سلامة عبد الحميد
القاعدة الثابتة تقول إن "التاريخ
يكتبه المنتصر" على مزاجه ووفق رؤيته ورأيه، وكتبة التاريخ يستجيبون للجالس
على كرسي الحكم فيما يطلبه منهم حتى ولو كان خارج المنطق أو يخالف المعقول خاصة لو
أنه ظل قابعا على الكرسي لفترة طويلة.
في تاريخنا المصري الحديث
الكثير من الأمثلة على تلك القاعدة ربما أبرزها أنه لم يكن لدينا رئيس اسمه اللواء
محمد نجيب، وأن جمال عبد الناصر أول رئيس لجمهورية مصر بعد "ثورة" أو
"حركة" أو "انقلاب" يوليو 1952، هكذا تم تصنيف ماجرى ليلة 23
يوليو تاريخيا، لكن عبد الناصر الذي حكم البلاد أوعز لكتبة التاريخ، ومعظمهم كانو من
رفقاء السلاح أو كتبة لمن يحكم أو يدفع، أن يغيروا الواقع ليتحول الإنقلاب العسكري
على الحكم الملكي إلى "ثورة" ويتحول هو "عبد الناصر" إلى أول
رئيس للبلاد بعد الثورة.
لن أتحدث هنا عما فعله عبد
الناصر برفاق السلاح ورفاق الـ"ثورة" أو "حركة" أو
"انقلاب"، فليس هذا مكانه. وإن كان ما فعله مع البكباشي يوسف صديق بطل
أبطال التحول من الملكية إلى الجمهورية وحده مثال صارخ على تزييف التاريخ.
مثال أخر هام لا يمكننا
تجاهله في فترة تالية حيث تحول كل انجاز قادة الجيوش في حرب أكتوبر 1973 إلى
"ضربة جوية" لصاحبها قائد قوات الطيران وقتها حسني مبارك، ولولاها لفشلت
حرب تحرير سيناء، إنه الحاكم مبارك الذي أوعز لكتبة تاريخه، وهم بالتأكيد ليسو أقل
سوءا ولا تزييفا عن كتبة تاريخ عبد الناصر، ليتم حصر الحرب كلها في نجاح الضربة
الجوية وتختفي صورة الفريق سعد الدين الشاذلي من جدارية غرفة عمليات الحرب وتحل
محلها صورة مبارك كما هو الحال في بانوراما حرب أكتوبر الكائنة في شارع صلاح سالم
حاليا.
الأمثلة كثيرة وحصرها يحتاج
كتبا وربما مجلدات، لكن الأهم ما يجري منذ قيام الثورة الشعبية في يناير 2011، وما
يحاول كثيرون أن يدونوه عنها.. التزييف لا يتوقف والتصحيح أيضا ينبغي ألا يتوقف،
الفلول والمتحولون بالألاف، والفاسدون أكثر منهم والكل الأن يدعي الثورية ويحاول
اللحاق بالركب حتى يزيف التاريخ أو على الاقل يحظى بمكان فيه.
ظل رائجا في أيام الثورة
الأولى أن مبارك "بطل" حافظ على البلاد في سنوات صعبة وكانت ألة إعلامية
جبارة تكرر على الشعب تلك الأكاذيب مصحوبة بأن المسئولية تقع على عاتق حاشية مبارك
وليس على عاتقه هو شخصيا قبل أن تتحول المسئولية إلى الدائرة القريبة التي تضم
زوجته وابنه جمال، لكن اللعبة لم تفلح وتكشفت الحقائق تباعا "ربما بقصد أو
ترتيب أيضا" لتطوى صفحة مبارك البطل وتظهر صفحة الرئيس الفاسد.
مررنا بعدها بعمليات تزوير واسعة للترويج للمؤسسة العسكرية الشريفة الصامدة التي حمت الثورة قبل أن تنهدم الأسطورة وتتضح للجميع معالم المؤسسة المليئة بالفساد والقمع والتربح والفشل مثلها مثل باقي مؤسسات دولة مبارك خاصة بعد أحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء، وتبعتها مؤسسة أخرى أكثر فسادا هي المؤسسة القضائية التي باتت الأن في مرمى نيران المجتمع كله وعلى رأسها رموز تزوير الإنتخابات في عصر المخلوع وتبرأة قتلة الثوار وتهريب المتهمين الأمريكان بعد الثورة.
لا يمكننا في هذا المقام أن
نغفل أبدا عمليات الترويج لأشخاص فاسدون أو فاشلون أو على أقل تقدير بلا موهبة أو
قدرة على الفعل باعتبارهم المخلصون والمنقذون لمصر من الخراب، بداية من عمر سليمان
اليد اليمنى لمبارك على مدار سنوات طوال ثم أحمد شفيق لص المطار الهارب المطارد
حاليا بعشرات القضايا التي تنتظره لمحاسبته على سنوات طوال من الفساد مرورا بعصام
شرف وكمال الجنزوري.
تزوير التاريخ إذن واقع لا
مناص من التسليم بوجوده وإن كان أمرا صعبا للغاية في الفترة الحالية التي باتت
وسائل الإتصال سمة أساسية فيها وبات الناس يشاهدون الأحداث من أي مكان وكأنهم
حاضرون فيها، ولا يمكن هنا إغفال دور قنوات التليفزيون في تزوير الأحداث وإظهارها
على عكس الواقع طبعا.
لكن الغباء أحيانا يدفع
البعض إلى التزوير بطرق أقل ما يقال عنها أنها "المسخرة" ومن ذلك قول
وزير الداخلية الأسبق منصور العيسوي أن الداخلية ليس فيها "قناصة"، أو
قول المتهم الهارب أحمد شفيق "اللي قتل واتقتل" إن الإخوان هم من دبروا "موقعة
الجمل"، أو قول الأخ صفوت حجازي إن شباب الثورة تركو أحداث محمد محمود
الدامية وذهبو إلى اللهو والجنس والخمور في "شقة العجوزة"
أما الواقعة الجديدة التي
دعتني في الحقيقة لكتابة هذه التدوينة الطويلة فكانت الكوميديا التي شاهدتها تصدر
عن صاحب عربيات بيع سندوتشات الكبده في منطقة عابدين رجب
هلال حميدة الذي تحول في عهد المخلوع إلى نائب برلماني فجأة.
ظهر رجب هلال حميدة أحد الحاصلين على "البراءة"
في قضية موقعة الجمل ليومين متتاليين مع الإعلامي "المتحول" عمرو أديب
ليحكي عن يومياته في السجن الذي كان فيه بصحبة "عصابة" المخلوع بتشكيلها
الكامل، وضمت اليوميات الكثير من الأمور التي يمكن وصفها بالدجل وأمورا يتضح لأي
متابع عادي أنها لم تحدث وإنما قرأها الراوي في الصحف التي ظلت شهورا تروج
الأكاذيب مثلما قرأناها جميعا.
لكن رجب هلال حميدة وصل قمة "المسخرة"،
وهي بالمناسبة ليست لفظة مسيئة وإنما تعريب صحيح للكلمة الإنجليزية sarcasm،
عندما قال في حلقة الأمس الثلاثاء إن صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطنى المنحل كان عضوا بجماعة الإخوان المسلمين وتركهم
وانتقل إلى حزب "مصر الفتاة" قبل ثورة 1952.
ولد صفوت الشريف في ديسمبر 1933 أي أنه عند قيام
ثورة يوليو 1952 كان في الثامنة عشرة، كان قبلها إذن "مراهق" ربما يتحول
من تيار إلى أخر لكن ذلك أبدا لا يمكن أن يسوغ لحميدة أن يقول ما قاله، إضافة إلى
أن الشريف الذي كان كادرا في المخابرات العامة في الستينات وله فضائح شهيرة وقضايا
مثبتة لم يكن من الممكن أن يتاح له دخول المؤسسة العسكرية لو أنه كان يوما عضوا في
جماعة الإخوان المسلمين التي كانت محظورة في ذلك الوقت.
ربما تكشف الأيام القادمة أيضا أم حسني مبارك كان أحد
قيادات الدعوة السلفية في الأسكندرية، خاصة وأننا سمعنا طويلا حكايات انتماء ابنه
الأكبر علاء إلى السلفيين مرة وإلى الصوفيين مرات.
ولا يمكنني هنا أن أتجاهل مرتضى منصور بعد يومين فقط
من وصف الدكتور سيف عبد الفتاح بأنه "عميل قطري وحمار" مع وائل الغبراشي
"والغلطة الإملائية مقصودة"، مرتضى قال لمعتز مطر في قناة "مصر
25" الإخوانية أمس الثلائاء هاتفيا إنه كان صديقا للدكتور محمد مرسي رئيس
الجمهورية أيام أن كانا زملاء في البرلمان، وأنه عاتب حبيب العادلي وزير داخلية
مبارك عندما قبض على ابن، النائب وقتها، محمد مرسي من الجامعة نكاية في أبيه.
عموما مصر بلد العجايب...
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
أشد على يديك
ردحذف