الأحد، 26 أغسطس 2018

النموذج العربي


يظن كثيرون أن الحكومات العربية هي الأسوأ على كوكب الأرض، وربما كان لديهم بعض الحق، لكن حكوماتنا تتشابه في كثير من الأمور مع غالبية حكومات العالم، فجميع الحكومات تتسم بأشكال متباينة من الفساد والتضليل والكذب. أول مبادئ علم الصحافة، حسب خلاصة خبرة الصحافي الاستقصائي وأستاذ علم الصحافة الأميركي، أي إف ستون: "الحكومات تكذب. كل الحكومات تكذب". الفارق أن العديد من الدول أقرت مبدأ تداول السلطة الذي يجعل الحكومة تفكر ألف مرة قبل أن تكذب على شعبها أو تنهب ثرواته، خوفا من يوم حساب، وإن تأخر. لازال مبدأ تداول السلطة مرفوضا في غالبية بلادنا، حتى أن الدول العربية القليلة التي عرفت تداولا شكليا للسلطة لم تتمكن بعد من إقراره كمبدأ، لكني لا أشك أن هذا الوضع سيتغير رغما عن الجميع. كانت لملوك أوروبا سلطات شبه إلهية قبل أقل من مائتي سنة. كان الملك يكرر أنه يحكم باسم الرب، ولا يعارضه رجال الدين. مثلما هو حال عدد من منافقي بعض الحكام العرب. حاليا كل ملوك أوروبا يملكون ولا يحكمون، والوضع مماثل في عدد كبير من ممالك أسيا. كان للكنيسة في أوروبا قبل بضعة قرون سطوة كبيرة على المجتمع، وقامت حروب بين الدول لمجرد اختلاف الكنائس. الكنائس الأوربية حاليا ليس لها نفس القوة، ولا السطوة الروحية القديمة. السيطرة على قرار الفاتيكان مثلا، كان سببا في صراعات دموية بين الدول الأوربية، إلى أن تم إقرار الفاتيكان دولة مستقلة لا تخضع لأي دولة، وإن كانت هناك ضغوط دائمة. يوما ما ستتغير بلادنا أيضا، والتغيير أصبح سريعا بحكم العصر، فما كان يستغرق في الماضي مائة سنة قد لا يستغرق حاليا عشر سنوات، وقد لا يستغرق في المستقبل سنة واحدة. يرى صديقي الهولندي أن غالبية مشاكلنا يمكن تجاوزها بسهولة لو أننا نرغب في تجاوزها. أجادله كثيرا، وأعترض على مقترحاته التي لا تناسب الواقع العربي، لكنه يواصل التأكيد على أن المشكلات العربية سببها العرب أنفسهم. لا يفهم صديقي الباحث الهولندي لماذا تتحكم السعودية وحدها في مكة والمدينة، ولا كيف يوافق أكثر من مليار مسلم في عشرات من دول العالم أن تسمح دولة واحدة لمن تشاء أو تمنع من تشاء من زيارة الأماكن المقدسة، والحل في رأيه هو تطبيق النموذج الفاتيكاني. أخبره أن هناك محاولات لطرح قضية "تدويل الحرمين"، لكنها لا تلقى دعما من أغلب الدول الإسلامية، فيكرر: قلت لك أنكم سبب مشاكلكم، قبل أن ينتقل إلى قضية أخرى شائكة قائلا: لو بدأت قضية التدويل فإنها لن تتوقف عند مكة والمدينة، وإنما ستمتد أيضا إلى وضع القدس.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 19 أغسطس 2018

أصل الداء العربي


اعتبر عدد كبير من العرب على مواقع التواصل، وصول بضعة من المهاجرين العرب، أو المسلمين، إلى مراكز صنع القرار في عدد من دول العالم، أمر يستحق عقد الأفراح وأنه بداية لليال الملاح، دون أن يكون لذلك أية مؤشرات. المنطق يقول إن الأهم من اختيار منتمين إلى بلادنا أو ثقافتنا في برلمانات غربية، أن يكون لهؤلاء دور حقيقي أو مؤثر في تغيير مواقف تلك البلاد التي باتوا يحملون جنسيتها من بلادنا التي كانوا، أو آباءهم، يحملون يوما جنسيتها. أما مجرد حصولهم على المناصب فهو محض خبر عادي. طالبت بعض الأصدقاء بضرورة تأجيل الاحتفال إلى حين حصول ما يستحق، فإن اتخذ أحدهم أو إحداهن، موقفا يستحق الاحتفال، فلنحتفل ونرقص ونغني، أما أن نحتفل "قبل الهنا بسنة"، فهذا أمر مؤسف، خصوصا وأن تجاربنا في هذا السياق لا تبشر بخير. لكن أصدقائي أصروا على أنها فرصة فرح علينا اقتناصها. تعالوا نستعرض بعض الوقائع: الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أصول أوربية، جده ألماني، لكن ها هو يستعدي أوروبا كلها، بفرض رسوم وضرائب واعلان ما يشبه الحرب الاقتصادية. والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من أصول أفريقية، أبوه من كينيا، فماذا فعل لصالح أفريقيا غير الخطابات الرنانة؟ عمدة لندن صادق خان مسلم باكستاني الأصل، فهل له دور واضح في مواجهة الإسلاموفوبيا في بريطانيا؟ عين أكثر من وزير ووزيرة من أصول عربية، غالبيتهم من دول المغرب العربي، في حكومات فرنسا المتعاقبة، فهل عمل أيهم على دفع فرنسا للاعتذار عن عقود من احتلال بلدانهم الأصلية؟ معلوم أيضا أن عدد من دول أميركا الجنوبية حكمها أبناء مهاجرون عرب، فهل استفاد العرب من هذه الدول خلال فترات حكم هؤلاء لها؟ ولا يجهل أحد أن للعرب استثمارات بالمليارات في الدول الكبرى، فضلا عن صفقات السلاح التي لا تتوقف، فهل استفادت الشعوب العربية بأي شكل مما تمثله تلك الاستثمارات؟ أو غيرت تلك الأموال المتدفقة من طريقة تعامل تلك الدول معنا، أو نظرة بعضها الدونية إلينا؟ يقول صديقي إنها ليست استثمارات وإنما ضريبة يدفعها حكامنا لحماية عروشهم. الخلاصة أن المجتمع العربي مريض، ولا فارق يذكر يحسب لاختلاف التصنيف الديني أو القومي أو الثقافي، فالكل سواء للأسف، وأصل الداء هو الاستبداد، وعندما يتحرر العرب، عسى أن يكون قريبا، سيكون الشفاء. لكن التحرر هو الخطر الأكبر على المستبدين الذين يحرصون على عدم حصولنا على الحرية حتى لا نرفض سيطرتهم، كما أنه خطر على داعميهم من الخارج، فلو امتلكنا قرارنا لن نسمح لهم مجددا بسرقة ثرواتنا.




يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الاثنين، 13 أغسطس 2018

شرطة الأخلاق


يحرص غالبية البشر على الفضائل والأخلاق خلال تعاملاتهم مع الأخرين، وهذا أمر محمود، فمن يكره أن يعامله الأخرين جيدا، وأن يتجاوزوا أحيانا عن هفواته أو سقطاته، والبعض يحض على ذكر المحاسن بعد موت الأشخاص المختلف عليهم، وكل البشر مختلف عليهم، حتى أن بعض الجهال يظنون أن ذكر محاسن الموتى أحد آيات القرآن، أو جزء من حديث نبوي. في حالات كثيرة يتحول متشدقون بمحاسن الأخلاق، خصوصا في العالم العربي، إلى ما يمكن أن نطلق عليهم "شرطة الأخلاق"، ونافس هؤلاء لفترات طويلة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في السعودية، قبل تجميدها، وهيئات وجمعيات عدة مشابهة لها في دول عربية وإسلامية. ينتشر هؤلاء في الفضاء الإعلامي، وفي مواقع التواصل، وبينهم ساسة ومثقفون ورجال دين، فضلا عن الفنانين والمشاهير، وحتى بعض مقدمي البرامج، وغالبيتهم محسوبون على الأنظمة، وبعضهم محسوبون على المعارضة. وفي حين أن الشرطة في كثير من بلاد العرب معروف عنها تكرار تجاوز القوانين، فإن أفراد "شرطة الأخلاق" عادة ما يتجاوزون القوانين والمبادئ والمنطق، فتجدهم يضخمون عن عمد موضوعات تافهة، ويتعامون عن موضوعات مهمة، وهم يستخدمون كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتدمير أو تشويه أي شخص، أو جهة، لا ترضى عنه السلطة، أو الجهة التي تدعمهم، وبالمثل لا يتورعون عن اختلاق الأكاذيب للدفاع عن أي شخص، أو جهة. ليست تلك الأفة الخطرة حديثة عهد، وإنما هي جزء من تراث محفوظ، وسجلتها آلاف أبيات الشعر التي كانت توثق أحداث التاريخ، فالشاعر كان يدافع عن نفسه، أو عن عائلته أو قبيلته، بقول الحق وباختلاق الزور، ويهاجم غريمه، أو غريم قبيلته، بالحق والزور. لكن تطور وسائل التواصل بين البشر منح "شرطة الأخلاق" مساحات أوسع من الانتشار والتأثير. يكفي أن يهاجم أحدهم شخصا أو ينتقد شيئا، لتظهر آلاف التعليقات والمداخلات المتباينة، والتي تتحول أحيانا إلى حملات شبه منظمة، وبعضها منظم بالتأكيد. لاشك أن من حق كل البشر توجيه الانتقادات لمن وما لا يعجبهم، والثناء على من وما يعجبهم، ولا جدال في أهمية الاختلاف والنقاش، لكن الحملات الموجهة للتشويه أو التلميع لا تندرج ضمن تلك الحقوق. ما يقوم به أفراد مليشيا "شرطة الأخلاق" ليس إلا جريمة منظمة يجب مواجهتها لأنها باتت أحد أدوات الاستبداد وقمع حرية الرأي والتعبير، وليس أوضح على ذلك من تكرار صمت هؤلاء على جرائم كبرى ترتكبها أنظمة حاكمة أو متنفذين، في مقابل تكرار إثارة موضوعات تافهة أو جدلية لإلهاء المجتمعات عن الأزمات الحقيقية.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 5 أغسطس 2018

حكايات المراهقة




اجتزت الشهادة الإبتدائية بتفوق، وكنت الأول على منطقتي. لم أكن من هواة كرة القدم ولا الأنشطة الرياضية عموماً، بل من عشاق القراءة والأفلام السينمائية والموسيقى، وكلها بطبيعة الحال تستلزم قضاء الوقت في المنزل.
 في المرحلة الإعدادية تغيرت اختياراتي، واصلت حبي للقراءة والأفلام، لكني أصبحت أميل إلى قضاء وقت أطول بعيداً عن المنزل، مدمناً على الرحلات الخلوية والمعسكرات الطلابية، حتى أنني انضممت لفترة إلى فرقة موسيقية. في تلك المرحلة تدهور مستواي التعليمي، واجتزت الشهادة الإعدادية بمعدل متوسط. أذكر أن أبي، كان مبتهجاً باجتيازي الامتحان، إذ لم يكن يعتقد أن بامكاني النجاح.
 في المرحلة الثانوية زادت الأمور تدهوراً، وأصبح قضاء الوقت مع الأصدقاء خارج المنزل شغلي الشاغل، وبات التعليم آخر اهتماماتي. وقتها رحلت أمي عن الدنيا، وتغيرت تفاصيل الحياة إلى حد كبير، ما جعلني أميل إلى البقاء خارج المنزل أكثر.
عدت للتركيز على دروسي، وكنت مصمماً على تحقيق معدل يخالف توقعات العائلة. كان شقيقي البكر قد اجتاز الشهادة الثانوية بمعدل مرتفع والتحق بكلية الصيدلة، وكان أبي فخوراً بذلك، لكنه في المقابل كان لا يعول بالمرة على معدلاتي بعكس آماله خلال سنوات تعليمي الأولى.
كنت مراهقاً صعب المراس، عنيداً إلى درجة لا يمكنني الآن تفهمها، ولست أدري على وجه التحديد سبب تحولي إلى النقيض في السنة الأخيرة من المرحلة المؤهلة للالتحاق بالجامعة.
  اجتزت الثانوية بمعدل غير متوقع، كان بمقاييس السنة السابقة يؤهل للالتحاق بكلية الطب. أذكر أن أبي صاحب الشخصية الحادة والطباع الصارمة كاد أن يرقص فرحاً يوم أن حملت إليه النتيجة، لكن معدلات هذه السنة كانت مرتفعة فلم ألحق بالطب، وإنما أهلني المعدل لكلية الهندسة، وهو ما كان أبي يدعمه بقوة.
لم يكن أبي راضياً عن اختياري، لكنه اقتنع بمبرري، فسنوات الدراسة قبل الجامعية كانت تؤشر إلى خيارات شاب تنحصر هواياته في السينما والموسيقى والآداب والتاريخ، وليس الهندسة.
عندما عدت إلى المنزل من مكتب تنسيق القبول في الجامعة حاملاً أوراق التقدم إلى "كلية اللغات" لم يتفهم أبي الأمر، وإن لم يعترض على اختياري علناً. سألني عن الوظيفة التي تؤهل لها تلك الكلية، فلم أمنحه جواباً شافياً، إذ لم أكن أعرف على وجه التحديد، ثم سألني عن سبب عدم الالتحاق بالهندسة، فقلت إنني لست مؤهلاً لهذا النوع من الدراسة.
  غادر أبي دنيانا خلال سنتي الدراسية الثانية في الجامعة، ولم يشهد تخرجي، أو اختياري للعمل بالصحافة التي لم تكن يوماً تخطر بباله أو ببالي.





يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية