فى أعقاب الثورات تتاح الفرصة لتنفيذ بعض الأفكار التى لم تجد حظها فى عصر سابق، وهذا باختصار هو جوهر الحديث «الحالى» عن مشروع جامعة الدكتور زويل، وعادة فإن المتعلقين والمخلصين من رجال الدولة والحكم يحرصون على التعرف على أسباب عدم قبول المشروع فى الماضي، أما السياسيون الانتهازيون الذين يهمهم أن يظهروا بمظهر القادر على التغيير أو المروج له أو المرحب به فإنهم يحرصون على تنحية العقل جانبا حين يفكرون فى استدعاء المرفوض أو المتحفظ عليه.. ويبدو أن هذا هو جوهر السلوك «الحالى» فى مشروع جامعة الدكتور زويل.
فنحن حتى هذه اللحظة لانرى من هذا المشروع الذى ينتسب إلى هذا العالم الجليل إلا الأراضى المخصصة والمبانى المصادرة لصالح الجامعة، بل إن الأمر قد وصل إلى أن يوضع ماكيت جامعة أخرى أمام العالم الجليل ليشرح عليه فكرته لخمسة وزراء ورئيسهم لم يسأل أحدهم سؤالا مفيدا أو غير مفيد، ليس هذا فحسب، بل إننا نرى حديثا على شاشات التليفزيون المفتوحة لهذه اللقاءات العالية دون أن يحدثنا أحد عن جوهر هذا الذى يحدث، ودون أن تتكرم علينا الوزارة العصامية (نسبة إلى صاحبها) بأى قدر من الايضاح لهذا الذى شرعت فيه أو شرعت فى تشجيعه.
ومن العجيب أننا جميعا نعرف أن صديقنا العزيز وزير الإعلام السابق كان فى عهد مبارك بمثابة الصحفى الذى يتولى مهمة المقدم لزويل من خلال صالونات الأوبرا الثقافية، وقد بذل جهدا فائقا فى التعريف بالرجل وتقريبه من الشباب، ومن الانصاف للوزير أن نقول إن دور الصالون فى الترويج لزويل قد فاق دور أى صالون آخر بما فى ذلك الصالونات التى عملت فى الترويج للرئيس أو الوريث.
كذلك فإننا نعرف أن صديقنا الكريم رئيس الوزراء السابق كان رئيسا لجمعية عصر العلم التى كانت تتخذ من زويل أيقونة لها، وقد نجح رئيس الوزراء فى أن يضيف إلى أيقونة زويل قدرا لا بأس به من التقديس، التقديس الذى قابلة زويل بما لايمكن الحديث عنه على صفحات الصحف مهما كان عظيما، وهكذا فإن علاقة الرجلين (أى رئيس الوزراء ووزير الإعلام السابق) بزويل كان من المفروض أن تكفل لهما أن يرشدا المجتمع المصرى المعاصر إلى مدى ما يمكن أن يتحقق لمصر من مشروع زويل ومن جامعة زويل ومن زويل نفسه.. لكن هذا لم يحدث حتى الآن اكتفاء بمونولوج طويل أداه الدكتور زويل وبكلام عام وعائم كرره المسئولون الوزراء ولانقول: الوزراء المسئولون.
ومن الإنصاف مرة أخرى أن نذكر أن المسئولين السابقين (الرئيس والوزير) لم يورطا نفسيهما حتى هذه اللحظة فى التبشير بشيء، وكأنهما آثرا أن يكونا من دراويش زويل على أن يكونا من دراويش الوطن، وكأنهما آثرا مرة أخرى أن يكونا من نجوم حفل زويلى بدلا من أن يكونا أصحاب دعوة الحفل الذى غطت مصر نفقاتها من أصولها ومن مواردها المحدودة ومن لحمها الحي، ولانزال وسوف نظل نغطى تكاليف هذا الحفل الترفى الذى لانعرف له هدفا محددا.
ربما كان من المفيد أن نتساءل: هل يتحمل المجتمع المصرى المعاصر أن يكون ضحية حفلات ترفع شعار العلم بينما هى حفلات ذاتية جدا تقوم على نجم مدعو، ونجوم داعية، وجمهور ممول فحسب؟ هل يليق بمصر أن تكرر تجربة إنشاء مدن علمية متوازية بينما هى لم تشغل المدن التى بحوزتها على نحو يكفل الإفادة من الموارد البشرية المكدسة فيها؟ وقد قيل فيما مضى إن تأسيس مدينة مبارك العلمية كان تكرارا لا ضرورة له للمركز القومى للبحوث، وتكرر هذا همسا خوفا من اسم مبارك الذى رفع على المدينة وسرعان ما أثبتت الأيام أن الذين قالوا هذا لم يكونوا مدعين ولا ظالمين، هل ياترى نكرر الأمر مع زويل ونحذف اسمه بعد سنوات؟
ونعود لنسأل أنفسنا (لأن أحدا لن يجيبنا) ما جدوى المسارعة إلى إنشاء كيانات بحثية جديدا تستنزف الموارد المفترض توجيهها للمؤسسات القائمة حتى تؤدى وظيفتها؟.. ما جدوى إنشاء مركز بحوث وانفاق مليار على مبانيه بينما لن يتعدى تمويل الموازنات الأزمة للبحوث المفترض اجراؤها فيه مبلغا يكاد يقترب من المليون كما حدث من قبل؟!
ما الجدوى التى يمكن تصورها من الحديث عن إنشاء معهد جديد حتى لو كان صورة طبق الأصل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) الذى يعمل فيه عالمنا الكبير زويل وعشرون آخرون من الحاصلين على نوبل؟ ماجدوى هذا حتى لو كان فى يد الساحر عصام شرف تريليون دولار (أى ألف مليار أو مليون مليون) بينما لاتستطيع موازنات الوطن المتوقعة أن توفر لبحوث مثل هذا المعهد الجديد اكثر من مائة مليون جنيه فى العام؟
أذكر فى هذا المقام أنى طالبت منذ منتصف الثمانينيات بالتوقف عن بناء مستشفيات جديدة والتوجه نحو إعادة تأهيل المستشفيات القائمة بما يكفل للموجود والقائم دورا حقيقيا فى الخدمة الطبية، وها نحن اليوم نعانى من كثرة هذه المبانى التى أصر المسئولون على بنائها لما تجلبه لهم من أرباح خاصة إذا كانت تحاكى «الأهرام» فى صفاتها المعمارية بينما هى عاجزة عن تقديم أى علاج لأى مريض بسبب نقص الموازنات والاعتمادات المخصصة لها.
هل لابد لنا أن نكرر هذا السلوك حتى يكون عندنا هرم لزويل كما أن عندنا أهراما لخوفو وزوسر وخفرع ومنقرع، هل سأل رئيس الوزراء نفسه سؤالا يقول: ما هو المشروع المحدد الذى ينتوى عالمنا الكبير أن يقدم خبراته فيه؟ ولماذا لا يمكن أن تتم هذه الخبرات إلا من خلال مبنى جديد ومؤسسة جديدة وإنفاق جديد وحملة جديدة للتبرعات والتمويل.. إلخ... ولماذا أيضا يتم الاستيلاء على أصول جامعة النيل وتشريد طلابها؟ وقد عرضت هذه القضية بالتفصيل فى جريدة الأهرام لكن أحدا لم يهتم ولو لدقيقة واحدة، وكأن الوزراء الحاليين ينتظرون مصير أسلافهم.
ثم نأتى إلى الأهم من هذا، وهو لماذا هذا التسرع الصاروخى فى افتتاح مدارس للعلوم والرياضات للمتفوقين (فى إطار هذا المشروع) كى تقوم للأسف الشديد بدور المزرعة التى ينتقى منها عالمنا زويل ما يريده من بذور؟ ألا يعنى هذا بلغة البيولوجيا نوعا من الإخصاء أو التعقيم لغدة الموهبة فى الوطن.
أرجو أن يدلنى أى منصف فى هذا الوطن (أو خارجه) على أى دولة فى العالم تقبل على نفسها أن تنساق إلى الاستجابة لمثل هذا التوجه الشخصى لرئيس وزراء مؤقت (حتى وإن كان يعد نفسه لرياسة الجمهورية) ولوزير إعلام مؤقت (حتى وإن كان يعد نفسه لرياسة الوزارة) وهو لا يعدو أن يكون توجها مظهريا بحتا قادتهما إليه الظروف من غير ترتيب.
أرجو أن يدلنى أى منصف فى هذا الوطن (أو خارجه) على عالم دولى قبل على نفسه أن يحرم وطنه من تدفق نهر العلم فيه على هذا النحو الذى تؤدى إليه مثل هذه السياسات التى بدأ الدكتور زويل يشجعها ويتبناها بكل حسن نية.. بينما هى لا تقود إلا إلى ما هو ضد مصلحة الوطن.
أذكر أنى أشرت من قبل فى مقالات منشورة إلى أن ثورة 25 يناير قد أتاحت للجماهير أن تناقش الحديث عن حقيقة موقف نظام مبارك مما سمى جامعة زويل وهو الموقف الذى بدأ بترحيب سرعان ما انقلب إلى فتور وإن لم يبلغ الأمر مرحلة العداء.
وكان أهم ما يحدد قبول الموضوع والفتور تجاهه هو مدى تداخل نظام مبارك وإفادته من علاقة العالم المصرى الكبير بالولايات المتحدة، وبخاصة أنه كما نعرف مواطن أمريكى كامل المواطنة وكامل الأهلية بل إنه عين فى عهد أوباما مستشارا لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ويرتبط بهذا علاقته الوثيقة بإسرائيل، وهى دولة تحظى فى وجدان المصريين بمشاعر معروفة حتى وإن كانت مرتبطة مع مصر رسميا بمعاهدة سلام لاتكف هى عن انتهاكها من خلال الجواسيس ومن خلال إساءة معاملة العرب.. كما لا يكف بعض الاقطاب الفاسدين فى النظام المصرى السابق بأن ينسبوا إلى هذه المعاهدة بعض إجرامهم بينما المعاهدة بريئة من هذا الاجرام (قضية الغاز نموذجا) كذلك لايكف الحاقدون على انتصار مصر فى السبعينيات أن ينسبوا إلى المعاهدة بعض مشكلات مصر مع أن مثل هذه المشكلات لم ولن تنشأ عن معاهدة سلام.
ومن أعجب ما يمكن أن موضوع الدكتور أحمد زويل يمثل تجسيدا لموضوع العلاقة مع إسرائيل، فالذين يتحفظون على زويل، وعندهم حق بالطبع فى التحفظ، يذكرون (دون أن يرد عليهم أحد) أنه أقام فى إسرائيل وساعدها فى مشروعها الذى استهدف تحطيم القوى الدفاعية التى كانت تحمى العرب المجاهدين (أى حماس وحزب الله) من سطوة طيران إسرائيل وهكذا فإن زويل فى نظر هؤلاء (الذين لايتحدثون الآن كثيرا بسبب تحالفات لايعلم حدودها وطبيعتها ونتيجتها إلا الله) ينبغى أن ينظر إليه على أنه جزء مشتبك إلى حد كبير بطبيعة علاقاتنا مع العدو، ومن هم وراء العدو!! ولكن بعض رجال الصف الأول فى مجلس الوزراء المصرى الحالى يودون لو وجدوا من يضمن لهم قبولا اسرائيليا مؤكدا حتى يمكنهم الوصول إلى ما يحلمون به من رياسة مصر.
ومع إدراكى لما لا يمكن التصريح به فى هذا الموضوع فإنى أرى من واجبنا أن نفكر أولا فى الإفادة بتجربة ذلك العدو المرتبط معنا بمعاهدة سلام حين أراد أن يتعاون مع نفس العالم الكبير أى الدكتور زويل.
وهنا اقترح على أكبر المصريين من محبى زويل أن يكون تعاونه مع مصر على نفس نمط التعاون الذى تم مع اسرائيل، أى أن يتولى حل مشكلة ضخمة بالوسائل العلمية من خلال مؤسسة قائمة فى وقت محدد أو مفتوح، وبالطبع فإن العلم متصل الحلقات والفروع حتى إن زويل قادر بالعلم على أن يحل مشكلة انتشار مرض الكبد فى مصر أو انتاجية القمح أو اللحوم أو الطاقة المتجددة.
وبالطبع فإن زويل سوف يكون قادرا على هذا بحكم علاقاته وإمكاناته ونمط تفكيره العلمي.
أما أن نختزل القضية فى إنشاء جامعة جديدة تضاف إلى الجامعات القائمة أو الكيانات «البحوثية» المتواجدة فإن الأمر يمثل إهدارا للطاقة «الزويلية» والبشرية والمصرية مع تقليل أكيد من قيمة العالم والعلم والتعاون العلمى ذلك أن الجامعات كائنات حية لابد لها أن تأخذ حقها من النمو الطبيعى فى البيئة التى تنشأ فيها بعيدا عن دواعى السياسة والإعلام والإعلان والطاقات الإعلامية التى لاحدود لها.
بالطبع نحن نحتاج إلى جامعة عظيمة لكن الحق الذى لا مراء فيه أن الجامعة العظيمة لا تستورد، ولا تتكرس بزيارات مكوكية، ولا تدار من بعد بالريموت.
وبالطبع أكثر فإننا نعانى من مشكلات كبيرة يقدر الدكتور زويل على تقديم الحلول الذكية لها بل يقدر على حلها خلال شهور قليلة.
يشهد الله أنى أحب زويل العالم حبا لامثيل له، وأنى أحب كل من هم حوله ممن يحبهم من طراز وطبقة فاروق جويدة وإبراهيم المعلم وأحمد المسلمانى ومصطفى سليمان.. إلخ.. لكنى أحب مصر أيضا، وأحب أبناءها المتفوقين أيضا.
وهذا هو الحق الذى يخلو من التزويق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يسمح بنقل أو استخدام المواد المنشورة بشرط ذكر المصدر أي نوع من التعدي يعرض صاحبه للمسائلة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق