الأحد، 27 مايو 2018

سحور فلورنتينا




أحرص كل فترة على ضم المزيد من الأشخاص إلى قائمة أصدقائي التي أعتبرها أحد أبرز متع الحياة في السنوات الأخيرة، وجمعتني قبل أيام وجبة سحور رمضانية في أحد مطاعم الدوحة بأصدقاء جدد. أحدهم من تونس، والأخر من الفيليبين، وكلاهما متخصصان في التغذية، ورابعنا شاب هندي متخصص في اللياقة البدنية.
تركز أغلب حديثنا حول عادات الطعام في رمضان، وكيفية التغلب على زيادة الوزن، وطرق ممارسة الرياضة مع الصيام وارتفاع درجات الحرارة، وكلها أمور تشغلني بسبب خطتي للتخلص من الوزن الزائد، والتي تعرفت على ثلاثتهم خلالها.
استفدت كثيرا من خبراتهم كمتخصصين، ولم يخل حديثنا من التطرق إلى الغريب والطريف من عادات رمضان في بلادنا، وأحوال المسلمين حول العالم، وكذا القدس، وترامب، والارهاب، وداعش، وسورية، والعراق، وتونس، واليمن، والصومال، كما تطرقنا إلى ما يجري في الفيليبين، والأزمة الأخيرة مع الكويت.
تحدث صديقنا الفيليبيني عبد الجبار، عن تصاعد التوتر بين الحكومة ومتشددين في مدينة مراوي، والتي تضم غالبية من المسلمين، وقال إن الحكومة تكرر أن المسلمين في الفيليبين لا يتجاوز عددهم 10 في المائة، بينما الواقع أن النسبة لا تقل عن 20 في المائة.
وضحك صديقنا التونسي محمد، قائلا إن نسبة 10 في المائة في بلد تعداد سكانه أكثر من 100 مليون، تساوي تقريبا عدد سكان بلده تونس، ثم انتقل بنا إلى الحديث عن أزمة الحكومة التونسية، وصراعها مع اتحاد الشغل، واستمرار تفاقم نسب البطالة والهجرة، وموجات الارهاب.
ولفتنا صديقنا الهندي عبد العزيز، إلى عودة الهجمات الارهابية مؤخرا إلى إندونيسيا، أكبر بلد مسلم في عدد السكان، وبدأ يحكي عن التفجيرات والهجمات الأخيرة في مدينة سوراباييا، ثاني أكبر مدن البلاد.
على الطاولة المجاورة، كان يجلس شاب وفتاة أسيويان، فاجأتنا الفتاة بطلب الانضمام إلينا والمشاركة في الحوار طالما أننا نتحدث عن بلدها إندونيسيا، فرحبنا بهما.
قالت إن اسمها فلورنتينا، من سومطرة، وإنها مهندسة حديثة التخرج، وهي في الدوحة لحضور دورة تدريبية لمدة شهرين، بينما عرف الشاب نفسه بأنه يعمل في أحد فنادق الدوحة.
حكت لنا فلورنتينا عن الوضع الاجتماعي الصعب في بلدها الفقير، واسترعى انتباهنا أن الفتاة التي لا تتجاوز الخامسة والعشرين سنة، تمتلك رؤية جيدة عن وضع شديد التعقيد لبلد مكون من أكثر من 17500 جزيرة ويضم أكثر من 265 مليون نسمة، غالبيتهم مسلمين.
كان انتقادها الأساسي أن المسلمين العرب لا يعرفون شيئا عن المسلمين في بقية أنحاء العالم، والواقع أنها محقة.

يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 19 مايو 2018

فانوس ومسحراتي

يعيد حلول شهر رمضان سنويا إلى مخيلتي الكثير من ذكريات الطفولة المرتبطة بطقوسه المميزة في مصر، والتي اختفى بعضها تماما، وتطور بعضها الأخر.
 كأغلب أقراني آنذاك، كان لفانوس رمضان أهمية كبرى كأحد مستلزمات الشهر الأساسية، وإن كانت عملية شراءه لا تخلو من مشكلات بسبب إعجابي بأكثر من فانوس عادة، وعدم القدرة على اختيار أحدها، أو اختيار الفانوس، ثم اكتشاف فانوس أخر أفضل. لم تكن عملية الشراء عادة تمر بهدوء.
 لازلت أتذكر فانوسي المعدني الصغير المزين بالزجاج الملون، والذي تضيئه شمعة بيضاء رفيعة، وأتذكر أنني حصلت في سنوات لاحقة على فوانيس أكبر حجما، لكن ظل الفانوس الأول صاحب الحظوة عندي.
في سنوات لاحقة توقفت عن شراء الفانوس باعتباره شأن طفولي. وقتها ظهرت أنواع من الفوانيس التي تصدر صوت موسيقى أو يسمع منها أجزاء من أغنيات أو أدعية دينية، كما ظهرت أشكال متعددة من الفوانيس، لكن كل تلك الأشكال لم تؤثر على مكانة الفانوس المعدني المغطى بالزجاج الملون الذي يحوي شموعا، والذي تحول بمرور السنين إلى هدية قيمة.
عندما ظهر الفانوس الذي يضيء بمصباح يعمل ببطارية جافة، والذي كان حدثا كبيرا وقتها، لم أكن من المعجبين به، ولم أنفك أفضل فانوس الشمعة التقليدي عليه، ولازلت حتى يومنا هذا.
  مثلما ارتبط رمضان في مخيلتي بالفانوس، كانت مكانة المسحراتي مميزة، رغم أن مهمته الأصلية في تنبيه الناس إلى موعد السحور لم تعد مطلوبة لتعدد وسائل التنبيه مثل الساعة والراديو والتليفزيون، وصولا إلى الهواتف المحمولة.
لم يكن مسحراتي حينا يكرر تلك النصوص الشهيرة المتداولة عن المسحراتي "اصحى يا نايم. وحد الدايم. وحد الرزاق. رمضان كريم"، وإنما كان يكتفي بنقر طبلته الصغيرة نقرات خفيفة، قبل أن ينادي بصوت عال: "سحور يا حاج صلاح. سحور يا أستاذ علي"، أو ينادي سيدة البيت باسم ابنها أو ابنتها "سحور يا ست أم محمد. سحور يا ست أم سحر"، فذكر السيدات بأسمائهن المجردة كان ولا زال غير مستحبا في المجتمعات الشعبية. 
كان مرور المسحراتي في حينا الصغير يوميا، طقسا محببا لي في سنوات طفولتي، وكنت وغيري كثيرين، ندور معه على منازل الحي حاملين فوانيسنا المضاءة كل ليلة تقريبا.
  وفي رحلتنا مع المسحراتي كل ليلة عبر دروب الحي الضيقة، كنا لا نستطيع إخفاء انبهارنا بقدرته على حفظ أسماء جميع السكان، وكيف أنه يعرف أين يقيم كل منهم تحديدا، ولا يكاد يخطأ أبدا في اسم أو عنوان.
لم يكن يشغلنا وقتها كيف يكسب المسحراتي قوت يومه بعد انتهاء شهر رمضان، وكذا صانع الفوانيس.







يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 12 مايو 2018

ما يستحقه العرب

يؤكد صديقي أن أبرز عيوب ثورات الربيع العربي تتمثل في عدم فهم من شاركوا فيها لمَوَاطن الخلل في مجتمعاتهم التي تم اللعب بثقافتها وثوابتها على مدار قرون، بداية من تكرار ضرورة الصبر على الفساد والظلم رغم مخالفة ذلك للمنطق والأديان، وصولاً إلى عدم المطالبة بالحقوق الأساسية خوفاً من تأثير ذلك على استقرار البلاد، رغم أن الرضا بالفُتات والصبر على الفشل لا يضمن بحال استقرار العباد، وبالتالي فلا يمكن أن تستقر البلاد.
 صديق آخر ينتظر وقوع كارثة عربية كبرى، اعتقاداً أن كل الفشل القائم والتفريط في الأرض والثروات، وقمع الشعوب، والهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل، وغيرها، ليست كوارث يمكن أن يستفيق بسببها المواطن العربي الذي بات يتعامل معها باعتبارها واقعاً يومياً، ولا يكاد يستنكرها أو ينزعج بسببها، وإن فعل فإن ذلك يكون على استحياء. يجادل صديق ثالث رافض لنظرية الكارثة، مؤكداً أن العرب لا يتحملون المزيد من الكوارث، وأن ما تعيشه شعوب أغلب الدول العربية يعد تجسيداً كاملاً لما يمكن أن يطلق عليه وصف الكارثة. يبادره الثاني قائلاً إنه لا يتمنى وقوع الكارثة له أو لغيره، لكنه في الوقت ذاته يعتقد أن بلادنا المنكوبة وشعوبنا البائسة قد لا تستفيق إلا على وقع تلك الكارثة المدوية، مثلما حدث في اليابان من دمار بعد القنبلة الذرية، أو في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. يقول صديقنا الأول إن أحداث الربيع كشفت أن الشخصية العربية متشابهة جداً، سواء في طريقة التفكير، أو تكرار الشعارات والعبارات المحفوظة دون وعي، وأن الغالبية لديهم استعداد دائم للانخداع بما تروجه وسائل الإعلام من أكاذيب لا يصح أن يصدقها عاقل، ومتشابهون حتى في تجاعيد البؤس والفقر التي تملأ الوجوه. يرى صديقنا الثاني أن الأزمة داخلنا، وأننا مسؤولون بشكل ما عن كل ما نعانيه، وأن أوضاعنا لن تتغير إلا إن تغيرنا. لا يختلف أي منا معه، وإن كانت لدينا كثير من التفصيلات حول ما قال. يقرأ علينا نصاً منسوباً إلى المفكر المصري الراحل إبراهيم الفقي، يقول: "إن الأفكار لها قوة أكبر مما تتخيل، فهي إما تأخذك إلى السعادة أو إلى التعاسة، وفي كلتا الحالتين أنت صانع هذه الأفكار. لذا لاحظ جيداً ما الذي تفكر فيه لأن أفكارك ستحدد واقع حياتك، ومستقبلك، فكلما كانت أفكارك إيجابية وبناءة كلما عشت حياة ناجحة، وكلما كانت أفكارك سلبية فأنت أبعد ما تكون عن تحقيق أي شيء. حياتنا مشغولة بخلافات غير ضرورية، لأن عقولنا مملوءة بأفكار غير ضرورية، لذلك يعيش أغلبنا حياة بلا معنى، وفي الحقيقة غير ضرورية".



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 5 مايو 2018

لقاء في مقهى

التقينا بعد طول غياب لنسترجع ذكريات مرّ عليها نحو 10 سنوات في القاهرة، وفي الإسكندرية، تذكرنا كثيرا من حكايات العمل، والأصدقاء المشتركين. ضحكنا وسخرنا وعلت وجهينا لحظات عبوس.
 استغرقتنا لحظات صمت عندما استحضرنا الأيام الأولى من ثورة يناير. هي لم تكن من مؤيديها ومازالت ضدها، لكنها قادمة من عطلة استمرت ثلاثة أسابيع في مصر، وعلى عكس مرات سابقة، تبدو أكثر انزعاجاً من تفاقم الأزمات المعيشية.
 انتقل حديثنا إلى صديقة قديمة مشتركة. قالت: هل عرفت أن صديقتنا تزوجت مجدداً؟ قبل أن أرد متعجباً، عادت لتقول: لكنها تطلقت مجدداً بعد بضعة أشهر.
سألتها عن تفاصيل أكثر عن صديقتها الحميمة. لماذا قررت الزواج مجدداً؟ ولماذا لم يستمر الزواج الجديد؟ فقالت لي إنها تزوجت زميل عمل هرباً من الوحدة، لكنها اكتشفت بعد فترة قصيرة أنها باتت غير قادرة على تحمل العيش في ظل رجل بعدما عاشت لسنوات كامرأة حرة.
كانت صديقتنا مطلقة منذ سنوات، وكان طلاقها مفاجئاً لأغلبنا بسبب العلاقة الرائعة التي كانت تربطها بزوجها الذي كنا نلتقيه في مناسبات مختلفة.
  استطردت في الموضوع، ليس موضوع الطلاق الثاني لصديقتنا، وإنما ظاهرة تفشي الطلاق بين أفراد جيلنا بعكس ما كان عليه الأمر في أجيال سبقتنا.
لم أستطع كتم سخريتي، فقلت إن الأزواج عادة يغادرون إلى القبور قبل زوجاتهم بسنوات، وإن الزوجات على الأغلب يعتبرن السبب الرئيس لوفاة الأزواج.
قالت صديقتي إنها حكت لأمها عن طلاق صديقتها، فعاجلتها الأم بأن الطلاق لم يكن معروفاً في زمانها، وأن غالبية النساء كن يغادرن بيوت أزواجهن فقط إلى القبور.
  لم تضحك صديقتي، بل شردت قليلاً قبل أن تتمتم بمرارة أن الزيجات البائسة أو الطلاق، رغم كل ما يمكن أن يخلفانه في نفوس النساء من آثار، أفضل كثيراً من تقدم المرأة في العمر دون زواج، وأن لقب المطلقة يظل أفضل من لقب العانس.
هممت بمجادلتها لتأكيد أن العنوسة أفضل من الزواج التعيس، وأن الطلاق أفضل كثيراً من مواصلة زواج بائس، فقاطعتني أصوات الجالسين في المقهى الذين كانوا يهتفون باسم لاعب أحرز هدفاً في مباراة لكرة القدم لم أكن مهتماً بمعرفة طرفيها. قررت وقف حوارنا الكئيب، فسألتها عن المباراة رغم علمي مسبقاً أنها ليست من مشجعي كرة القدم مثلي.
 فهمت مقصدي، فقررت مجاراتي في ترك حكايات الزواج والطلاق والعنوسة، إلى كرة القدم التي يحيط بنا مشجعوها، فقادنا الحديث إلى أزمة اللاعب المصري المحترف في ليفربول الإنكليزي محمد صلاح.
قضينا الساعة التالية في الحديث عن هموم الغربة التي يعيشها كلانا.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية