الجمعة، 30 مارس 2018

كوميديا انتخابية مصرية




أطلقت زميلتنا السوريّة اسم "جولان" على ابنها، تيمّناً بالهضبة التي احتل العدو الصهيوني أغلب مساحتها بعد حرب 1967، بالتزامن مع احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية.
يوم انطلاق ما يقال إنه "الانتخابات الرئاسية" في مصر، كان جولان بصحبة أمه في مكتبنا، وكان محط أنظار الزملاء، وخصوصا الزميلات.
بدأت الزميلة ملاطفة رضيعها قائلة "سيسي"، فضحك الطفل الذي لم يتجاوز بضعة أشهر من عمره، وكلما كررت أمه اللفظ نفسه، كرر الضحك، لتؤكد لنا أن هذه أحد ألعابهما اليومية المحببة.
لا يدرك "جولان" لصغر سنه، أن هذا اللفظ الذي تداعبه به أمه هو اسم الرئيس المصري، وهو لا يعرف بالطبع أن هذا اليوم يوافق أول أيام التصويت على تمديد فترة حكم السيسي لمصر، وسيعرف حين يكبر أن الديكتاتور الدموي صاحب الاسم الذي أضحكه صغيراً يثير الضحك حول العالم كلما تحدث، على الرغم من كل ما تضمه أحاديثه من كوميديا سوداء.
في الأيام التالية، وربما حتى اليوم، تحولت وقائع الانتخابات المصرية إلى وسيلة البهجة الأكثر انتشاراً بين الزملاء من كل الجنسيات، هؤلاء يستعرضون صوراً لمصوتين صادفوها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهؤلاء يشاهدون لقطات فيديو متداولة عن الانتخابات، أو يتابعون حديث إعلامي أو فنان أو رياضي مصري عن الانتخابات، وكلها تنتهي بوصلات من الضحك، وإطلاق "قفشات" و"نكات".
تعتبر الانتخابات ممارسة سياسية جادة. لكنها في مصر باتت مصدراً للكوميديا منذ تم إقرارها كبديل للاستفتاء على بقاء الرئيس في منصبه في 2005، وزادت الكوميديا بعد ثورة يناير 2011، وكأن تلك الكوميديا المصاحبة للانتخابات مقصودة للتسفيه من قيمتها، خصوصاً أن هؤلاء الذين نظموا كل الانتخابات التي عرفتها مصر، لا يؤمنون بالديمقراطية أو تداول السلطة، كما يحرصون على الإجهاز على أبسط مبادئ النزاهة والشفافية.
هذا العام، لم تكن فيديوهات وصور الرقص أمام مراكز التصويت هي الظاهرة الأبرز، كما كان الأمر سابقاً، بل تفوقت عليها مشاهد كبار السن والمقعدين الذين احتفت القنوات المحلية بمشاركتهم في التصويت بمقاعدهم المتحركة، والذين تظهرهم صور ولقطات أخرى يسيرون بشكل طبيعي.
فجأة ظهرت مشاهد مراقبين أميركيين يشاركون فلاحين مصريين ومشرفين على الانتخابات الرقص بالعصا على موسيقى "الطبل البلدي" أمام مركز للتصويت بمحافظة المنوفية، وتُظهر مراقباً آخر يدخن "الشيشة"، وآخرين يتناولون "الفطير المشلتت" الذي تشتهر به المحافظة.

انتشرت اللقطات حول العالم، لتكون النموذج الأكثر تعبيراً عن هذه الكوميديا التي يسمونها "العرس الانتخابي".



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الجمعة، 23 مارس 2018

وردة عيد الأم





 قبل أسبوعين، فاجأتنا إحدى الزميلات بتوزيع باقات زهور جميلة على الزميلات في مكتبنا بمناسبة "يوم المرأة العالمي"، وقالت حينها، إنها "تعبير من المؤسسة عن الامتنان لهن في يومهن".
 كانت اللفتة لطيفة وتستحق الإشادة، إلا أنها أثارت بعضاً من الامتعاض المكتوم في نفوس الزملاء الرجال، أو بالأحرى معظمهم، لكن أحداً لم يعلن امتعاضه خشية تسليط سيف العداء للنساء المشهر عليه، وهو أمر شائع في كثير من المجتمعات والمؤسسات التي تدعو إلى التحرر والإنصاف، بينما هي في الواقع غير بريئة من التمييز.
 ليس للرجال يوم عالمي، وكذا لا يملكون حالياً انتقاد تمييز النساء بتخصيص أيام ومناسبات عالمية. الحجة الرائجة أن العالم تحكمه النظرة الذكورية، وأن الرجال تسلطوا على النساء على مدار التاريخ، وتلك المناسبات تم تدشينها لمنح النساء حقوقهن الضائعة والتي يُتهم الرجال عادةً بتضييعها.
ترددت همهمات الرجال مجدداً، وكشف بعضهم على استحياء الامتعاض الذي كتمه في يوم المرأة بإشارات وحركات مفادها: أهلا بحقوق النساء. لكن لا ضير في شيء من الاحتفاء بالرجال!
قبل يومين حلت مناسبة "عيد الأم"، وفاجأتنا زميلة أخرى بتوزيع نبتة صغيرة تحمل زهرة رقيقة مرفقة بكلمات ثناء على الزميلات العزيزات للمرة الثانية خلال الشهر نفسه.
  بعد دقائق عادت الزميلة نفسها، في مفاجأة ثالثة، لتوزع على الرجال، وهم الأغلبية في المكان، زهرة أنيقة مغلفة بشريط وردي. لم يفهم كثير من الزملاء الأمر، وظنوا أنه جاء رداً على همهماتهم وامتعاضهم من تكرار الاحتفاء بالمناسبات النسائية.
لا أشكك في أن الزميلة على حق، فالغالبية العظمى من الزملاء أحرص على شراء الخبز والحليب والبيض، وعقول الرجال تفضل شراء اللحوم دائماً على اقتناء الزهور، على الرغم من علم بعضهم أن عقول معظم النساء على العكس من ذلك تماماً.
لكن الزميلة لم تترك مجالاً طويلاً للتوقعات والاستنتاجات، وعاجلتنا بأن الوردة الجميلة ليست لنا، وإنما هي لزوجاتنا، فانفجرت الهمهمات التي كانت مكتومة، وسمعت بعض التعليقات على إشارتها المباشرة إلى واقع تجاهل غالبية الزملاء، أو عدم انتباههم في الأصل، لفكرة شراء الورود لزوجته.
  بعد مغادرة الزميلات المكتب مساء، بات حوار الرجال أكثر تحرراً كما جرت العادة يومياً، فقال أحدهم إن زوجته قد تتهمه بالجنون إن دخل المنزل ليلاً حاملاً وردة، وليس ما طلبته منه من مستلزمات، وقال آخر إن الوردة ربما تسهم في تحسين علاقته الحميمة بزوجته، فرد ثالث متهكماً: يبدو أن بعض الزملاء لن يحضر غداً بسبب وردة عيد الأم، لينفجر الجميع في ضحك طويل.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 17 مارس 2018

مفاتيح الجنة والنار



 مات ستيفن هوكينغ فانشغل بعض العرب بأنه كان ملحداً، وزاد بعضهم أنه سيدخل النار مع الكفار، متجاهلين ما في قصة حياته الطويلة القاسية من عبر وعظات تبرهن على قدرة الإنسان على تحدي المستحيل وتطويع المصاعب، وما قدمه للبشرية من نظريات علمية. البعض يناقش أو ينتقد نظرياته وأبحاثه وآراءه، والبعض يرفضها أو يعتبرها بلا قيمة، وهذا حق للجميع، فنظريات العلم ليست مقدسة، والعلماء مهمتهم التوصل إلى أدلة على النظريات القديمة، أو تصحيحها، أو إثبات أنها غير صحيحة. لاحقاً عرفنا أن المهندسة التي قادت فريق بحث لتنفيذ برنامج يجعل هوكينغ قادراً على التواصل مع الآخرين عن طريق الكلام، من أصول فلسطينية، وولدت في الكويت، ولما شاهد بعض المهووسين بالتحريم ومنح صكوك الإيمان صورتها مع العالم الراحل، هالهم كيف أنها لا ترتدي الحجاب، ووصل بعضهم إلى حد استنكار أنها اختلت بالرجل بينما الخلوة محرمة، فنالها نصيب من التكفير ومن تحريم دخول الجنة واعتبارها من أهل النار. لا يمكن على وجه التحديد معرفة الجهة التي منحت هؤلاء الأشخاص مفاتيح الجنة والنار، أو حق تصنيف من سيرفل في النعيم ومن سيصفد في الجحيم، ولا يمكن، دون دراسة سلوكية ونفسية معمقة، فهم منطق هؤلاء الذين يكررون نصوصاً دينية تحدد مواصفات الإيمان الواجب توافرها في الأشخاص، ووفقها يتهمون من لا تتوافر فيه بالكفر، خصوصاً أن بعضهم لا يفهم أغلب تلك النصوص على الوجه الصحيح، كما أن بعض النصوص غير دقيق، أو محرف، أو مدسوس. نفس هؤلاء الأشخاص، كمثال، يدعمون الأنظمة الفاسدة والحكام المستبدين اعتماداً على نصوص دينية مجتزأة تجعل الخروج على الأحكام من الكبائر، "وإن جلد ظهرك، وإن سلب مالك"، وأغلبهم لا يعرفون أن نص الحديث يبدأ بـ"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس". هؤلاء أنفسهم يتجاهلون نصوصاً أخرى صريحة حول فضل "كلمة حق عند سلطان ظالم"، وتعيب على المؤمنين السكوت على الظلم وتعتبر من يفعل ذلك منهم "شيطانا أخرس". لا سبب واضحاً حتى الآن، غير الغباء أو ربما التغابي، للتركيز على إيمان العالم بدلاً من علمه، أو على شخصيته بدلاً من مهارته. لماذا لا يفكر هؤلاء الذين يزعمون أنهم يحتكرون الإيمان، ولو قليلاً، في أسباب تخلفهم عن التطور القائم حول العالم؟ ألا يعرفون النصوص الدينية التي تستنكر التخلف العلمي؟ أم يتعامون عن النصوص التي تدعو لإتقان العمل والاجتهاد لتحسين أوضاعهم ومنح أبنائهم وأحفادهم مستقبلاً أفضل؟ إنهم منشغلون فقط بمنح صكوك الجنة والنار.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 10 مارس 2018

عدو المرأة



اشتهر الأديب الراحل توفيق الحكيم بأنه "عدو المرأة"، على الرغم من أن آراءه يمكن النظر إليها وفق المتعارف عليه من ثقافة مجتمعه، والغالب أن التهمة التصقت به لأنه عاش في فترة تموج بما أطلق عليه "تحرير المرأة"، وهو شعار ما زال قائماً على الرغم من مرور أكثر من قرن على ذيوعه.
يرجع كثيرون مسؤولية علاقة الحكيم المتوترة بالنساء إلى أول امرأة عرفها في حياته، وهي أمه، التي كانت سيدة متعجرفة متسلطة، يعتقد أنه رسم شخصيتها الكريهة من خلال شخصية "الهانم" في روايته الشهيرة "عودة الروح".
لكن الثابت أنه لم يكن عدواً مطلقاً، وإنما لم تكن آراؤه تلبي تطلعات من انتقدنه من النسوة، خصوصاً زعيمة حركة تحرير النساء آنذاك، هدى شعراوي، التي عارضها وجادل في صحة آراء تيارها، سواء في مقالاته أو رواياته.
هذا النص من حوار منشور أجري معه، مثال واضح: "ناديت دائماً بتثقيف المرأة تثقيفاً تاماً لتكون زينة البيت، وأستاذة الطفل، ومعلم الجيل. المرأة ليست قطعة من أثاث البيت توضع فيه بجهلها وعقلها المغلق. وهي ليست خادمة تطعم الرجل وتغسل ملابسه، ولكنها شريك محترم ينبغي أن يجد فيه الرجل متعة عقلية تحبب إليه البيت حتى لا يهرب إلى المقاهي. أؤيد بقاء المرأة في البيت لكي تكون بحق ملكة. إن من النساء في صدر الإسلام من فقن الرجال في فنون الأدب والعلم، وكان لبعضهن مجالس مشهورة يحضرها رجال الدولة ونوابغ الشعراء والأدباء. وكان ذلك في عصر لم تزاحم فيه المرأة الرجل في المناصب والأعمال".
في المقابل، تظل قصة إنكار هدى شعراوي لزواج ابنها من المطربة فاطمة سري، لأسباب طبقية، قبل أن تقضي محكمة بصحة الزواج، علامة فارقة في تاريخ الرائدة النسائية، وربما يصلح دليلاً على أن بعض النساء أكثر عداوة لبنات جنسهن من بعض الرجال.
ويبقى نص خطاب التنديد الذي أرسلته سري إلى شعراوي، نموذجاً معبراً عن التناقض بين الشعارات والواقع، وفيه تقول المطربة للزعيمة: "إن اعتقادي بك وبعدلك، ودفاعك عن حق المرأة، يدفعني إلى التقدم إليك طالبة الإنصاف، وبذلك تقدمين للعالم برهاناً على صدق دفاعك. لو كان الأمر قاصراً علي لما أحرجت مركزك، لعل أنك أم تخافين على ولدك ومستقبله، وعلى سمعته من أن يقال إنه تزوج امرأة كانت في ما مضى تغني على المسارح، ولك حق إن عجزت عن تقديم ذلك البرهان الصارم على نفسك؛ لأنه يصيب من عظمتك وجاهك وشرف عائلتك، كما تظنون يا معشر الأغنياء، ولكن هناك طفلة مسكينة هي ابنتي وحفيدتك (...) أخاف إلهاً عادلاً سيحاسبني يوماً عن حقوقها، إن لم تحاسبني هي عليها".

عسى أن تتخلص النساء أولاً من عداوة بعضهن.




سمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 3 مارس 2018

ذكريات القطار والمزلقان



 لم أكن يوماً خلال أكثر من 35 سنة، من هواة التنقل بين المحافظات باستخدام قطارات "سكك حديد مصر". كنت دوماً أفضّل وسائل النقل الأخرى رغم محاولات الأصدقاء والأقارب إقناعي أن القطار أفضل من الحافلات والسيارات، خصوصاً في المسافات البعيدة، مثل السفر إلى الأقصر أو أسوان في أقصى الجنوب، أو مرسى مطروح في أقصى الغرب، حتى أن بعضهم كان يؤكد أفضلية القطار في السفر إلى الإسكندرية التي لا تبعد عن القاهرة بالسيارة أكثر من ساعتين. لكن علاقتي بالقطار كانت وثيقة خلال أكثر من 10 سنوات متواصلة، إذ كان منزلي يبعد عن مسار قطارات "القاهرة- الصعيد" في قلب محافظة الجيزة، نحو كيلو متر واحد، عبر "مزلقان أرض اللواء". المزلقان لمن لا يعرفه هو إشارة مرور خاصة بخطوط السكك الحديدية التي تمر عبر المناطق السكنية، ومزلقان "أرض اللواء" استمد شهرته من كونه يقبع في قلب منطقة سكنية مزدحمة بنحو مليوني شخص يعيشون على جانبيه، وأنه يفصل بين منطقة المهندسين الراقية، ومنطقة أرض اللواء التي كانت قبل أقل من 20 سنة ريفية، ثم تحولت سريعاً إلى منطقة شعبية، وهي حالياً عامرة بالأبراج السكنية الفاخرة. لم أعرف يوماً سبباً لتسمية المزلقان باسم المنطقة الشعبية وليس باسم المنطقة الراقية، رغم أنه يؤدي إلى كليهما، لكني شهدت خلال فترة إقامتي الطويلة نسبياً الكثير من الحوادث التي راح ضحيتها عشرات الأشخاص تحت عجلات القطار خلال عبورهم المزلقان البدائي الذي يتولى إدارته عامل بسيط، ويتكوّم على جانبيه عشرات الباعة الذين يعرضون أنواعاً كثيرة من المستلزمات الحياتية تتباين بين الهواتف والملابس والأحذية والفواكه والخضراوات وغيرها. كنت أعيش رعباً يومياً بسبب المزلقان، فأطفالي يعبرونه يومياً للذهاب إلى المدرسة، وتكرار الحوادث وسقوط الضحايا، وأغلبهم من الأطفال، كان هاجساً متواصلاً. طيلة فترة إقامتي في المنطقة كنت شريكاً وشاهداً على حملات ومبادرات لتطوير المزلقان، أو التخلص منه. الواقع أنه طيلة 20 سنة، أعلنت حكومات مصرية متعاقبة عن خطط للتخلص من مئات المزلقانات المنتشرة في أنحاء البلاد بهدف وقف نزيف الدماء اليومي. قبل ثلاث سنوات فقط اختفى ما كان يسمى "مزلقان أرض اللواء". تم استبداله بجسر مشاة، وبات للسيارات جسر آخر يربط بين جانبي طريق القطار، لكن عشرات المزلقانات ما زالت تحصد الأرواح في مصر، فضلاً عن تدهور أحوال القطارات وغياب صيانتها الدورية التي تجعلها تتصادم أو تخرج عن الطريق، كما حدث الأربعاء الماضي عندما تصادم قطارا المناشي في محافظة البحيرة وأوقعا قتلى ومصابين.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية