أظهر عدد من الوثائق، التي ينشرها «مدى مصر» عبر الاتفاق الموقع مع ويكيليكس، عن اهتمام كبير من المملكة العربية السعودية بما يمكن تسميته "الملف الشيعي في مصر"، وتظهر الوثائق، التي تعد الدفعة الثانية من تسريبات وزارة الخارجية السعودية، متابعة السفير السعودي في القاهرة لهذا الملف عبر تواصل مع ممثلين عن الأزهر الشريف، من بينهم شيخ الأزهر، وعدد آخر من رموز التيارات الإسلامية المتنوعة.
ففي برقية بتاريخ 9 رجب 1433هـ (30 مايو 2012م)، معنونة بكلمة "سرية"، بعث وزير الخارجية السابق سعود الفيصل إلى رئيس الوزراء السعودي تقريرًا عن النشاطات التي يقوم بها السفير السعودي في القاهرة لتنسيق جهود ما أسماه "التصدي لمحاولات المد الشيعي في مصر".
وينقل الفيصل في برقيته أن السفير السعودي في القاهرة أحمد قطان قد "تأكد" من أن معظم الرموز والمؤسسات الدينية في مصر "ترفض إقامة حسينيات شيعية في مصر". ومن بين تلك الرموز والمؤسسات التي تذكرها البرقية شيخ اﻷزهر، وبعض أعضاء مجمع البحوث اﻹسلامية، وجماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية وغيرها.
وتشير الوثيقة إلى استمرار متابعة السفير لجهود مواجهة هذا "المد الشيعي"، وهي المتابعة التي يجريها على مستويين: اﻷول، هو المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى رأسها اﻷزهر ومجمع البحوث اﻹسلامية. أما الثاني فهو رموز التيارات اﻹسلامية المتنوعة، وخصوصًا التي تمثل التيارات السلفية، كجماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية ورموز أخرى.
من بين تلك الرموز، ورد اسم الداعية اﻹسلامي محمد حسان مرتين. حيث أشار الفيصل في تقريره إلى حوار جمع السفير السعودي والداعية اﻹسلامي، المحسوب على التيار السلفي، قال فيه الأخير إنه تحدث إلى شيخ اﻷزهر عن "خطورة ما تقوم به إيران من محاولات ﻹقامة حسينيات في مصر، وطلب من السفير أن يكون للمملكة دور في دعم هذا التوجه".
وفي متابعة من السفير السعودي لمجهودات حسّان في ذلك الأمر، تشير البرقية إلى مؤتمر صحفي عقده الداعية السلفي ﻹطلاق مبادرة تحت رعاية اﻷزهر "لمواجهة المد الشيعي بنشر الكتب والدوريات الفقهية وعقد الندوات والمؤتمرات في النوادي والتجمعات الشبابية للتحذير من هذا الخطر الطائفي".
كما تكشف الوثائق اﻷخرى التي اطلع عليها «مدى مصر» عن قلق سعودي مستمر من أي تقارب بين إيران ومصر سواء كان على مستوى الحكومة المصرية أو المؤسسات الدينية وخصوصًا اﻷزهر.
ففي برقية أخرى يعود تاريخها إلى شهر يوليو 2008، ينقل سعود الفيصل إلى رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء السعودي قلق سفير المملكة في مصر من "محاولة إيرانية جديدة لاختراق اﻷزهر". تمثلت المحاولة اﻹيرانية في طلب قدمه رئيس بعثة المصالح اﻹيرانية في مصر إلى شيخ اﻷزهر بافتتاح معاهد أزهرية في إيران يلتحق خريجوها بجامعة اﻷزهر "كنواة لتعزيز التعاون العملي والثقافي والديني بين مصر وإيران".
تشير البرقية أيضًا إلى استحسان شيخ اﻷزهر وقتها- محمد سيد طنطاوي- الفكرة، بعد موافقته المبدأية المسبقة على قبول الطلاب الشيعة للدراسة في اﻷزهر. كما تشير في قلق إلى "عدد من الكتاب الذي أعلنوا هويتهم [الشيعية]" باﻹضافة إلى "اجتياح شيعي يتمثل في تغيير قبة الحسين وكسوة السيد البدوي والرفاعي من اللون اﻷخضر إلى اللون اﻷسود الذي يرتديه زعماء الشيعة".
كان الأزهر قد وافق عام 2007، في عهد طنطاوي، على قبول الطلاب الشيعة للدراسة في المعاهد الأزهرية وجامعة الأزهر، وقال طنطاوي وقتها إن "الأزهر يدرس لطلابه كل المذاهب الإسلامية، بما فيها الشيعية، حتى ولو كان بشكل أقل من مذاهب السنة، إلا أن هذا لا يمنع من قبول الطلاب الشيعة باعتبارهم مسلمين في المقام الأول، وما كان للأزهر أن يغلق أبوابه في وجه أي مسلم، ما دام مستوفيا للشروط اللازمة للقبول".
بعد عدة أشهر من البرقية السابقة، وفي ديسمبر 2008، أرسل عبدالله بن عبدالعزيز رئيس مجلس الوزراء السعودي ببرقية إلى ولي العهد السعودي ورئيس المجلس اﻷعلى للشئون اﻹسلامية، عُنونت بكلمة "سرية" في أعلاها أيضًا، ونقلت "تحفظًا" أبدته بعض الجهات اﻷمنية المصرية للسفير السعودي من "الحضور اﻹيراني المتكرر في مصر على مستويات متعددة". ترصد البرقية طلب إيران دعم مصر في الاقتراحات التي قدمتها للقمة اﻷفريقية التي ترأسها الرئيس المخلوع حسني مبارك بخصوص الشراكة اﻹيرانية مع أفريقيا.
كما تنقل البرقية أيضًا أن التخوف المصري منبعه تكرار زيارات باحثين إيرانيين للقاهرة، والدعم اﻹيراني غير المعلن لجهات بحثية وصوفية، كما نقلت نفس ما اعتبرته الوثيقة السابقة أعراض هذا التغلغل الشيعي في مصر من "تغيير كسوة قبة المساجد المهمة من اللون اﻷخضر إلى اللون اﻷسود".
كانت الدفعة الأولى من الوثائق، التي بدأ ويكيليكس نشرها يوم الجمعة الماضي، قد كشفت عن اهتمام المملكة بملف الشيعة في مصر، وهو ما ظهر عبر أكثر من وثيقة.
إذ زعمت إحدى الوثائق المنشورة على الموقع، والمرسلة من وزير الخارجية سعود الفيصل إلى رئيس الديوان الملكي، أن الإعلامي مصطفى بكري التقى السفير السعودي في القاهرة، أحمد القطان، وأخبره أن الحكومة الإيرانية بدأت في الاتصال بعدد من الإعلاميين المصريين في محاولة لاحتوائهم، وأنه يرى أن الرأي العام المصري لن يتجاوب معهم لكنه يقترح تدخلًا من المملكة للتصدي لذلك التحرك.
وقد أعرب بكري، بحسب الوثيقة، عن رغبته في تحويل صحيفته إلى إصدار يومي بدلا من أسبوعي، وتأسيس حزب سياسي، وإطلاق قناة فضائية تكون "صوتا قويا ضد الشيعة وتساند مواقف المملكة".
كانت واحدة من وثائق الدفعة الأولى، مُرسلة من رئاسة الاستخبارات السعودية إلى عدد من الجهات بالمملكة من بينها وزير الخارجية، وترصد "تحركات الشيعة في مصر"، قد زعمت أن "الطائفة الشيعية وجدت مساحة واسعة للانتشار بعد ثورة 25 يناير، وأن حالة الارتباك والاضطراب وغياب جهاز أمن الدولة ساعدها فى ذلك"، وقالت إن "التيار الشيعى اغتنم هذه الفرصة وضاعف من نشاطه ورفع سقف مطالبه".
من جهته، يرى الباحث عمرو عزت، مسئول برنامج حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن مفهوم "المد الشيعي" المتكرر في الوثائق مفهوم مبالغ فيه جدًا في مصر.
ويشير عزت خلال اتصال تليفوني مع «مدى مصر» إلى أن الحكومة السعودية تخشى ازدياد النفوذ اﻹيراني في المنطقة بسبب الكتلة الشيعية التي تعيش في شرق السعودية، والقريبة جدًا من مجتمعات شيعية أخرى تعادي النظام السعودي سياسيًا في العراق وإيران وسوريا ولبنان. لكنه يرى أن هناك تضخيمًا كبيرًا في علاقة الشيعة في دول متفرقة بإيران. ومثال على ذلك، بحسب عزت، أن مجموعة من الشيعة المصريين الذين قرروا المطالبة بحقوقهم في ممارسة شعائرهم ومعتقداتهم بعد الثورة، على خلاف سياسي كبير مع إيران وليسوا تابعًا لها كما يجري الترويج لهذا.
كانت ويكيليكس قد نشرت، ضمن المجموعة اﻷولى من الوثائق، برقية "سرية عاجلة" من وزير الخارجية سعود الفيصل إلى خادم الحرمين ورئيس مجلس الوزراء، تفيد بأن شيخ اﻷزهر قد نقل للسفير السعودي، خلال لقاء جمعهما في أغسطس 2010، قبل تاريخ البرقية بما يقرب من عامين، أن "اﻹيرانيين يضغطون للموافقة على عقد اجتماع للتقارب بين المذاهب" وأن شيخ اﻷزهر "لا يرغب في الانفراد باتخاذ قرار بهذا الشأن قبل التنسيق مع المملكة حياله".
وبعد هذا التاريخ، وفي سبتمبر 2011، استنكر شيخ الأزهر أحمد الطيب "المحاولات المحمومة لنشر مذهب الشيعة في بلاد السنة خاصة في مصر، وبجوار مآذن الأزهر قلعة أهل السنة والجماعة"، وخلال استقباله وفدًا شيعيًا يمثل مؤسسة الحكيم بلبنان وبعض الممثلين عن المجلس الأعلى العراقي، قال عن حالات سب الصحابة، وما وصفه بالمد الشيعي: "الأزهر إلى الآن يضبط نفسه حفاظًا على وحدة المسلمين؛ لكن إذا لم تتم السيطرة على هذه الحالة فستكون للأزهر خيارات فكرية أخرى".
بعدها بنحو ثلاثة أعوام، أبدى الطيب موافقته على عقد لقاء مشترك بين علماء السنة والشيعة، شريطة صدور فتاوى صريحة من المراجع الكبرى في إيران والعراق تُحرِّم بشكل قاطع سب الصحابة وأمهات المؤمنين، وتوقف محاولات نشر المذهب الشيعي في البلاد السنية.
وقتها، أكد الطيب مرة أخرى، خلال استقباله خضير الخزاعي، نائب رئيس جمهورية العراق حينذاك، أن الأزهر الشريف الذي يعبِّر عن أكثر من مليار سُنِّى يقف بالمرصاد ضد المد الشيعى، وأنه لن يسمح مطلقا بنشر المذهب الشيعى في بلاد أهل السنة.
بالنسبة لعزت، فهو يرى أنه لا يمكن التعامل مع الأزهر باعتباره كيانًا واحدًا ذو مرجعية فكرية واحدة. بل هو غابة من اﻷفكار والاتجاهات الدينية المتعددة، يقع على قمتها مشيخة اﻷزهر، التي تتميز بإمكانية التواؤم مع العديد من اﻷطراف السياسية باعتبار اهتمامها اﻷساسي هو الحفاظ على الاستقرار السياسي. لهذا، كما يشرح، تستمر مشيخة اﻷزهر في لعب دور سياسي، وتظهر كبديل مؤسسي يتم استدعاؤه في لحظات حاجة الدولة لمواجهة التيارات السياسية الدينية اﻷخرى والتضييق عليهم.
كان الطيب، وخلال حوار صحفي أجراه في أبريل 2010 في أعقاب توليه المشيخة خلفًا لمحمد سيد طنطاوي الذي توفى في مارس 2010، قد قال إن الأزهر ليس حزبًا أو جماعة سياسية حتى يعارض الدولة أو يؤيدها، وإنما هو في مكانة تعلو على ذلك. وقال إن الحزب الحاكم لم يطلب منه الاستقالة من عضوية المكتب السياسي للحزب الوطني إلا أن "الموضوع مطروح من أجل التفرغ للأزهر الشريف". وأوضح أن قرار تعيينه في هذا المكتب كان بقرار مباشر من الرئيس المصري حسني مبارك، وأضاف: "سأتفاهم مع السيد الرئيس لأن قرار ولي الأمر لا بد أن يحترم".
وفقًا لما يراه عزت، فإن دور اﻷزهر كجامعة إسلامية عريقة ومركز بحثي مهم يمثل مدخلًا للعديد من الطلاب والباحثين من كافة أنحاء العالم، بغض النظر عن تأثيره على الجمهور. وهو ما يراه السبب الرئيسي لاهتمام السعودية تاريخيًا باﻷزهر، ومحاولتها المساعدة في اﻹنفاق على المؤسسة العملاقة.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق