ليلة من ليالي الثورة الأولى قبل التنحي. باردة كعادة تلك الأيام من الشتاء، لكن دفئا غريبا يكتنف المكان ربما بفعل الزحام أو الحرارة الثورية، وربما بفعل الحركة الدائمة للجميع لتأمين المكان من البلطجية، وربما كان أثر قنابل الغاز المسيل للدموع في الهواء والأنوف يمنح الحرارة.
ميدان التحرير فيه عشرات الألاف عادة معظمهم معتصم يقضي أيامه ولياليه لا يغادر ويحتمي ببطانية وخيمة أو يستدفي بنار يشعلها مع زملاء ثورة ومعارف ميدان "هؤلاء يحتاجون تدوينة خاصة قريبا"، عموما الجميع تقريبا منهكون مرهقون متوترون لكن لديهم اصرارا عجيبا على عدم ترك المكان أو التخلي عن المبدأ الذي صمدوا من أجله أمام الرصاص والبلطجية أياما.
معظم المتواجدين ينتمون للطبقة الوسطى بعضهم موظفون أو حرفيون ينفقون من مرتباتهم البسيطة على أنفسهم أو أسرهم، وبينهم طلاب ينفق عليهم أهلهم، ومعهم أيضا عاطلون عن العمل بفعل البطالة.. معظمهم نفدت أموالهم ولم يبق في جيوبهم ما ينفقون. معظمهم يعانون نقصا في التغذية والنوم والمدخنين منهم لا يجدون ثمن السجائر. حالة غياب لعدد من مقومات الحياة اليومية الطبيعية سببها "تفليسة".
فكرة خطرت ببال شخص غير معروف وظل غير معروفا لأن كثيرون نقلوها عنه أو نفذوها مثله، ضمن مئات الافكار التي عرفها الميدان، الفكرة على بساطتها عبقرية بالفعل، على سهولتها وسذاجتها لكنها كفيلة بانهاء أزمة حقيقية.
قال لنفسه: وبعدين في الناس اللي مش معاها فلوس. هتاكل منين وتشرب منين؟ الأكل كتيير أه وولاد الحلال أكتر بيوزعو ليل نهار باصرار غريب وكميات كبيرة. لكن فيه ناس كتيير عفيفة لا تسمح لها كرامتها أن تأخذ طعاما لم تدفع ثمنه أو تجتهد لتحصله؟.
مكنش فيه كنتاكي لأنه ببساطة كان قافل وشبه مدمر، وكانت الوجبات في الأغلب فول وطعمية وكشري، ومكنش فيه دولارات ولا يوروهات طبعا وإلا كان الناس دي بقت أغنيا وصممت ألا يتنحى مبارك بتلك السرعة لتزيد الحصيلة.. ما علينا. موضوع كنتاكي واليوروهات دا دخل على التدوينة غصب عني. معلش.
المهم.. الحل كان على بساطته عبقريا: حمل صديقنا الثائر المجهول فجأة "كرتونة" صغيرة وبدأ يطوف بها في الميدان قائلا: معاك فلوس حط جزء منها في الكرتونة. مش معاك فلوس خد منها اللي يكفيك. وكله في حب مصر.
هكذا وبكل بساطة تحولت الكارتونة إلى وسيلة شعبية لسد حاجات المفلسين، ووسيلة أدمية ليمنح الموسرين الموجودين اخوانهم المعسرين المال دون أن يشعر هذا بفضل له أو ذاك بنظرة تجرح كرامته أو يعرض نفسه لكلمة تؤذيه.
انتشرت الفكرة سريعا لكنها لم تستمر طويلا، فالمخلوع ذهب إلى غير رجعة، وتوافدت الناس على الميدان، وبات من حق المعتصمين أن يعودوا إلى بيوتهم ليطمئنو على ذويهم وينعمو بنوم هادئ طويل وحمام دافئ منعش حرم منه 3 أسابيع متصلة.. ربما عادوا للميدان بعدها لكن "كارتونة" التحرير لم تعد مجددا.
مشهد من التحرير أيام الثورة الأولى يجسد الكثير من المعاني ويدلل على كرم وذكاء وبساطة واحترام هذا الشعب الذي سكت طويلا ثم ثار ليستعيد كرامته وحقه ممن سرقوه وظلموه وعذبوه وأفشلوه وصوروا للعالم أنهم أذلوه ودمروه ليكتشف الشعب ومعه العالم كله أن المصري كريم العنصرين لا يذل ولا يهان.
عاش كفاح الشعب المصري العظيم
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
مبدأيا...فكرة"""الكارتونة"""بسيطة جدا واعجبتنى رغم بساطتها كما اعجبنى طريقة واسلوب عرض الحكاية كتابيا حيث انه تناسب مع بساطة الفكرة ولم اجد اسلوبا""متفزلكا"""كما يقولون بالعامية....بقدر تقديرى لصاحب فكرة"""الكارتونة"""...يكون تقديرى لحضرتك استاذى"""سلامة"""قاص الحكاية...وان كنت ارجح مثل هذه الافكار فى الازمات الصعبة ولا ارجحها مع الوصول للسكون الى حد ما....لأن الطمع سيحاول ان يسيطر من جديد على النفوس المريضة....تحياتى اليك استاذى...وسلما قلمك ويمناك
ردحذفالقصة رائعة.. والاروع تحليلك يسلم قلمك يا فنان
ردحذفروح واخلاق التحرير
ردحذفوده اللى بيخلينى اقول ان الثوريين فى الميدان وخصوصا الاسبوع الاول حصل بينهم ترابط وتواد من غير ما يعرفوا بعض قبل كده
دايما لما حد ينتقد كلامى عن ضرورة استمرار الاعتصامات كنت برد وبقول " دول رفقاء الميدان اللى اتقاسمت معاهم السندوتش والبقسماته والبسكوته ودول اللى اعرفهم اكتر منك "
الحمد لله ان الثورة نجحت وخلتنا نفتكر الحاجات الحلوة دى وإلا كان زمانا فى المعتقل هههههههه