وضرائب واعلان ما يشبه الحرب الاقتصادية. والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من أصول أفريقية، أبوه من كينيا، فماذا فعل لصالح أفريقيا غير الخطابات الرنانة؟ عمدة لندن صادق خان مسلم باكستاني الأصل، فهل له دور واضح في مواجهة الإسلاموفوبيا في بريطانيا؟ عين أكثر من وزير ووزيرة من أصول عربية، غالبيتهم من دول المغرب العربي، في حكومات فرنسا المتعاقبة، فهل عمل أيهم على دفع فرنسا للاعتذار عن عقود من احتلال بلدانهم الأصلية؟ معلوم أيضا أن عدد من دول أميركا الجنوبية حكمها أبناء مهاجرون عرب، فهل استفاد العرب من هذه الدول خلال فترات حكم هؤلاء لها؟ ولا يجهل أحد أن للعرب استثمارات بالمليارات في الدول الكبرى، فضلا عن صفقات السلاح التي لا تتوقف، فهل استفادت الشعوب العربية بأي شكل مما تمثله تلك الاستثمارات؟ أو غيرت تلك الأموال المتدفقة من طريقة تعامل تلك الدول معنا، أو نظرة بعضها الدونية إلينا؟ يقول صديقي إنها ليست استثمارات وإنما ضريبة يدفعها حكامنا لحماية عروشهم. الخلاصة أن المجتمع العربي مريض، ولا فارق يذكر يحسب لاختلاف التصنيف الديني أو القومي أو الثقافي، فالكل سواء للأسف، وأصل الداء هو الاستبداد، وعندما يتحرر العرب، عسى أن يكون قريبا، سيكون الشفاء. لكن التحرر هو الخطر الأكبر على المستبدين الذين يحرصون على عدم حصولنا على الحرية حتى لا نرفض سيطرتهم، كما أنه خطر على داعميهم من الخارج، فلو امتلكنا قرارنا لن نسمح لهم مجددا بسرقة ثرواتنا.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 13 أغسطس 2018

شرطة الأخلاق


يحرص غالبية البشر على الفضائل والأخلاق خلال تعاملاتهم مع الأخرين، وهذا أمر محمود، فمن يكره أن يعامله الأخرين جيدا، وأن يتجاوزوا أحيانا عن هفواته أو سقطاته، والبعض يحض على ذكر المحاسن بعد موت الأشخاص المختلف عليهم، وكل البشر مختلف عليهم، حتى أن بعض الجهال يظنون أن ذكر محاسن الموتى أحد آيات القرآن، أو جزء من حديث نبوي. في حالات كثيرة يتحول متشدقون بمحاسن الأخلاق، خصوصا في العالم العربي، إلى ما يمكن أن نطلق عليهم "شرطة الأخلاق"، ونافس هؤلاء لفترات طويلة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في السعودية، قبل تجميدها، وهيئات وجمعيات عدة مشابهة لها في دول عربية وإسلامية. ينتشر هؤلاء في الفضاء الإعلامي، وفي مواقع التواصل، وبينهم ساسة ومثقفون ورجال دين، فضلا عن الفنانين والمشاهير، وحتى بعض مقدمي البرامج، وغالبيتهم محسوبون على الأنظمة، وبعضهم محسوبون على المعارضة. وفي حين أن الشرطة في كثير من بلاد العرب معروف عنها تكرار تجاوز القوانين، فإن أفراد "شرطة الأخلاق" عادة ما يتجاوزون القوانين والمبادئ والمنطق، فتجدهم يضخمون عن عمد موضوعات تافهة، ويتعامون عن موضوعات مهمة، وهم يستخدمون كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتدمير أو تشويه أي شخص، أو جهة، لا ترضى عنه السلطة، أو الجهة التي تدعمهم، وبالمثل لا يتورعون عن اختلاق الأكاذيب للدفاع عن أي شخص، أو جهة. ليست تلك الأفة الخطرة حديثة عهد، وإنما هي جزء من تراث محفوظ، وسجلتها آلاف أبيات الشعر التي كانت توثق أحداث التاريخ، فالشاعر كان يدافع عن نفسه، أو عن عائلته أو قبيلته، بقول الحق وباختلاق الزور، ويهاجم غريمه، أو غريم قبيلته، بالحق والزور. لكن تطور وسائل التواصل بين البشر منح "شرطة الأخلاق" مساحات أوسع من الانتشار والتأثير. يكفي أن يهاجم أحدهم شخصا أو ينتقد شيئا، لتظهر آلاف التعليقات والمداخلات المتباينة، والتي تتحول أحيانا إلى حملات شبه منظمة، وبعضها منظم بالتأكيد. لاشك أن من حق كل البشر توجيه الانتقادات لمن وما لا يعجبهم، والثناء على من وما يعجبهم، ولا جدال في أهمية الاختلاف والنقاش، لكن الحملات الموجهة للتشويه أو التلميع لا تندرج ضمن تلك الحقوق. ما يقوم به أفراد مليشيا "شرطة الأخلاق" ليس إلا جريمة منظمة يجب مواجهتها لأنها باتت أحد أدوات الاستبداد وقمع حرية الرأي والتعبير، وليس أوضح على ذلك من تكرار صمت هؤلاء على جرائم كبرى ترتكبها أنظمة حاكمة أو متنفذين، في مقابل تكرار إثارة موضوعات تافهة أو جدلية لإلهاء المجتمعات عن الأزمات الحقيقية.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 5 أغسطس 2018

حكايات المراهقة




اجتزت الشهادة الإبتدائية بتفوق، وكنت الأول على منطقتي. لم أكن من هواة كرة القدم ولا الأنشطة الرياضية عموماً، بل من عشاق القراءة والأفلام السينمائية والموسيقى، وكلها بطبيعة الحال تستلزم قضاء الوقت في المنزل.
 في المرحلة الإعدادية تغيرت اختياراتي، واصلت حبي للقراءة والأفلام، لكني أصبحت أميل إلى قضاء وقت أطول بعيداً عن المنزل، مدمناً على الرحلات الخلوية والمعسكرات الطلابية، حتى أنني انضممت لفترة إلى فرقة موسيقية. في تلك المرحلة تدهور مستواي التعليمي، واجتزت الشهادة الإعدادية بمعدل متوسط. أذكر أن أبي، كان مبتهجاً باجتيازي الامتحان، إذ لم يكن يعتقد أن بامكاني النجاح.
 في المرحلة الثانوية زادت الأمور تدهوراً، وأصبح قضاء الوقت مع الأصدقاء خارج المنزل شغلي الشاغل، وبات التعليم آخر اهتماماتي. وقتها رحلت أمي عن الدنيا، وتغيرت تفاصيل الحياة إلى حد كبير، ما جعلني أميل إلى البقاء خارج المنزل أكثر.
عدت للتركيز على دروسي، وكنت مصمماً على تحقيق معدل يخالف توقعات العائلة. كان شقيقي البكر قد اجتاز الشهادة الثانوية بمعدل مرتفع والتحق بكلية الصيدلة، وكان أبي فخوراً بذلك، لكنه في المقابل كان لا يعول بالمرة على معدلاتي بعكس آماله خلال سنوات تعليمي الأولى.
كنت مراهقاً صعب المراس، عنيداً إلى درجة لا يمكنني الآن تفهمها، ولست أدري على وجه التحديد سبب تحولي إلى النقيض في السنة الأخيرة من المرحلة المؤهلة للالتحاق بالجامعة.
  اجتزت الثانوية بمعدل غير متوقع، كان بمقاييس السنة السابقة يؤهل للالتحاق بكلية الطب. أذكر أن أبي صاحب الشخصية الحادة والطباع الصارمة كاد أن يرقص فرحاً يوم أن حملت إليه النتيجة، لكن معدلات هذه السنة كانت مرتفعة فلم ألحق بالطب، وإنما أهلني المعدل لكلية الهندسة، وهو ما كان أبي يدعمه بقوة.
لم يكن أبي راضياً عن اختياري، لكنه اقتنع بمبرري، فسنوات الدراسة قبل الجامعية كانت تؤشر إلى خيارات شاب تنحصر هواياته في السينما والموسيقى والآداب والتاريخ، وليس الهندسة.
عندما عدت إلى المنزل من مكتب تنسيق القبول في الجامعة حاملاً أوراق التقدم إلى "كلية اللغات" لم يتفهم أبي الأمر، وإن لم يعترض على اختياري علناً. سألني عن الوظيفة التي تؤهل لها تلك الكلية، فلم أمنحه جواباً شافياً، إذ لم أكن أعرف على وجه التحديد، ثم سألني عن سبب عدم الالتحاق بالهندسة، فقلت إنني لست مؤهلاً لهذا النوع من الدراسة.
  غادر أبي دنيانا خلال سنتي الدراسية الثانية في الجامعة، ولم يشهد تخرجي، أو اختياري للعمل بالصحافة التي لم تكن يوماً تخطر بباله أو ببالي.





يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 15 يوليو 2018

سكك حديد مصر


لم تكن علاقتي جيدة يوما بالقطارات، رغم أن مصر تمتلك خطوط سكك حديدية ممتدة، ويتفاخر المصريون أحيانا بأنها من الأقدم في العالم، على الرغم من أن كونها تاريخية يعني فقط أنها متهالكة وخدماتها شبه منعدمة.
 كنت معتادا على التنقل بسيارات الأجرة والحافلات، فهي وإن كانت أكثر كلفة، على الأغلب، إلا أنها كانت أسرع، بخلاف القطارات المعروف عنها عدم انضباط مواعيدها.
كان البعض يعتبر القطارات أكثر أمنا من غيرها، وكانت قناعتي، ولازالت، أن كل وسائل النقل في مصر غير آمنة، فترتيب مصر في معدلات حوادث السير حول العالم متقدم، وفي السنوات العشرين الأخيرة، شهدت البلاد آلاف حوادث السير التي راح ضحيتها عشرات آلاف الأشخاص بين مصابين ومتوفين.
 وعلى عكس علاقتي المقطوعة بالقطارات، كانت تربطني لسنوات طوال علاقة شبه يومية بقطارات أنفاق القاهرة الكبرى التي يسميها المصريون "المترو"، إذ كنت أستخدم المترو في أغلب تنقلاتي بين أحياء ومناطق العاصمة، ورغم أنه لم يكن بنفس انضباط المواعيد التي كان عليها في السابق عندما كانت تديره الشركة الفرنسية، إلا أنه كان أفضل بقية وسائل النقل بسبب الزحام الشديد والنظام الغائب الذي يعرفه كل من زار القاهرة.
لذا كان المترو خياري المفضل يوميا، فرحلة الوصول باستخدامه تستغرق بين 15 إلى 20 دقيقة فقط، ويسبقها نحو 10 دقائق من المشي من منزلي إلى المترو، ويتلوها بضعة دقائق مشي أخرى من المترو إلى المكتب.
لسنوات كان عملي على مقربة من مسكني، وقطعت المسافة بينها على قدمي مرات معدودة، أغلبها خلال فترات إغلاق الطرق بسبب حظر التجول، وكانت الرحلة تستغرق نحو ساعة واحدة فقط سيرا، ومرات كثيرة استخدمت السيارة للوصول إلى العمل، وهي رحلة يفترض أن تستغرق 15 دقيقة، لكنها أحيانا كانت تستغرق أكثر من ساعتين كاملتين بسبب الاختناقات المرورية.
  رحلات المترو ليست كلها جيدة، فالزحام عادة خانق، والخدمات غائبة، والمحطات متدهورة، وأحوال القطارات سيئة على مستوى النظافة والتهوية، لكن كل تلك المشكلات يمكن التغاضي عنها باعتبار أن وسائل النقل الأخرى أسوأ حالا، كما أن تكلفة التنقل بالمترو كانت أقل. قبل شهرين، تم رفع أسعار تذاكر المترو بنسبة 300 في المائة بحجة تحسين الخدمة، ومؤخرا تم الإعلان عن الاستعداد لرفع أسعار تذاكر القطارات بنسبة تقترب من 200 في المائة بنفس الحجة، لتتضاعف التكلفة.
وخلال الأسبوع الأخير انقلبت عربتان من قطار مترو في محطة المرج، وبعد يومين، انقلبت ست عربات من قطار الصعيد جنوب الجيزة، فأين إذن تحسن الخدمات؟



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 8 يوليو 2018

صورة بلا صوت



في مكتبنا حائط مكتظ بعدد كبير من شاشات التليفزيون، وغالبيتها مضبوطة على ترددات قنوات إخبارية متباينة بغرض متابعة أحداث العالم جنبا إلى جنب مع وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية التي نتابعها على مدار الساعة، وأحدها حاليا مخصص لمباريات كرة القدم بالتزامن مع كأس العالم في روسيا. كل المتواجدين في المكتب تربطهم بالأخبار علاقة وطيدة بسبب المهنة التي يمارسونها، ما يمنح الحائط أهمية كبيرة، حتى بات مطالعة الشاشات أحد التصرفات الغريزية، مثل التنفس، كما لا يخلو الأمر عادة من تنبيه أحد المتواجدين للباقين لمتابعة أحد الشاشات التي تعرض خبرا عاجلا، أو حدثا غريبا، أو مادة خاصة. كل ذلك يبدو عاديا ومتكررا، كما أن رفع صوت أحد القنوات، وهو أمر محظور في المعتاد، يصبح طبيعيا في حال كانت تعرض حدثا غير عادي، وهذا يجري مؤخرا مع مباريات المونديال دون غضاضة من أحد، حتى هؤلاء الذين لا يهتمون بكرة القدم. ولأن كل الشاشات بلا صوت في العادة، فإن غالبية التعليقات تركز على الصورة، ويحوز مقدمو ومقدمات البرامج ونشرات الأخبار على القسم الأكبر من التعليقات وأحيانا الانتقادات، ولا يخلو الأمر أبدا من السخرية، وأحيانا يحوز ضيوفهم الاهتمام، خصوصا لو كانوا من المشاهير. البعض يركزون على الملابس، وأخرين يهمهم وسامة الرجال أو جمال النساء، والغالبية يناقشون تطور شكل الأشخاص بمرور السنوات، سواء كانوا يتابعونهم تليفزيونيا، أو يعرفونهم بشكل شخصي، فهذا زاد وزنه، أو قام بزراعة شعر، وهذه أجرت جراحات تجميل، أو فقدت الكثير من الوزن، وهذا تطورت ذائقته في ارتداء الملابس، وتلك باتت تقتني ملابسها من دور أزياء عالمية بعد أن كانت أزياءها لا تناسب مهنتها، وأحيانا ما يدور الحديث حول الجنسية، والخلفية الثقافية أو السياسية، أو الوضع الاجتماعي للشخص. اللافت أنه نادرا ما تتحول دفة الحديث إلى تقييمهم مهنيا، وربما يكون السبب تكرار تقييمهم سابقا حتى باتت قدراتهم أمرا مسلما به لدى الجميع، أو ربما لأن غالبيتهم لا يتطورون، أو بالأحرى لا يتطورون بالشكل الكافي لإعادة تقييمهم. على فترات متباعدة يبرز في مكتبنا صوت ينتقد اهتمامنا بالحديث عن الشكل أو الملابس، لكنه يخفت سريعا بسبب ما يبدو أنه أشبه باتفاق ضمني على أن النقد مباح، وحتى بعض السخرية، خصوصا أن بعضنا تربطه بعدد منهم علاقات صداقة أو زمالة قديمة. لكن الحديث عن مقدمي ومقدمات برامج التليفزيون لا يمكن أن يقارن بالتعليقات اللاذعة التي نسمعها عندما يكون أحد الزملاء ضيفا تليفزيونيا، خصوصا الضيوف المكررين.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 2 يوليو 2018

الخبز والحرية معا


اختار بعض الناس الخبز بديلاً عن الحرية، وبعضهم انشغل بالبحث عن الحرية المطلقة دون الانتباه إلى خطورة غياب الخبز، رغم أن المنطق يؤكد أن كليهما لازم لاستمرار الحياة، وأن توفر أحدهما دون الآخر لا يوفّر حياة كريمة.
 لما ظهرت الدولة كنظام حكم بدأ تصنيف الناس، فهناك حكام ومحكومين، وفقراء وأغنياء، وأحرار وعبيد. كان الناس دوما يتعاملون مع بعضهم البعض وفق منطق القوة، فباتت الدولة تتعامل معهم كذلك بنفس المنطق، وعلى الرغم من أنها في الأصل مسؤولة عن تطبيق العدالة والمساواة بين الناس، إلا أن غالبية الأنظمة اختارت أن تكون ندا للمواطنين، أو بالأحرى عدوا لهم.
 ومع ظهور مصطلح الدول الكبرى أو الإمبراطوريات، بدأت تتغير مفاهيم كثير من الحقوق والحريات الشخصية للأفراد، والحجة دائما حماية الدولة من الأخطار، وهو زعم كان ولازال يعني استمرار بقاء الحاكم على رأس الدولة، حتى لو كان فاشلا، وخصوصا لو كان مستبدا.

في دول العالم الثالث، هناك من يفتقرون إلى الخبز، وهناك من يفتقرون إلى الحرية، وكثيرون يفتقرون إليهما معاً، وهذا يفسر التقلبات والتحولات المجتمعية والسياسية المتكررة، كما يمكن وفقه تفسير موجات الهجرة التي أصابت العالم عدة مرات بأزمات خانقة، بينها أزمة الهجرة نحو الشمال القائمة حاليا.
تفشل الحكومة في الوفاء بمتطلبات المواطنين الأساسية، فتطالبهم بعدم تحميل الحكومة المسؤولية. ثم عندما تنجز أي مشروع، حتى لو كان وهمياً أو محدود المنفعة، فالمواطن مطالب بالثناء عليها وعلى إنجازاتها.
 إن فشلت الحكومة فالمواطن هو السبب وعليه يقع اللوم والضرر، وإن نجحت فالمواطن لا دور له في النجاح، ولا يستفيد منه في الأغلب.

عرف التاريخ عشرات آلاف الثورات، وفي غالبيتها العظمى كان الخبز هو المطلب الأساسي، بعض تلك الثورات نجح في تحقيق مطالبه، وغالبيتها فشلت، لكن تكرار الفشل لم يتسبب أبداً في توقف الناس عن الثورة بأشكالها المختلفة للمطالبة بحقوقهم، وأبرزها الخبز والحرية، حتى عندما تؤدي تلك الثورات إلى تدني أحوالهم المعيشية، أو فرض قيود أكبر على حرياتهم.

وقائع التاريخ تؤكد أن الشعوب لن تتوقف عن الثورة على الفاسدين والمستبدين حتى تتحقق لهم كامل المطالب وتتاح لهم كل الحقوق، وأتباع الحكومات المستبدة في الشرق الأوسط الذين يلوكون ليل نهار أن الشعوب لن تقدم على ثورة جديدة لأنها عانت من آثار الربيع العربي بعد أن تعرض للهزيمة على يد الثورات المضادة، يعرفون أنهم واهمون، ويدركون أن الثورة قادمة لتطيح بهم وبمن يدعمونه، وأنها لن تكون كسابقتها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 23 يونيو 2018

تبرعوا لمشروع الزير



يحكى أن ملكاً كان يتفقد أنحاء مملكته، فمر على قرية صغيرة كان أهلها يشربون من "ترعة"، فقال للحاشية: هذا لا يصح في مملكتي. ابحثوا عن طريقة أكثر آدمية ليشرب منها أهل القرية. حتى لو كانت "زيرا".
 و"الزير"، لمن لا يعرفه، جرة كبيرة من الفخار، وما زال مستخدما في أرياف دول عربية عدة. 
 
استجابة لرغبة الملك، تقرر شراء "زير"، ووضعه على شاطئ الترعة ليشرب منه الناس، وعندها اقترح واحد من الحاشية أنه من الضروري أن يتم تعيين شخص ليتولى ملء الزير يومياً، وبالفعل تم تعيين "سقا"، وفي اليوم التالي، وبعدما بات الزير ضمن المال العام، تقرر تعيين حارس له.
 في أيام لاحقة شكا السقا والحارس أنهما لا يمكنهما الاستمرار في المهمة على مدار الساعة، وتم رفع الشكوى إلى الديوان الملكي، فتقرر تعيين ستة حراس وستة سقائين للعمل بنظام المناوبات لحراسة وملء الزير.
 
بمرور الشهر الأول على وجود الزير في مكانه، اتضح أن أحداً لم ينتبه إلى كيفية دفع رواتب العاملين على شؤونه، وعندها تقرر إنشاء إدارة مالية، وتعيين محاسبين لتولي مهمة صرف رواتب العمال.
مع تردد مواطني القرية على الزير كبديل للترعة، أصبحت للسقائين والحراس مهمة حقيقية، لكنّ يوماً شهد عاصفة ترابية، أظهر مشكلة جديدة تحتاج إلى حلول عاجلة، فتقرر تشكيل لجنة فنية تتولى صيانة الزير، وكذا تجهيز حامل خشبي وغطاء حتى لا يتلوث ماؤه.
   وفي أحد الأيام تأخر أحد السقائين عن موعد العمل، ولم يتم ملء الزير بالماء، فاشتكى الناس، فاكتشف الديوان الملكي أنه لم ينتبه إلى ضرورة وجود من يتابع الالتزام، فتم إنشاء إدارة لشؤون العاملين، وعمل دفاتر حضور وانصراف، وترتب على ذلك إنشاء إدارة قانونية للتحقيق مع المخالفين والفصل بين المتنازعين.
 زاد تدريجياً عدد من يتولون تسيير شؤون الزير، فتقرر تعيين موظف كبير ليدير دفة العمل.
ولما سأله الملك عن طبيعة عمل المبنى، أجاب بأن هذه الإدارة أنشئت لرعاية الزير الذي أمر به قبل سنة ليشرب منه أهل القرية بدلاً من الترعة.
بعد مرور سنة، كان الملك يمر كعادته لتفقد مملكته، فوجد مبنى كبيرا تعلوه لافتة كتب عليها "الإدارة العامة لشؤون الزير".
 دخل الملك المبنى ليستكشف الأمر، فاستقبله المدير أشيب الشعر ليطلعه على غرف عدة تضم عشرات العاملين، وقاعة اجتماعات، قبل أن يقوده إلى غرفة متسعة تضم مكتباً فخماً يحمل لافتة كبيرة مزركشة كتب عليها "مدير عام شؤون الزير".
  أومأ الملك برأسه راضياً، وطلب أن يذهبوا به إلى الزير، وهناك طالع لافتة كتب عليها "تبرعوا لنشر تجربة الزير الملكي في أنحاء البلاد".



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 17 يونيو 2018

في بيتنا مونديال



علاقتي بمتابعة مباريات كرة القدم وأخبار نجومها وفرقها مقطوعة منذ أكثر من عشرين سنة، رغم أن كل أفراد عائلتي من عشاق المستديرة. حضرت في طفولتي ومراهقتي تجمعات عائلية عدة لمتابعة مباريات وبطولات، وما زلت أذكر وقائع مباريات شهيرة في عدد من البطولات الأفريقية، وبالطبع تفاصيل مشاركة مصر في كأس العالم 1990. في هذه الأيام، يشارك فريق مصري في بطولة كأس العالم في روسيا بعد 28 سنة غياب عن البطولة الدولية الأهم في اللعبة الأكثر شهرة حول العالم، ورغم أن عدم رغبتي في متابعة المباريات لم تتبدل، إلا أن كثيراً من الأشياء فيما يخص علاقتي بالكرة تغير رغماً عني. ينخرط ولداي منذ سنوات في مدرسة للتدريب على كرة القدم، وهما بالطبع من عشاق مشاهدة المباريات، ويحفظان أسماء مئات اللاعبين، بل إنهما أحياناً يدخلان في نقاشات وجدالات طويلة حول وقائع مباراة أو مباريات، بعضها مر عليها وقت غير قصير، بينما والدهما لا يعرف كثيراً عن الشأن الذي يتناقشان فيه. ابني الأكبر من مشجعي النادي الأهلي المصري، ونادي ريال مدريد الإسباني، و"رونالدو" نجمه المفضل، بينما ابني الأصغر يشجع نادي الزمالك المصري، ونادي برشلونة الإسباني، ويطلق على نفسه لقب "ميسي". معلوماتي حول كرة القدم محدودة، لكني أدرك جيداً أن الأهلي والزمالك هما قطبا الكرة المصرية، وأن المنافسة بينهما تمتد بامتداد تاريخ كرة القدم في مصر، وأدرك أيضاً أن الأمر مماثل تقريباً في حالة "الريال" و"البرشا". على مدار السنوات الماضية نشبت في بيتنا عشرات الخلافات بين الشقيقين بسبب المباريات، وكان بعضها يتحول إلى اشتباكات بالأيدي، وأحياناً مقاطعة بعضهما البعض لأيام، رغم أنهما، في العادة، لا يشاهدان المباريات سوياً، وإنما يشاهد كل منهما بعيداً عن الآخر. في السنة الأخيرة ظهر المصري محمد صلاح على الساحة، ليستحوذ سريعاً على اهتمام كل مشجعي الكرة في مصر، وعدد كبير من المشجعين العرب، ولأول مرة اتفق ولداي على متابعة مباريات نادي ليفربول الذي يلعب له صلاح، حتى لو كان يلعب ضد ناديهما المفضل. لما بدأ مونديال كأس العالم في روسيا، تحول منزلنا إلى ما يشبه معسكرات فرق الكرة قبل البطولات الكبرى، وعادة ما يبدأ بعد كل مباراة استديو تحليل كما في القنوات الرياضية. ولأن مصر مشاركة في هذه البطولة، فإن الاهتمام زائد عن المعتاد، إذ باتت تدور أغلب تفاصيل الحياة اليومية، من طعام وزيارات وغيرها، حول مواعيد المباريات، كما تؤثر النتائج في الجو العام للمنزل، خصوصاً نتائج مباريات مصر الثلاث، كأن المونديال في منزلنا.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 9 يونيو 2018

خمس سنوات انقلاب


كانت الحُجّة الرائجة أن محمد مرسي ضد هويّة البلاد، وأنه سيزيد من تردي الأوضاع السيئة، وأن إزالته عن رأس السلطة ضرورة حتى لا يتضرر الوطن.
تم ترويج تلك الشعارات بقوة تحقيقاً للمثل الشعبي المصري "الزّنّ على الودان أقوى من السحر". كان الآلاف مدفوعين بمصالحهم الضيقة، ورؤيتهم القاصرة، بينما كان رجال النظام القديم، الذي لم يسقط يوماً، يدعمون إسقاط الحاكم رغبة في استعادة دولتهم التي تزلزلت أركانها بعض الشيء في 2011.
خرج مئات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بإسقاط الرئيس، آلاف من هؤلاء قرروا التخلي عن إجازاتهم السنوية في سواحل مصر، أو خارج البلاد، للمشاركة في إسقاطه. رغم أن هؤلاء أنفسهم كانوا ضد إسقاط من سبقه وهاجموا من طالبوا بسقوطه.
سقط النظام، وفرح من أسقطوه، غنوا ورقصوا، بعضهم لم يكن يدرك مدى فداحة ما فعله بنفسه وببلاده، وبعضهم خدع نفسه أن العسكريين الذين سيطروا على السلطة بعد الإطاحة بالرئيس المدني المنتخب، سيحققون الديمقراطية، أو يعيدون الطابع المدني إلى السلطة، هذا الطابع الذي يعد النتيجة الإيجابية الوحيدة لثورة أطاحت بالجنرال حسني مبارك ونظامه، أو هكذا كنا نعتقد.
بعضهم كان يرغب في تجربة أن يكون ثائراً بعدما أُلصق به وصف "الفلول"، أو "حزب الكنبة"، حتى لو كان ذلك بالمشاركة في ثورة مضادة، وآخرون كان كل همهم إسقاط ثورة يناير، ومعاقبة من شاركوا فيها، وكان هذا مدعوماً بوضوح من الجيش والشرطة. تعددت الأغراض والأهداف، لكنها اتفقت على إسقاط الرئيس محمد مرسي، وهو نفسه ترك الثورة المضادة تشتعل تحت قدميه دون أن يفعل شيئاً لمقاومتها أو تحجيمها.
مرت الشهور والسنون، واختفت شعارات يناير تماماً، ثم اختفت سريعاً شعارات يونيو 2013، فخارطة الطريق المزعومة التي أعلنها الجنرال في بيان الانقلاب، لم يتحقق منها شيء، ولا يحتاج المرء عيناً فاحصة لكشف أن الأوضاع باتت أكثر سوءاً على كل المستويات، فلا الأسعار انخفضت، ولا مستوى المعيشة تحسن، ولا مصر أصبحت "أدّ الدنيا"، بل ظهرت شعارات جديدة منها "شبه دولة" بعدما كانت "أم الدنيا"، و"انتو مش عارفين إننا فقراء أوي"، و"يعمل ايه التعليم في وطن ضايع".
حتى شعارات نخبة الانقلاب نفسها اختفت، وباتت الحريات وتعدد الآراء من الماضي، ومن يخرج إلى الشارع معترضاً يعتقل، وربما يقتل، ومن يكتب أو يعرض رأياً مخالفاً يعاقب، حتى إن التظاهر الذي أسقط مبارك، ثم طارد الجنرال حسين طنطاوي وصولاً إلى عزل مرسي، بات جريمة.
الأهم أنه لم يعد يجرؤ أحد على التبجح بأن مصر الآن أفضل مما كانت عليه في 2013.





يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 3 يونيو 2018

41 سنة




لم أكن يوما من المهتمين بالاحتفال بذكرى مولدي، على العكس، أعتبر نفسي من هذا الفصيل الذي يكره هذه المناسبة، وكثيرا ما دار بخاطري حوار ذاتي حول أسباب اهتمام الناس بذكرى مولدهم.
 أزعم أنني من هؤلاء الذين يتمنون لو أنهم لم يولدوا في هذا العالم المتخم بمظاهرالبؤس والشقاء والصراعات والدماء والظلم، لكنني أيضا لست ممن يحلمون لو أنهم ولدوا في زمان أخر، فكل الأزمان التي قرأت أو سمعت عنها نال من عاشوا فيها نصيبهم الكامل من البؤس والقهر والظلم، مثلنا، وربما بنسبة أكبر منا.
 كنت دوما أرفض الاحتفال بذكرى مولدي، بل وأتهرب عادة من حضور احتفالات أصدقائي، في سنوات شبابي الأولى، قررت صديقة الاحتفال بعيد مولدها، ووجهت الدعوة لكثير من الرفاق. كنت وقتها أكثر كراهية للاحتفال بذكرى الميلاد، لكني كنت مضطرا للحضور لأنها صديقة مقربة. كان التجمع صاخبا، غنينا ورقصنا وضحكنا، وكانت أغلب الهدايا بسيطة بقدر بساطتنا كطلاب في المرحلة الجامعية.
 دفعني عقلي الكاره للمناسبة للتفكير بطريقة للاعتراض، وهداني إلى الهدية التي اقتنيتها. كانت هديتي عبارة عن "ببرونة" من تلك التي تستخدم في إطعام الأطفال الرضع، بل إنني تعمدت أن أقدمها مليئة بالحليب. لما فتحت صديقتي الهدية التي غلفتها جيدا، تجمدت للحظات في محاولة لإدراك مقصدي منها، ولم ينقذني من غضبها الظاهر إلا تدفق الضحكات من كل الحاضرين اعجابا بالهدية المبتكرة، لكنها لم تعجبها يومها، بالأحرى لم تعجبها أبدا، حتى أنها ظلت تذكرها طيلة السنوات اللاحقة كلما جمعنا مكان أو ضمتنا مناسبة.
 لاحقا، عندما أنجبت ابني الأول، تغيرت نظرتي إلى ذكرى الميلاد، ليس مولدي، وإنما مولده. أصبحت أجهز للاحتفال بمولده قبل حلوله بفترة، وأضيع وقتا طويلا في التفكير في شكل الاحتفال والهدايا وكعكة الميلاد، ثم لما أنجبت ابني الثاني بات الاحتفال بذكرى مولدهما أهم مناسبات العام وأحد أيامنا السعيدة، وكلما تقدما في العمر كلما باتت المناسبة أهم بسبب اهتمامهما البالغ بها، والذي يجبرني على مزيد من التركيز في التفاصيل حتى لا أغضب أي منهما.
في الذكرى الـ41 لمولدي، كانت فرحتي بالتهنئة التي وصلتني منهما هي الأهم، ورغم أن المناسبة مرت وهما بعيدا عني، إلا أن تهنئتهما منحتني من السعادة مت يكفيني حتى نجتمع لنحتفل.
مع زيادة وعيهما بتقدمهما في العمر، أصبحا يهتمان بذكرى مولدي أيضا، ويتباريان في تذكيري بالترتيب للاحتفال، ويتسابقان في جلب الهدايا. لا أتذكر أنني احتفلت يوما بذكرى مولدي قبل أن يجبرانني على الاحتفال بها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 27 مايو 2018

سحور فلورنتينا




أحرص كل فترة على ضم المزيد من الأشخاص إلى قائمة أصدقائي التي أعتبرها أحد أبرز متع الحياة في السنوات الأخيرة، وجمعتني قبل أيام وجبة سحور رمضانية في أحد مطاعم الدوحة بأصدقاء جدد. أحدهم من تونس، والأخر من الفيليبين، وكلاهما متخصصان في التغذية، ورابعنا شاب هندي متخصص في اللياقة البدنية.
تركز أغلب حديثنا حول عادات الطعام في رمضان، وكيفية التغلب على زيادة الوزن، وطرق ممارسة الرياضة مع الصيام وارتفاع درجات الحرارة، وكلها أمور تشغلني بسبب خطتي للتخلص من الوزن الزائد، والتي تعرفت على ثلاثتهم خلالها.
استفدت كثيرا من خبراتهم كمتخصصين، ولم يخل حديثنا من التطرق إلى الغريب والطريف من عادات رمضان في بلادنا، وأحوال المسلمين حول العالم، وكذا القدس، وترامب، والارهاب، وداعش، وسورية، والعراق، وتونس، واليمن، والصومال، كما تطرقنا إلى ما يجري في الفيليبين، والأزمة الأخيرة مع الكويت.
تحدث صديقنا الفيليبيني عبد الجبار، عن تصاعد التوتر بين الحكومة ومتشددين في مدينة مراوي، والتي تضم غالبية من المسلمين، وقال إن الحكومة تكرر أن المسلمين في الفيليبين لا يتجاوز عددهم 10 في المائة، بينما الواقع أن النسبة لا تقل عن 20 في المائة.
وضحك صديقنا التونسي محمد، قائلا إن نسبة 10 في المائة في بلد تعداد سكانه أكثر من 100 مليون، تساوي تقريبا عدد سكان بلده تونس، ثم انتقل بنا إلى الحديث عن أزمة الحكومة التونسية، وصراعها مع اتحاد الشغل، واستمرار تفاقم نسب البطالة والهجرة، وموجات الارهاب.
ولفتنا صديقنا الهندي عبد العزيز، إلى عودة الهجمات الارهابية مؤخرا إلى إندونيسيا، أكبر بلد مسلم في عدد السكان، وبدأ يحكي عن التفجيرات والهجمات الأخيرة في مدينة سوراباييا، ثاني أكبر مدن البلاد.
على الطاولة المجاورة، كان يجلس شاب وفتاة أسيويان، فاجأتنا الفتاة بطلب الانضمام إلينا والمشاركة في الحوار طالما أننا نتحدث عن بلدها إندونيسيا، فرحبنا بهما.
قالت إن اسمها فلورنتينا، من سومطرة، وإنها مهندسة حديثة التخرج، وهي في الدوحة لحضور دورة تدريبية لمدة شهرين، بينما عرف الشاب نفسه بأنه يعمل في أحد فنادق الدوحة.
حكت لنا فلورنتينا عن الوضع الاجتماعي الصعب في بلدها الفقير، واسترعى انتباهنا أن الفتاة التي لا تتجاوز الخامسة والعشرين سنة، تمتلك رؤية جيدة عن وضع شديد التعقيد لبلد مكون من أكثر من 17500 جزيرة ويضم أكثر من 265 مليون نسمة، غالبيتهم مسلمين.
كان انتقادها الأساسي أن المسلمين العرب لا يعرفون شيئا عن المسلمين في بقية أنحاء العالم، والواقع أنها محقة.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية