السبت، 23 يونيو 2018

تبرعوا لمشروع الزير



يحكى أن ملكاً كان يتفقد أنحاء مملكته، فمر على قرية صغيرة كان أهلها يشربون من "ترعة"، فقال للحاشية: هذا لا يصح في مملكتي. ابحثوا عن طريقة أكثر آدمية ليشرب منها أهل القرية. حتى لو كانت "زيرا".
 و"الزير"، لمن لا يعرفه، جرة كبيرة من الفخار، وما زال مستخدما في أرياف دول عربية عدة. 
 
استجابة لرغبة الملك، تقرر شراء "زير"، ووضعه على شاطئ الترعة ليشرب منه الناس، وعندها اقترح واحد من الحاشية أنه من الضروري أن يتم تعيين شخص ليتولى ملء الزير يومياً، وبالفعل تم تعيين "سقا"، وفي اليوم التالي، وبعدما بات الزير ضمن المال العام، تقرر تعيين حارس له.
 في أيام لاحقة شكا السقا والحارس أنهما لا يمكنهما الاستمرار في المهمة على مدار الساعة، وتم رفع الشكوى إلى الديوان الملكي، فتقرر تعيين ستة حراس وستة سقائين للعمل بنظام المناوبات لحراسة وملء الزير.
 
بمرور الشهر الأول على وجود الزير في مكانه، اتضح أن أحداً لم ينتبه إلى كيفية دفع رواتب العاملين على شؤونه، وعندها تقرر إنشاء إدارة مالية، وتعيين محاسبين لتولي مهمة صرف رواتب العمال.
مع تردد مواطني القرية على الزير كبديل للترعة، أصبحت للسقائين والحراس مهمة حقيقية، لكنّ يوماً شهد عاصفة ترابية، أظهر مشكلة جديدة تحتاج إلى حلول عاجلة، فتقرر تشكيل لجنة فنية تتولى صيانة الزير، وكذا تجهيز حامل خشبي وغطاء حتى لا يتلوث ماؤه.
   وفي أحد الأيام تأخر أحد السقائين عن موعد العمل، ولم يتم ملء الزير بالماء، فاشتكى الناس، فاكتشف الديوان الملكي أنه لم ينتبه إلى ضرورة وجود من يتابع الالتزام، فتم إنشاء إدارة لشؤون العاملين، وعمل دفاتر حضور وانصراف، وترتب على ذلك إنشاء إدارة قانونية للتحقيق مع المخالفين والفصل بين المتنازعين.
 زاد تدريجياً عدد من يتولون تسيير شؤون الزير، فتقرر تعيين موظف كبير ليدير دفة العمل.
ولما سأله الملك عن طبيعة عمل المبنى، أجاب بأن هذه الإدارة أنشئت لرعاية الزير الذي أمر به قبل سنة ليشرب منه أهل القرية بدلاً من الترعة.
بعد مرور سنة، كان الملك يمر كعادته لتفقد مملكته، فوجد مبنى كبيرا تعلوه لافتة كتب عليها "الإدارة العامة لشؤون الزير".
 دخل الملك المبنى ليستكشف الأمر، فاستقبله المدير أشيب الشعر ليطلعه على غرف عدة تضم عشرات العاملين، وقاعة اجتماعات، قبل أن يقوده إلى غرفة متسعة تضم مكتباً فخماً يحمل لافتة كبيرة مزركشة كتب عليها "مدير عام شؤون الزير".
  أومأ الملك برأسه راضياً، وطلب أن يذهبوا به إلى الزير، وهناك طالع لافتة كتب عليها "تبرعوا لنشر تجربة الزير الملكي في أنحاء البلاد".



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 17 يونيو 2018

في بيتنا مونديال



علاقتي بمتابعة مباريات كرة القدم وأخبار نجومها وفرقها مقطوعة منذ أكثر من عشرين سنة، رغم أن كل أفراد عائلتي من عشاق المستديرة. حضرت في طفولتي ومراهقتي تجمعات عائلية عدة لمتابعة مباريات وبطولات، وما زلت أذكر وقائع مباريات شهيرة في عدد من البطولات الأفريقية، وبالطبع تفاصيل مشاركة مصر في كأس العالم 1990. في هذه الأيام، يشارك فريق مصري في بطولة كأس العالم في روسيا بعد 28 سنة غياب عن البطولة الدولية الأهم في اللعبة الأكثر شهرة حول العالم، ورغم أن عدم رغبتي في متابعة المباريات لم تتبدل، إلا أن كثيراً من الأشياء فيما يخص علاقتي بالكرة تغير رغماً عني. ينخرط ولداي منذ سنوات في مدرسة للتدريب على كرة القدم، وهما بالطبع من عشاق مشاهدة المباريات، ويحفظان أسماء مئات اللاعبين، بل إنهما أحياناً يدخلان في نقاشات وجدالات طويلة حول وقائع مباراة أو مباريات، بعضها مر عليها وقت غير قصير، بينما والدهما لا يعرف كثيراً عن الشأن الذي يتناقشان فيه. ابني الأكبر من مشجعي النادي الأهلي المصري، ونادي ريال مدريد الإسباني، و"رونالدو" نجمه المفضل، بينما ابني الأصغر يشجع نادي الزمالك المصري، ونادي برشلونة الإسباني، ويطلق على نفسه لقب "ميسي". معلوماتي حول كرة القدم محدودة، لكني أدرك جيداً أن الأهلي والزمالك هما قطبا الكرة المصرية، وأن المنافسة بينهما تمتد بامتداد تاريخ كرة القدم في مصر، وأدرك أيضاً أن الأمر مماثل تقريباً في حالة "الريال" و"البرشا". على مدار السنوات الماضية نشبت في بيتنا عشرات الخلافات بين الشقيقين بسبب المباريات، وكان بعضها يتحول إلى اشتباكات بالأيدي، وأحياناً مقاطعة بعضهما البعض لأيام، رغم أنهما، في العادة، لا يشاهدان المباريات سوياً، وإنما يشاهد كل منهما بعيداً عن الآخر. في السنة الأخيرة ظهر المصري محمد صلاح على الساحة، ليستحوذ سريعاً على اهتمام كل مشجعي الكرة في مصر، وعدد كبير من المشجعين العرب، ولأول مرة اتفق ولداي على متابعة مباريات نادي ليفربول الذي يلعب له صلاح، حتى لو كان يلعب ضد ناديهما المفضل. لما بدأ مونديال كأس العالم في روسيا، تحول منزلنا إلى ما يشبه معسكرات فرق الكرة قبل البطولات الكبرى، وعادة ما يبدأ بعد كل مباراة استديو تحليل كما في القنوات الرياضية. ولأن مصر مشاركة في هذه البطولة، فإن الاهتمام زائد عن المعتاد، إذ باتت تدور أغلب تفاصيل الحياة اليومية، من طعام وزيارات وغيرها، حول مواعيد المباريات، كما تؤثر النتائج في الجو العام للمنزل، خصوصاً نتائج مباريات مصر الثلاث، كأن المونديال في منزلنا.


يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

السبت، 9 يونيو 2018

خمس سنوات انقلاب


كانت الحُجّة الرائجة أن محمد مرسي ضد هويّة البلاد، وأنه سيزيد من تردي الأوضاع السيئة، وأن إزالته عن رأس السلطة ضرورة حتى لا يتضرر الوطن.
تم ترويج تلك الشعارات بقوة تحقيقاً للمثل الشعبي المصري "الزّنّ على الودان أقوى من السحر". كان الآلاف مدفوعين بمصالحهم الضيقة، ورؤيتهم القاصرة، بينما كان رجال النظام القديم، الذي لم يسقط يوماً، يدعمون إسقاط الحاكم رغبة في استعادة دولتهم التي تزلزلت أركانها بعض الشيء في 2011.
خرج مئات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بإسقاط الرئيس، آلاف من هؤلاء قرروا التخلي عن إجازاتهم السنوية في سواحل مصر، أو خارج البلاد، للمشاركة في إسقاطه. رغم أن هؤلاء أنفسهم كانوا ضد إسقاط من سبقه وهاجموا من طالبوا بسقوطه.
سقط النظام، وفرح من أسقطوه، غنوا ورقصوا، بعضهم لم يكن يدرك مدى فداحة ما فعله بنفسه وببلاده، وبعضهم خدع نفسه أن العسكريين الذين سيطروا على السلطة بعد الإطاحة بالرئيس المدني المنتخب، سيحققون الديمقراطية، أو يعيدون الطابع المدني إلى السلطة، هذا الطابع الذي يعد النتيجة الإيجابية الوحيدة لثورة أطاحت بالجنرال حسني مبارك ونظامه، أو هكذا كنا نعتقد.
بعضهم كان يرغب في تجربة أن يكون ثائراً بعدما أُلصق به وصف "الفلول"، أو "حزب الكنبة"، حتى لو كان ذلك بالمشاركة في ثورة مضادة، وآخرون كان كل همهم إسقاط ثورة يناير، ومعاقبة من شاركوا فيها، وكان هذا مدعوماً بوضوح من الجيش والشرطة. تعددت الأغراض والأهداف، لكنها اتفقت على إسقاط الرئيس محمد مرسي، وهو نفسه ترك الثورة المضادة تشتعل تحت قدميه دون أن يفعل شيئاً لمقاومتها أو تحجيمها.
مرت الشهور والسنون، واختفت شعارات يناير تماماً، ثم اختفت سريعاً شعارات يونيو 2013، فخارطة الطريق المزعومة التي أعلنها الجنرال في بيان الانقلاب، لم يتحقق منها شيء، ولا يحتاج المرء عيناً فاحصة لكشف أن الأوضاع باتت أكثر سوءاً على كل المستويات، فلا الأسعار انخفضت، ولا مستوى المعيشة تحسن، ولا مصر أصبحت "أدّ الدنيا"، بل ظهرت شعارات جديدة منها "شبه دولة" بعدما كانت "أم الدنيا"، و"انتو مش عارفين إننا فقراء أوي"، و"يعمل ايه التعليم في وطن ضايع".
حتى شعارات نخبة الانقلاب نفسها اختفت، وباتت الحريات وتعدد الآراء من الماضي، ومن يخرج إلى الشارع معترضاً يعتقل، وربما يقتل، ومن يكتب أو يعرض رأياً مخالفاً يعاقب، حتى إن التظاهر الذي أسقط مبارك، ثم طارد الجنرال حسين طنطاوي وصولاً إلى عزل مرسي، بات جريمة.
الأهم أنه لم يعد يجرؤ أحد على التبجح بأن مصر الآن أفضل مما كانت عليه في 2013.





يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية

الأحد، 3 يونيو 2018

41 سنة




لم أكن يوما من المهتمين بالاحتفال بذكرى مولدي، على العكس، أعتبر نفسي من هذا الفصيل الذي يكره هذه المناسبة، وكثيرا ما دار بخاطري حوار ذاتي حول أسباب اهتمام الناس بذكرى مولدهم.
 أزعم أنني من هؤلاء الذين يتمنون لو أنهم لم يولدوا في هذا العالم المتخم بمظاهرالبؤس والشقاء والصراعات والدماء والظلم، لكنني أيضا لست ممن يحلمون لو أنهم ولدوا في زمان أخر، فكل الأزمان التي قرأت أو سمعت عنها نال من عاشوا فيها نصيبهم الكامل من البؤس والقهر والظلم، مثلنا، وربما بنسبة أكبر منا.
 كنت دوما أرفض الاحتفال بذكرى مولدي، بل وأتهرب عادة من حضور احتفالات أصدقائي، في سنوات شبابي الأولى، قررت صديقة الاحتفال بعيد مولدها، ووجهت الدعوة لكثير من الرفاق. كنت وقتها أكثر كراهية للاحتفال بذكرى الميلاد، لكني كنت مضطرا للحضور لأنها صديقة مقربة. كان التجمع صاخبا، غنينا ورقصنا وضحكنا، وكانت أغلب الهدايا بسيطة بقدر بساطتنا كطلاب في المرحلة الجامعية.
 دفعني عقلي الكاره للمناسبة للتفكير بطريقة للاعتراض، وهداني إلى الهدية التي اقتنيتها. كانت هديتي عبارة عن "ببرونة" من تلك التي تستخدم في إطعام الأطفال الرضع، بل إنني تعمدت أن أقدمها مليئة بالحليب. لما فتحت صديقتي الهدية التي غلفتها جيدا، تجمدت للحظات في محاولة لإدراك مقصدي منها، ولم ينقذني من غضبها الظاهر إلا تدفق الضحكات من كل الحاضرين اعجابا بالهدية المبتكرة، لكنها لم تعجبها يومها، بالأحرى لم تعجبها أبدا، حتى أنها ظلت تذكرها طيلة السنوات اللاحقة كلما جمعنا مكان أو ضمتنا مناسبة.
 لاحقا، عندما أنجبت ابني الأول، تغيرت نظرتي إلى ذكرى الميلاد، ليس مولدي، وإنما مولده. أصبحت أجهز للاحتفال بمولده قبل حلوله بفترة، وأضيع وقتا طويلا في التفكير في شكل الاحتفال والهدايا وكعكة الميلاد، ثم لما أنجبت ابني الثاني بات الاحتفال بذكرى مولدهما أهم مناسبات العام وأحد أيامنا السعيدة، وكلما تقدما في العمر كلما باتت المناسبة أهم بسبب اهتمامهما البالغ بها، والذي يجبرني على مزيد من التركيز في التفاصيل حتى لا أغضب أي منهما.
في الذكرى الـ41 لمولدي، كانت فرحتي بالتهنئة التي وصلتني منهما هي الأهم، ورغم أن المناسبة مرت وهما بعيدا عني، إلا أن تهنئتهما منحتني من السعادة مت يكفيني حتى نجتمع لنحتفل.
مع زيادة وعيهما بتقدمهما في العمر، أصبحا يهتمان بذكرى مولدي أيضا، ويتباريان في تذكيري بالترتيب للاحتفال، ويتسابقان في جلب الهدايا. لا أتذكر أنني احتفلت يوما بذكرى مولدي قبل أن يجبرانني على الاحتفال بها.



يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية